مرت الكثير من الحركات الإصلاحية بتحديات صعبة عاقت مسيرتها في تحقيق أهدافها الكبرى ومشاريعها الإصلاحية؛ ومن تلك العوائق ما يتعلق بقضية الزمن بأقسامه الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل. والملاحظة العامة التي تكاد تسيطر على جل أو كل الحركات الإصلاحية هي اتفاقها على توصيف الواقع المر للأمة وما أصابها من علل وأمراض، كما اتفق جزء معتبر منها على أن العلاج يكمن في ضرورة الرجوع إلى المنهج النبوي المتمثل في الكتاب والسنة. لكن واسطة عقد كل هذه الدعوات الإصلاحية هو الجواب على السؤال “كيف”؟
يتفرع عن هذا السؤال المشكل أسئلة فرعية لا حصر لها، شكَّلت تحدٍّ حقيقي في مسيرة ومشاريع كل الحركات الإصلاحية؛ منها سؤال “الزمان” ومنهج التعامل معه ومدى حضوره في هذه الرؤى والمشاريع الإصلاحية المتعددة.
لقد شكّل الرجوع إلى ماضي الأمة أزمة حقيقية بالنسبة لعدد من المصلحين والتوجهات الإصلاحية خاصة مع نهاية القرن التاسع عشر بل وإلى اليوم، حيث يعتبرون الرجوع إلى الماضي ثلمة في جبين الحركات الاصلاحية ودعاتها، وأن الرجوع إلى الماضي رجعية وتخلف يتعارض وأهدافهم الإصلاحية. وفي أحسن الأحوال دعا بعضهم إلى ضرورة إعادة قراءته قراءة جديدة، موظفين علومًا ومناهج جديدة من قبيل “الهرمنيوطيقا” و “السيميوليوجيا” وغيرها؛ على غرار ما قام به نصر حامد أبوزيد ومحمد أركون وغيرهما.
إن تعدد تيارات الإصلاح وتنوع مشاربها واختلاف فلسفاتها أدخل الأجيال المتعاقبة في دوامة من التضارب والارتباك أفقدها بوصلة سيرها وصعب عليها مهمة البحث عن الطريق القويم للإصلاح المنشود.
وفي المقابل نجد إصلاحيين آخرين يعتبرون الرجوع إلى تاريخ الأمة والعمل على جعله ركيزة وقلب الإصلاح الحقيقي. وبذلك غرق هذا التيار الإصلاحي في جبة التاريخ وتسربل بأحداثه معتقدًا أنه الطريق الأقرب والنموذج الأمثل لتلمس طريق الإصلاح والنهوض بأوضاع الأمة وشفائها من عللها التي شلّت كل أطرافها وقتلتها أو تكاد. وهذا منهج جزء كبير من التيار السلفي المعاصر.
ثم هناك فريق ثالث من المصلحين يعتقد أن الاشتغال بالحاضر والاهتمام بفقه الواقع إنما هو تشويه لحقيقة الإصلاح بل هو محاولة لتبرير العجز والتعمية عن الأخطاء التي ترتع فيها الأمة نتيجة ابتعادها عن الطريق الصحيح والمنهج القويم في الإصلاح. وقد قرأنا ذلك وسمعناه غير ما مرة من بعض أعلام السلفية المعاصرة.
ورغبة بالتأمل في سؤال الزمن وما خلقه من تحد حقيقي أمام كل المشاريع الإصلاحية، حاولت تلمس الجواب في مشروع حركة الخدمة عَلَّه يكون نموذجًا واقعيًّا نجح في تخط هذا العائق نجاحًا يصلح مادة للدرس والتحليل؛ في طريقة ومنهج تحد معيقات الإصلاح المنشود ومنها عائق الزمان.
في الوقت الذي اهتم فيه جل أو كل الحركات الإصلاحية بالأشياء الأساسية لتحقيق رؤاهم الإصلاحية، كان الاهتمام بالأشخاص متواضعًا، الشيء الذي شكل عائقا كبيرا أمام تنزيل تلك الرؤى على أرض الواقع
إن تناغم المشروع الإصلاحي مع أفكار وثقافات المجتمعات الأخرى التي حلّ بها أبناء حركة الخدمة ينطبق عليه قول مالك بن نبي رحمه الله تعالى حين بين “إن عالم الأفكار اسطوانة لها أنغامها الأساسية ونماذجها المثالية، وهي الأفكار المطبوعة؛ ولها أيضا توافقاتها الخاصة بالأفراد والأجيال: وهي الأفكار الموضوعة”.
إن تخبط الأمة في البحث عن الطريق ضيّع عليها وقتًا طويلا وعمرًا ثمينًا لا يوزن بميزان. بل إن ذلك خلق واقعًا من التيه وسط أجيال من أبناء الأمة شلّ طاقتهم وأدخلهم في عالم من اليأس بات التفكير معه في إصلاح حال الأمة ضرب من المحال؛ فنتج عن ذلك ورم جديد احتاجت الأمة معه إلى طبيب جديد. كما أن تعدد تيارات الإصلاح وتنوع مشاربها واختلاف فلسفاتها أدخل الأجيال المتعاقبة في دوامة من التضارب والارتباك أفقدها بوصلة سيرها وصعب عليها مهمة البحث عن الطريق القويم للإصلاح المنشود.
ففي الوقت الذي اهتم فيه جل أو كل الحركات الإصلاحية بالأشياء الأساسية لتحقيق رؤاهم الإصلاحية، كان الاهتمام بالأشخاص متواضعًا، الشيء الذي شكل عائقا كبيرا أمام تنزيل تلك الرؤى على أرض الواقع. وبذلك وبالرغم من وجود أبطال أفذاذ على هرم كل الحركات الإصلاحية إلا أنها بقيت عاجزة عن بلوغ أهدافها الكبرى. وانسجامًا مع رؤية مالك بن نبي رحمه الله تعالى، فإن التغيير والتحول يطرأ على عالم الأشخاص لا على عالم الأشياء.
لعل هذه واحدة من أسرار سنة التغيير التي تنبه إليها مهندس حركة الخدمة محمد فتح الله كولن، إنه التركيز على عالم الأشخاص بدل عالم الأشياء. يقول هذا المفكر الكبير وهو يتحدث عن إعداد الأشخاص:”سيكون هؤلاء ممثلين لحركات الإعمار والإحياء الآتية غدًا. وسيتحقق هذا التمثيل باستنباط نظريات حقوقية جديدة من مصدري الكتاب والسنة لمعالجة المستحدثات والتوقعات المستقبلية”. ولأن عالم الأشخاص عالم معقد وصعب فإن عامل الوقت والزمن يعد أمرًا محوريًّا وحاسمًا في إعداد الأشخاص القادرين والمؤهلين لاستيعاب وتنزيل الرؤية الإصلاحية المنشودة. لقد وضع هذا الرجل وبدقة متناهية، يده على المفتاح الأول من مفاتيح أبواب الإصلاح المتعددة المجالات والاتجاهات.
يقول الرجل: “الشخصية التي يحتاج إليها شعبنا أمسَّ الحاجة، هي شخصية الإنسان…الذي يهيمن على تصرفاته وأعماله التفكير في الأيام القادمة، في خططه وبرامجه، بقدر التفكير في ضرورات الحاضر.”
إن فلسفة الزمن في رؤية حركة الخدمة تتساوى فيها مشاعر الفرح كما الحزن لكن النتيجة واحدة، إنها حساسية الشعور باللحظة، حيث تتساوى حرارة الإحساس التي تختلط فيها دموع الفرح بدموع الحزن.
هذا الرجل حين وجه عنايته للاهتمام بالأشخاص كان على وعي كبير بمشكل الزمن. وما يتطلبه من وقت لإعداد رجال الإصلاح. فهو على قدر انشغاله بالتحديات التي تواجه حاضر الأمة، لا يغيب عنه مستقبلها وأيامها القادمة. وكأن الرجل بهذا الصنيع يستحضر من خلال رؤيته الفلسفية أن قيمة النجاح تكمن في النتيجة. وذلك لأن في منطق عصرنا الحالي لا يكفي إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي فحسب بل لابد من المستوى العملي؛ لأن الأفكار لا تكون صحيحة في الحقيقة إلا إذا ضمن النجاح.
هكذا يجمع فتح الله كولن في إعداده للأشخاص بين المسافات ويطير بأجنحة الزمن نحو المستقبل ليكون في الموعد مع مشروع الإصلاح. وبهذا الصنيع يقطع المسافات دون توقف أو تأثر بمعيقات الطريق وزحمته أو بأهله وما يصاحب كل ذلك من ضجيج ومضايقات. يقول مجليا هذه الرؤية:” قد يُراد للضوضاء والولولة أن تُثار من حولنا لنتأثر بها فنهتز، لكن في أعماقنا أنوار أفاضها علينا الإيمانُ والثقةُ بالحقّ فلا نهتز، ولا نضطرب لغبارٍ ودُخَانٍ يحيط بنا من كل جانب، ولا نستكين لظلم أو ظالم أو ظلام دَاهِم؛ بل نثق بالله، ونتحلى بالحكمة”.
عندما تقرأ أو تسمع مثل هذا الكلام، تفهم حينها كيف يطوي هذا الرجل المسافات؛ يسير بتؤدة والناس من حوله تجري، غير آبه بما ولا بمن حوله مترفّعًا عن انشغاله بالرد على منتقديه أو مواجهة من نصبوا أنفسهم خصوما له. همّه الوحيد مواصلة المسير نحو المستقبل؛ معتبرا بالأيام التي جعلها الله تعالى دولا بين الناس، آخذا من الماضي دروسه ومن الحاضر فرصه التي قد لا تتكرر، فتأمل قوله:”وكلُّ يومٍ جديد من الأيام الراهنة وكلّ ما يجدُّ فيه من أوجه العناية -أرواحنا قربان لما وراءها من قدرة الدّيان! – يبدو وكأنه بجماله، ونفاسته وجاذبيته يُنقينا ويطهرنا من ضبابٍ ودخانٍ متراكم من عدة قرون يلفّنا نحن والدنيا بأسرها؛ ينقينا ويسمو بنا جميعا وبكل مؤمن إلى عالمٍ فيه قصور الجنان. إنّنا لا نأبهُ بالأحقاد المسعورة والبغضاء وغليان الغيظ عن أيماننا وشمائلنا، حتى إننا نرى ما يُرعِب الناس جميعًا ويورِث القنوط في القلوب الضعيفة من زوابع وأعاصير وعواصف ثلجية ورعدية عاتية نراها أحداثًا من جملة “الأحوال العادية” العابرة التي تمر من تحت أقدامنا دون أن تمس ولو شعرة منَّا، ونواصل المسير باتجاه أيام مشرقة نتمثّلها في أرواحنا دائمًا ..”
إن واحدة من أسرار سنة التغيير التي تنبه إليها مهندس حركة الخدمة محمد فتح الله كولن، هو التركيز على عالم الأشخاص بدل عالم الأشياء.
العجيب أن فلسفة الخدمة تجاوزت عائق العناية بالزمن إلى بعد آخر من أبعاده حتى أصبحت تتلذذ بكل لحظة من لحظاته وتستمتع بكل نفس من أنفاسه الثمينة؛ ذلك ما يفوح من كلام محمد فتح الله وهو يتفن في رسم لوحة مستقبل الإصلاح بأيادي أبناء حركة الخدمة من خلال قوله:”إن الأيام والساعات والدقائق العذبة الفياضة بمشاعر مرهونة بالزمان تَعِدُ الإنسانَ بلحظات سعيدة لا توصف، بل إن كل جزء يمر من ضروب الأزمنة هذه تراه القلوبُ الوفية مُفعمًا مزيَّنًا تشعر الروح فيه بمتعة أعالي الجنة؛ حتى إن القلب الوضّاء الذي يطالع الوجود والحوادث بمثل هذه المتعة يستطيع أن يجعل ما يحوم حوله من ضوضاء صاخبة، وفِعال شديدة الصلف والجلافة لينةً كالحرير، ويمنحها صفاؤه النفسي تمييزًا نورانيًّا؛ فتفيض بالبسمات على كلّ مكانٍ عَبَرَ منه، فتصبح وكأنها لم ترَ فيه شيئًا سلبيًّا ألبتة، وتُلوّح لمن يزمجرون حقدًا وغيظًا وكرهًا بإشارات تهديهم إلى أفق الإنسانية”.
وأنا أستمتع بالتأمل في عمق وحلاوة هذا الكلام، أشعر وكأن عامل الزمن بات واحدا من الخيوط الرفيعة الناظمة لمشروع الإصلاح في رؤية هذه الحركة. وبغض النظر عن الثقة الكبيرة التي يتحدث بها هذا الرجل فإنه يرسم الطريق لأربابه ويرتب لهم الأهداف بل الأحاسيس والمشاعر في انسجام مغزول بلحظات الزمن وعبر فصول السنة.” والحقُّ أنَّ أربابَ هذا المستوى يشعرون بحيويةِ الحياةِ ونضارتِها من جديدٍ في كلِّ يوم؛ والحياة مهيّأة للمفاجآت ولما هو معتاد على السواء، فتتولّد البسمات من الدموع، والملذّات من الآلام، والمتع من الهموم والأحزان؛ وعندما يحدث هذا غالبًا ما يُطلق الصيفُ كما الربيع صيحاتِ الانبعاث في أفق المؤمن، ويضفي الخريف والشتاء على الغروب صبغة الشروق ببشرى جديدة من البعث بعد الموت، وتتعاقب المواسم بعضها إثر بعض بألوان من بشائر السعادة، ففي هذا الجو تبدو الأوقات كلها وكأنها تجيش فرحًا وسرورًا.”
فلسفة الزمن في رؤية حركة الخدمة تتساوى فيها مشاعر الفرح كما الحزن لكن النتيجة واحدة، إنها حساسية الشعور باللحظة، حيث تتساوى حرارة الإحساس التي تختلط فيها دموع الفرح بدموع الحزن لتعبر عن لحظات في الزمن رهيبة لا تنسى؛ لخص التعبير عنها مهندس الحركة ورائدها بقوله:”شعارنا في هذا المضمار النفيرُ والإقدام، ومصدر قوّتنا الإيمان والحقيقة…” يتبع.