نوزاد صواش: أستاذي إذا انتقلنا إلى ملف التعليم فنحن الآن أمام ظاهرة مختلفة لعلك سمعتها من بعض الأفارقة عندما حدثونا عن مدارس الخدمة هناك، قالوا: سابقًا جاء التجار المسلمون إلى هذه الديار فتعلمنا منهم الخير، لكن في هذه الحالة وفي هذه الموجة نحن أمام شيء مختلف، يأتي معلمون ويأتي معهم التجار، فيمتزج العلم مع التجارة، فهل نحن أمام ظاهرة جديدة مختلفة في هذه المرة؟
إدريس الكنبوري: نعم، لقد أدركَ الرعيل الأول من المصلحين المسلمين أهمية التعليم بمن فيهم أيضًا الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، جميعهم تحدثوا عن التعليم، لأن التعليم هو إنتاج إنسان على المدى المتوسط والبعيد؛ عندما تُوَفِّر إمكانيات معينة للإنسان أنت تضمن على مستوى يوم أو يومين سنة أو سنتين وتضمنه وحده، لكن عندما تُهيئ تعليمًا قويًّا فأنت تهيئ أمة على المستوى المتوسط والبعيد يعني تبني حضارة.
نوزاد صواش: تصنع المستقبل
إدريس الكنبوري: نعم تصنع المستقبل وهذا ما لاحظه الأولون، ولذلك ركَّز المشروع الذي جاء به الأستاذ كولن على أهمية هذه المسألة، ونحن نلاحظ أن الدول الإسلامية والعربية في بداية حركات الاستقلال -بسبب هيمنة الإيديولوجيات آنذاك وأن الفكر الإصلاحي ما زال طريًّا- كانت مقتنعة بأن التعليم مهم جدًّا، الدليل على ذلك هو أن مجموعة من الوزارات “بما فيها وزارتنا نحن في المغرب” كانت تسمى وزارة التربية والتعليم، بمعنى أن التعليم لا يمكن أن يكون منفصلاً عن التربية، فيما بعد تمَّ التخلي في العالم العربي والإسلامي عن قضية التربية، فُوِّضت قضية التربية إلى التلفزيون وإلى الشارع وإلى الدعاية الأجنبية إلى آخره، وبقي التعليم الذي يستهدف أدمغة الناس فقط. لكن حركة الخدمة أدركت هذا الخلل، وأنه من دون تربية لا يمكن أن يكون هناك شخص مُربَّى على المستوى القلبي وعلى المستوى النفساني، وأن المعرفة العقلية لا يمكن أن تؤدي إلى أي نتيجة. لأن الحامل الذي يحمل هذا المحمول فيه خلل ومتهالك، لا تهم الإفرازات العلمية ولا الأفكار إذا لم يكن الإنسان سويًّا لديه قيم حقيقية ويعرف ماذا يريد من خلال العملية التعليمية.
نوزاد صواش: إذًا تم َّ تناول الإنسان ككلٍّ عقلاً وقلبًا
إدريس الكنبوري: نعم المشروع الذي جاء به الأستاذ كولن يؤكد على هذه الروابط المشتركة ما بين التعليم والتربية؛ فالتعليم يؤدي إلى التربية، والتربية تؤدي إلى بناء التعليم، وهؤلاء الذين تربوا في مدارس الخدمة وفي مشروع الخدمة تعلموا وتربَّوا، وبتربيتهم الآن يبنون مؤسسات تعليمية في البلدان الأسيوية وفي البلدان الأفريقية، وغيرها من بلدان العالم.
نوزاد صواش: يعني حلقة صالحة ولَّادة.
إدريس الكنبوري: حلقة صالحة من الدورة الحضارية العظيمة الممتدة على مستوى الزمن.
نوازد صواش: أستاذي عفوًا نحن رأينا تجارًا أصلاً نشأوا في هذه المدارس، ورأينا مدرسين أصلاً هم خِرِّيجو هذه المدارس، ورأينا خبراء من المهندسين والأطباء من خريجي هذه المدارس، فهذه مخرجات، ورأينا كيف أنهم يتحركون في المجتمع ويبنون الحياة وينشرون هذا الخير، لكن البعض قد يقول سعيُ حركة الخدمة لبناء الإنسان في تركيا قد أفهمه، لكن هذا الانفتاح على العالم لبناء مدارس في كل أنحاء العالم كيف تُقَيِّمه؟ يعني ما الدافع إلى ذلك؟ وما الأفق الذي تبتغيه الخدمة؟ هل هناك همٌّ أكبر من همِّ تركيا؟
إدريس الكنبوري: صحيح أنا زرت إسطنبول في السنة الماضية ووقفت على بعض مشروعات الخدمة، لكن الجديد هذه المرة أنني أدركت أن مشروع الحركة ليس تركيًّا فقط بل يتجاوز تركيا، كانت الفكرة السائدة عند كثيرين هو أن هذا المشروع تركي لا يتجاوز الحدود، لكن اكتشفنا اليوم وأمس في لقاءات مع مجموعة من الأفراد في الحركة أناسًا من الخدمة يستهدفون المناطق الوعرة من ناحية، ويستهدفون المناطق المنكوبة من ناحية ثانية، بما في ذلك المناطق التي تسودها حروب أهلية، يعني يُجازفون ويُخاطرون بأنفسهم، ويستهدفون المناطق القاحلة التي لا تملك شيئًا.
نوزاد صواش: إذن أنت تتحدث عن المجازفة؟
إدريس الكنبوري: طبعًا هي مجازفة، فهم أشخاص أصحاب رسالة ولديهم همٌّ، وهل يمكن أن تُسمي الذهاب إلى منطقة فيها حروب أهلية بغير حماية وبغير حصانة إلا مجازفة، إن هذه المغامرات لا يمكن أن يُقدم عليها إلا من لديه قضية بالفعل.
نوزاد صواش: الآن اليمن فيه مشاكل وفيه حرب أهلية، لكن مدارس الخدمة موجودة هناك، المدارس في تعز تعمل إلى الآن، والأخوة من المدرسين في عدن وفي صنعاء لازالوا هناك، وكذلك الحال في العراق أيام حرب العراق، المدرسون بقوا هناك فبينما ترك الناس العراق هم بقوا هناك.
إدريس الكنبوري: صحيح أمس واليوم في الحقيقة نحن استمعنا إلى قصص مثيرة ومحزنة جدًّا، الناس تسير وسط الكوارث بكل صراحة، أمس سمعنا أمورًا عن البوسنة أناس خاطروا بأنفسهم أيام الحروب، وسمعنا اليوم عن إفريقيا الوسطى، وسمعنا عن بلدان إفريقية أخرى فيها حروب أهلية، سمعنا أيضًا عن مالي، إذن هؤلاء الناس رجال مخاطرة، هم يُشبهون متسلقي الجبال بكل صراحة، فهذه نماذج تستحق أن نتأمل فيها ونقف طويلاً عندها، أناس مقتنعون بقضيتهم، ونحن لا نستطيع استيعاب تضحياتهم، لأنه ليس من سمع كمن رأى.
نوزاد صواش: يبدو أستاذي أن هناك قيمًا لا يمكن أن تفسرها بالمنطق البراجماتي، ينبغي أن تفسرها بطرق أخرى، مثلاً الإخوة في أربيل أيام حرب الخليج حدثونا أنه شاع خبر أنه سيُرمى أسلحة كيماوية في أربيل، يقولون ترك كل الناس المدينة، وجلس مدرسو الخدمة يفكرون ماذا يفعلون؟ فقالوا: لو خرجنا لن نستطيع العودة مرة أخرى إلى هنا، فأخذوا بعض الاحتياطات في المدرسة، وجاءوا بالأولاد والسيدات وجلسوا في المدرسة ينتظرون قدرهم، قائلين هذا وطننا فإن كنا سنموت فلنمت هنا.
ثم يقول الأخوة لم يُرم سلاح كيماوي، فعاد الناس فوجدوهم هناك، بعد ذلك أقبل أهل كردستان العراق عليهم حكومة وشعبًا، وقالوا فيما بعد: واللهِ أنتم لم تتركونا في أوقات الشدة فكيف نترككم نحن في وقت الرخاء؟ يعني الوفاء للشعوب أوقات الشدة، أظن أن هذه نقطة في غاية الأهمية، وأعتقد أن هذه القصة نفسها ستسمعها في كل بلدٍ عاش معاناة فوجد هؤلاء الأبطال عندهم في تلك الأوقات.
إدريس الكنبوري: كلامكم ألهمني بعض المقارنة مع بعض رجال التصوف أو المنتسبين إلى التصوف، كنا نسمع في البداية والبعض حتى الآن يعتقد أن حركة الأستاذ كولن هي حركة صوفية، والإنسان عندما يتبادر إلى ذهنه هذا المصطلح مصطلح التصوف، يُفكر في التكايا والزوايا والخمول والمشيخة إلى آخره، لكن الحركة ليست حركة صوفية، هي حركة تربية وبناء حضاري، هذه الأمور التي نتحدث عنها في بعض البلدان الموبوءة والمأزومة هي نوع من الكرامات، هي كرامات تليق بمشروع حضاري يبني.
في التصوف بعض الناس يُصدِّعون عقولنا بكرامات من نوع أن الرشاق (الشيخ) يطير فوق الماء، من دون أن يكون وراء هذا المشروع أو هذا الشيخ أو هذه الزاوية مشروع حضاري، لكن هذه كرامات حقيقية فعلاً، ناس يبنون مدرسة لأطفال لا يجدون قوت يومهم، ويبنون مستشفيات إلى آخره، ويعتصمون في أماكنهم ويرابطون بالاصطلاح الصوفي، فهذه هي الكرامات المعاصرة. إذًا نحن تحدثنا عن مفهوم الجهاد وعن مفهوم الهجرة والآن عن مفهوم الكرامة أيضًا، مفهوم الكرامة يجب أن يخرج من الطقوس ومن الدجل والخرافة والشعوذة إلى الحقيقة المتحركة على مستوى الأرض.
نوزاد صواش: يعني أستاذي هل يمكن أن نقول إن هؤلاء الأبطال الذين هاجروا إلى كل مكان في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، شرق العالم وغربه، إفريقيا، آسيا، أوروبا، والآن إلى أمريكا والشرق الأقصى وأستراليا، كان دافعهم ومُحرِّكهم هو شعورهم بمعاناة الإنسان، ومحاولة تَمثُّلهم لتلك المعاناة التي كان يشعر بها النبي صلى الله عليه وسلم، هل هؤلاء الفرسان يشعرون بمسؤولية كونية، وإلا فماذا يفعل هؤلاء في النيجر في إفريقيا الوسطى وفي مدغشقر. ذكر لنا قبل أيام بعضُ التجار من مدينة أدرنه أنهم بدأوا يبحثون في الخريطة عن بلد لم يذهب إليه أحد من الخدمة ليفتحوا فيها مدارس، قالوا: فوجدنا جزيرة صغيرة بالقرب من مدغشقر لا تبدو في الخريطة اسمها موريشيوس، قالوا: ركبنا لنكون نحن السباقين إلى تلك الجزيرة فنؤسس شيئًا، دولة صغيرة تعداد سُكَّانها حوالي مئة ألف فوجدنا -يقول هذا الأخ- أن الأخوة أسسوا مدرسة هناك ويستقبلوننا في المطار. السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ما هو الهم الذي يحمله هؤلاء ويدفعهم للهجرة إلى أي كل مكان في العالم، كيف تفسرون ذلك؟
إدريس الكنبوري: أستاذي هذا المشروع يتجاوز الكلمات بكل صراحة، يعني أنت عندما تجد دولة بكل صولجانها وبكل مؤسساتها لا تستطيع أن تقوم حتى بخمس هذه المشروعات وتجد حركة تقوم بها، هذا شيء أولاً يسترعي التفكير، وفي ذات الوقت يدعو إلى الشعور بالألم، 22 دولة عربية وأكثر من 60 دولة إسلامية في منظمة المؤتمر الإسلامي لا تستطيع أن تُقيم مشروعًا جماعيًّا أو فرديًّا يُساعد في كفكفة دموع الآخرين وإطعام الجائعين منهم وإنقاذ من تتعرض حياتهم للخطر، أحيانًا يحز في نفوسنا بكل صراحة أننا نرى ممثلين وممثلات أمريكيين تتجلَّى فيهم الإنسانية الراقية، التي تدفعهم للذهاب إلى الأماكن المنكوبة ومساعدة أهلها، وعندما يعودون يلفتون أنظار العالم إلى تلك المآسي من خلال استضافتهم في قنوات التلفزيون التي يتحدثون فيها باكين متألمين عن تجاربهم الإنسانية في مساعدة أصحاب الحاجات، ولا يملك المرء أمام ذلك إلا لوم أنفسنا كمسلمين، كيف نكون أقل غيرة على الإنسانية منهم، إن هذا الطرح مهم للغاية. وأنا أعتقد أن المسألة الرئيسية فيما قلتم تعود بالدرجة الأولى إلى الفكر الذي وضعه الأستاذ كولن، هؤلاء الأفراد يتحركون حول مشروع ولكنه ليس أيَّ مشروع، بل هو مشروع بُني حول فكرة، والأستاذ كولن كما قرأنا في كتبه يرُكِّز بالدرجة الأولى على الإنسان في هذا المشروع، ويعمل على أنسنة الإسلام، أي أن يصبح الإسلام فعلاً دين الإنسانية، أن يصل إلى منتهى ما وصلت إليه الإنسانية حتى لو كان ذلك في جزيرة أو لو كان في أي مكان آخر، يعني حاول أن يعطي الأستاذ كولن لهذا البعد الإنساني مفهومه الحرفي الحقيقي، كما أنه لا بد وأن يكون لهذا المشروع شفرة أو كود يجب فكُّه.
نوزاد صواش: كيف سنفكُّه؟
إدريس الكنبوري: أنا أعتقد أن فك شفرة أو كود هذا المشروع يكمن في التفكير فيه من منطلق القيم التي تربى عليها المسلمون، والتي يمكن أن نسميها القيم الصامتة، هي قيم موجودة في تراثنا الإسلامي لكنها قيم صامتة نقرأها ونحن نشعر بالخشوع ثم نعتبرها تاريخًا ونطوي صفحتها ونمضي، أما مشروع الأستاذ كولن فقد وقف عند هذه القيم الصامتة، وحاول أن يُنْطِقها، حاول أن يقول بأن هذه القيم يمكن إنطاقها من جديد، وعندما نقف عند أمور في حياة الصحابة أو أمور في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة بعض الصالحين نتساءل، هل هذه القيم خلقت لكي تموت؟ وهل هي قاصرة على هؤلاء الرجال، هل هؤلاء الرجال كانت فيهم كروموزومات معينة لا يمكن أن تكون في أشخاص آخرين؟ هل كانوا يعيشون في أطر اجتماعية مختلفة عنا؟ وعندما تتبين لنا الحقائق نوقن أن هذه القيم يمكن بعثها من جديد، وأن المطلوب هو أن يكون هناك رجل في مستوى الأستاذ كولن وأن تكون هناك نفوس متقبلة لهذا المشروع مثلما عليه الآن أبناء الخدمة.