محمد فتح الله كولن يرسم بألوان الحب، بأشعة النور، لوحة “النور الخالد” في حب “محمد.. مفخرة الإنسانية”. سحرني العنوان وسحبني إليه.. والكتاب -يقولون – يُقرأ من عنوانه.
“النور الخالد” اختزال عميق لمئات وآلاف الجمل التي يمكن أن تقال، قالها هذا العنوان، وفقط بكلمتين اثنتين ليس لهما ثالث.
وعن “محمد.. مفخرة الإنسانية” يمتد النور، ليخترق الزمان ويخترق المكان، ويعلو ويعلو مرتفعًا بالإنسان إلى فضاء الأكوان.. ولو لم يكن “محمدًا” لما كنّا نحن نفتخر به وننتسب، وتفخر به كل الإنسانية. صفحات خالدات من سيرةٍ رائدةٍ، ومن مسيرةٍ متجددةٍ، لا يزال نبعها ثرًّا غزيرًا وكوثرًا سلسبيلاً.. يشرب منه العطشى، ويتوارد عليه الدلاءُ والمنقطعون.
منذ مطلع النورالأول وقافلة النور تمضي بركبها، تضع بصمتها، وتحفرُ عنوانها في ذاكرة الراحلين والآتين.. منذ مطلع النور الأول.. ومواكب المحبين تترى موكبًا إثر موكب، كلهم يريدُ أن يغسل قلبه وروحه بنور النبوة ومصباح الرسالة.. وبالتماس القرب من الحبيب. كلهم يطلب القرب ويرجوه، وليس كلهم من يتحقق طلبه ويُلبى رجاؤه؛ (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(فصلت:35).
وهذا الطفل الجميل الضاحك -كاسمه- الحزين الباكي بفعله وسلوكه وسائر حياته.. زاحم الكبار “على الحوض” مذ لامست جبهته الطاهرة التراب وهو ما يزال زهرةً لم تتفتح بعدُ في الخامسة من عمره، ولم ينتشر شذاها في العالمين بعدُ، ثم زاحمهم بفتوّته وشبابه، ثم في شيخوخته وشيبته زاحمهم، يسعى للوصول، يحاول التماس القرب من مصدر النور في منبعه الأول.
“ولكن ما بالي -يتحدث محمد فتح الله كولن- أشيرُ إليكم، أو أعنيكم؟ ما بالي أنا؟ هل استطعت أن أشرح جوانب عظمته كما يجب، وأكشف معالم شخصيته كما ينبغي؟
أنا الذي أضعُ جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري، وأنا الذي أدَّعي أنني وضعت الطوق على عنقي لكي أكون قطميرًا له، هل استطعت أن أشعركم بما يجيش في صدري من عظمة النبي صلى الله عليه وسلم كما يليقُ بجوانب هذه العظمة؟ إنني أسائل نفسي، وأسائل جميع الذين يتصدّون للتبليغ والدعوة، هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبه؛ حب سيد السادات، حبًّا تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته صلى الله عليه وسلم؟”.
هو محمد فتح الله كولن؛ الساعي للوصول، الطالب للقرب، لا يهمه شيء حتى لو صار “قطميرًا” -وحاشاه فقدره عالٍ ومقامه رفيع- والقطميرُ هو سم كلب أصحاب الكهف في القصة القرآنية الرائعة التي وردت في ذات سورة الكهف.
يضيف محمد فتح الله كولن في تقديم أوراق اعتماده، بين يدي سيد السادات، صاحب العظمة، العبد الرسول لا الملك الرسول، بقوله: “كلا! فلو عرفته البشرية حق المعرفة، وفهمته حق الفهم، لهامت به حبًّا ووَجْدًا.. ولو تغشت الأرواح ذكراه الجميلة، لثارت أشواقها وفاضت عيونها بالدموع، ولاقشعرّ جلدها وهي تخطو إلى عالمه؛ عالم النبوة الطاهرة، ولألقت نفسها للريح كي تشعل جذوة قلوبها المتقدة بحبه، بعدما صارت رمادًا، فتذروها الريح نحوه صلى الله عليه وسلم”.
إن كتاب “النور الخالد” بصفحاته الـ”757″، وبأقسامه الـ”5″، ليس كتابًا يقرأ. إنه روح حيّة في الأرواح تسري، ليس كتاب “سيرة” مما يخطه المؤرخون والعلماء في سيرة المصطفى تتبعًا لمسارات الأحداث، ومنعطفات التواريخ، رغم أنه في السيرة يمضي.. ويحكي.. لكنه من ذوب الفؤاد يرسم خطوطه، ومن مجرى الدموع يحفر مساربه.. لم يُكتب بالقلم هذا الكتاب.. أحسبه كذلك.
الكتابة، بالدموع هنا، تبدو واضحة جلية في كل صفحة، بل وفي كل جملة وكلمة فيه. وقد لمستُ هذا الأثر، متأكدًا منه بشخصي الضعيف. إذ إنني قرأته بدموعي المنسكبة لا ببصري، ربي يعلم.
فإن ما يكتب بالدموع لا يُقرأ إلا بالدموع، وما يخرج من القلوب حتمًا ولزمًا يصل القلوب.
إنه مما لا شك فيه ولا ريب، أن التصدي لكتابة السيرة النبوية تكليف شاق ومرهق.. لا أعني الكتابة التقليدية الجافة التي تعتمد النقولات والمصادر، وتبالغ في حشو الكلام وتكثير الصفحات.. إن التشبع بروح السيرة وصاحب السيرة ومنهج السيرة، تجعلها تنتقل من موقع النقل إلى لحظة الفعل.. من الغياب واستحضار التاريخ البعيد، إلى الحضور الروحي والتواجد الوجداني الآني اللحظي.. ومن الكتابة كطرف محايد إلى المشاركة والفاعلية والتفاعل.
إن السيرة النبوية ليست أوراق تدبج بالكلام الفارغ أو الملآن ويتم فيها حشر النصوص وتكرارها، واستحضار المنعطات التاريخية، ولو كان كذلك لاكتفينا بما وضعه الأوائل في التاريخ والسيرة كابن كثير في “البداية والنهاية”، وكالطبري في “تاريخ الأمم والملوك”، وابن الأثير في “الكامل في التاريخ”، وابن هشام في “السيرة النبوية”.
السيرة النبوية مسيرة تتجدد، وتاريخ يحمل صفة الحضور الأزلي عبر الأزمان الثلاثة؛ الماضي الحاضر والمستقبل، تاريخ الأبعاد الثلاثة. السيرة النبوية كتاب مفتوح ولا ينغلقُ أبدًا ويستحيل، بحره عميق، وسره دقيق، وعطاءاته متدفقة. ليس فيه سطر أخير أو نقطة نهاية، وتلك إحدى معجزات هذه السيرة المباركة.
فسيد السادات ومفخرة الإنسانية هو بشرًا رسولاً، هو إنسان لكنه نبي، هو أرضي لكنه سماوي، وهو العظيم المتواضع.
إن كتاب “النور الخالد” في ذات السياق يأتي ينقل روح السيرة إلى أرواحنا، أو هو ينقل أرواحنا إلى روح السيرة، فنجدنا نلتحم معًا في ملحمة هذه السيرة.
إن محمد فتح الله كولن يعيش بروحه وكيانه، بأحاسيسه وبمشاعره، مواقف السيرة ومواقعها.. اُنظره وهو يصور الحضور في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم قريبًا من قبره الشريف وكأنه يحدثه، حديث الشهادة لا الغيب: أهلاً بك وسهلاً ومرحبًا لدرجة تشعرني -يقول كولن- إنني سأقابله بعد خطوة واحدة.
إن أهم ملمح نلمحه ونحن نقرأ هذا السفر الرائع، أنه يندمج ويندغم روح كاتبه، بروح السيرة ذاتها، لا ينفصلان.
تجاوز به كاتبه محمد فتح الله كولن الطريقة الاعتيادية التي اعتادها المؤرخون كي ينفذ إلى روح التاريخ، ويصطفي منه مشاهد وشهادات، ثم ينفخ فيه من روحه، فتصير روحًا -بإذن الله- عصرية جديدة، تقرأ المشهد الحالي بعيون الماضي، وتعالج الزمن القديم بروح الجديد والمتجدد.
“إننا مفتونون -الكلام لمحمد فتح الله كولن- بالمستقبل الذي سيولدُ من رحم الغيب، لكننا لن نجد سوى نوره صلى الله عليه وسلم، فإذا انطفأ هذا النور فستصبح الحياة ظلمة أبدية”.
وأزعم أن كل صفحة من النور الخالد هي برنامج عمل، ومشروع تغيير وبناء، ومخطط تنفيذ وتطبيق لواقعنا الحالي لزمننا المعاصر.
وصاحب الكتاب هو صانع حدث، هو قائد ركب، وهو رائد مسيرة قبل أن يكون مؤلف سيرة انقطع لها، وذات المادة المضمومة بين دفتي الكتاب هي في الأساس سلسلة من الخطب والمحاضرات، وتجربته التي صنعها على أرض الواقع، وبعثها تجارب حيةً غطت مساحات واسعة من كرتنا الأرضية وبقاراتها الخمس، لتعطي التأكيد أن السيرة النبوية ليست تلاوة موالد وإحراق بخور، وليست تهويمات أو ترنيمات، وتطويح بالرؤوس، ومن ثم غيبوبةٌ عن الحياة.
إن النور الخالد أعتبره كتاب فتح؛ حمل بشارات وإشارات ودلائل وعلامات على أن الزمن الآتي هو زمن الفتح المبين؛ زمن “محمد.. مفخرة الإنسانية”.. إنه حُداء المستقبل الذي يؤكد -رغم كل ما ننظره ونراه ونحياه- من ظروف وملابسات غاية في السوداوية والقتامة، يؤكد أن الإسلام قادم قادم قادم.
وهنا تحديدًا، يستعيد كولن مما تداعى إلى خاطره مقولة شاهد القرن العشرين، الإمام المجدد بديع الزمان النورسي: “إنّ أوروبا حاملةٌ بالإسلام فستلدُ يومًا ما، وإنّ الدولة العثمانية حاملةٌ بأوروبا فستلدُ يومًا ما”.
وأنه ليس عالمنا الإسلامي المثخن بالآلام والجراح، هو من سيتعافى ويقف على قدميه، لكن العالم الآخر من الكرة الأرضية، العالم الأوروبي، حاملٌ بالإسلام وسيلدُ قريبًا.
إن قيادة البشرية من أكبر فلاسفة العصر، وأعظم المفكرين، وأشهر العباقرة، وأذكى رجال العلم، خاطبوا سيد السادات -معجزة الإنسانية- بقولهم: “أنت الإنسان الذي نفخر بانتسابنا إليه.. إنه فخر للبشرية جمعاء”.
ولقد تواثرت النقولات من هؤلاء على الطرف الآخر، تؤكد ذات التوقع، ولعل المقولة الأشهر للكاتب الإيرلندي الساخر “جورج برناردشو” تمنحنا مزيدًا من الثقة والاطمئنان وأسباب الكفاح والعمل حين قال: “ما أحوج عصرنا إلى شخص مثل محمد صلى الله عليه وسلم يحل له مشاكله ريثما يشرب فنجانًا من القهوة”.
إننا نكاد اليوم نحيا غار حراء في نسخته المعاصرة، نتحفز لإعلان ميلاد جديد لأمة جديدة، بأشواق جديدة وأحلام رائعة.
مسك الختام
يا براعم الأمل؛ ستقومون أنتم بإهداء حقائق الدين، وإقامتها في الدنيا مرة أخرى. فأنتم بارقةُ ضوء من منبع نورٍ عظيم أضاء أطراف العالم الغارقِ في الظلام، وأنشأ شجرة إيمان وارفة الظلال كشجرة طوبى ظللت بأوراقها وأزهارها كل الأرجاء.
كانت كل كلمة لأمتنا في المباحثات الدولية في تلك العهود الزاهرة، بمثابة أمر. وستقومون أنتم -بإذن الله- باستعادة العهود الزاهرة، والتخلصِ سريعًا من هذا العهد المظلم الذي نعيشه. فهذا هو ما يأمله الجميع منكم، يأمله من يعيش فوق التراب ومن هو مدفونٌ تحته.. بل هذا ما يأمله منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجول بروحانيته بينكم، ويربتُ على أكتافكم، ويبتسم لكم وإن كنتم لا ترونه أو تحسّون به.
أنتم تستطيعون نشر الأمن والطمأنينة فيما حولكم إن بقيتم أمناء ولم تنحرفوا عن الاستقامة. أجل، إن استطعتم تحقيق هذا، انفتح لكم قلبُ الإنسانية جمعاء على مصراعيه، وستتربعون في هذا القلب كما تربع أجدادكم من قبل.. ولكن لا تنسوا أبدًا أن شرط الوصول إلى هذه النتيجة، وإلى هذه الذروة مرتبط بكونكم أمناء للأمانة الملقاة على عاتقكم.
فإن كنا نريد أن نكون أمة لها وزنها وكلمتها في الشؤون الدولية المهمة، وتلعب دورًا بارزًا في تأسيس التوازن الدولي حيث أننا مضطرون أن نكون كذلك، فيجب أن نكون ممثلين للحق وللعدالة وللاستقامة وللأمن. (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا)، (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ).