لقد كان المجال الثقافي وما زال إلى اليوم حلبة للصراع الحضاري بين شتى الأمم. إلا أن هذا الصراع يحضر في الساحة ويغيب وفق استراتيجيات وخيارات كل دولة. كما أن المجال الثقافي بشتى فروعه يعد عربونًا قويًّا ورسولاً صادقًا للدلالة على اختيارات الأمم وتوجهاتها العقدية والدينية والسياسية والاجتماعية.
ويعتبر المجتمع المدني في عصر العولمة “جيشًا” عاتيًا يمكنه تحقيق ما عجزت عن تحقيقه القطاعات الحكومية في أقدر الدول وأكبرها. ذلك لما يملكه هذا المجتمع من قدرات وطاقات ووسائل لا حصر لها، ناهيكم عن خزان الإبداعات والمواهب التي يزخر بها. وبغض النظر عن تعريف البنك الدولي للمجتمع المدني فقد اختلف المختصون في تحديد تعريف دقيق له وذلك بسبب اختلاف التصورات والأصول والسياقات التاريخية لكل دولة في عالم اليوم.
لبيان أهمية المجال الثقافي والفني في عالمنا المعاصر يقول كولن: “كيان الأمة ووجودها ومجدها متناسب تناسباً طردياً مع عمق الثقافة والفن الذي تمتلكه تلك الأمة”
إلا أن الشيء الذي لا جدال فيه هو تلك المنجزات الكبيرة للمجتمع المدني في شتى مجالات الحياة؛ كما هو واضح في تاريخ وسجل بعض الدول العريقة، مثل بريطانيا التي فتحت له بنية جامعية وجعلته “ماستر متخصص” منذ 1995 لدراسة المنظمات غير الحكومية. وفرنسا التي فتحت مؤسسة عالمية بجامعة “ساسكس” منذ 1966، تهدف إلى إنتاج جيل جديد من القادة في مختلف المجالات. أما الولايات المتحدة الأمريكية فلديها قناعة ثابتة بأن تقدم الدولة لايكون إلا من خلال المجتمع المدني، وكما قالت وزيرة الخارجية السابقة “هيلاري كلينتون: “إن المجتمع المدني لم يساعد في تأسيس أمتنا فحسب، بل ساعد أيضًا في الحفاظ على أمتنا وتزودها بالقوة والطاقة لتنطلق إلى آفاق المستقبل.”
وحتى لا نبتعد عن هدفنا وهو رصد الجانب الثقافي من هذا العالم اللامحدود؛ فإن كان ما سبق من آراء يصلح لمقاربة كل المجالات، فإني أقدر أن المجال الثقافي حابلا بالقضايا والرؤى التي توجد في كل مجال وتتخلل كل قضية، لتنسل عبر ظواهرها إلى أعماقها فتحولها إلى مشاهد مؤثرة في المشاعر موجهة للأفكار، بل صانعة للقرارات. فكم من صورة إعلامية صنعت رأيا عاما أو وجهته، وكم من مشهد درامي كان سببًا في صنع قرارات سياسية دولية، بل كم من رسم كاريكاتوري جر على أصحابه سخطًا عارمًا ومحاكمات تاريخية.
يصعب على من لم ير منجزات محبي كولن على أرض الواقع، فهم ما يقال في هذا المجال. لكنك حين ترمق المؤسسات الثقافية في كثير من بقاع العالم، أو عند سماعك لبلابل المدارس تنشد أغاني الوجود وأشعار الخلود؛ حينها ستؤمن بمنجزاتهم.
من أجل كل ما سلف حاولت رصد حضور المجال الثقافي بكل أبعاده في مشاريع الإصلاح عبر تاريخ أمتنا الحاضر، فلم ألو إلا على أعمال متواضعة، كالمجلات والجرائد أو المؤسسات المتواضعة التي لم تقنع أوليائها فضلا عن مساهمتها في الجانب الإصلاحي بله منافسة غيرها في باقي الأمم اليوم. وهذا لعمري واحد من أسباب التخلف والضغوط التي أوتيت منه الأمة. ولو وجهنا هممنا صوب المشاريع المعتبرة التي قام بها بعض أعلام الأمة الأجلاء أو الحركات المباركة، لانكاد نعثر على ما يشف الغليل؛ بل وقد نتجرأ في القول بالتحدي لجل الدول التي ترفع راية الإسلام اليوم، هل فيها من البرامج الثقافية ما يزاحم البرامج والهيئات والمؤسسات الثقافاية للدول الكبرى في عالم اليوم؟
في خضم واقع الأمة المرير؛ انبجست حركة إصلاحية كبيرة بمشاريع نوعية. في بداية الأمر ظنها كثير من المتخصصين حركة محلية. لكن ومع مرور الأيام والمحن برهنت للجميع أنها حركة عالمية إنسانية بامتياز. ذلك ما جعلني أرصد ساحة واسعة من اهتمامات هذه الحركة، فوجدتها حاضرة في كل مجالات حياة الناس، إنها حركة فتح الله كولن. صحيح قد يختلف المتتبعون في اهتمامهم بإبداعات ومشاريع هذه الحركة، لكني وجدتني مشدودًا إلى إبداعاتها في المشاريع الثقافية بشكل عام وإلى الجانب الفني منها بوجه خاص. لقد سمعت من غير واحدًا من رواد الفكر المعاصر أن أشد أسلحة العولمة فتكًا بالأمة وشبابها ما يصدر عن “هوليود” وأخواتها، في مختبرات تصنع الواقع صناعة دقيقة، من خلال فلسفة فتاكة ثم برامج فتانة إلى مشاهد مرئية ومسموعة لا تبقي من قيم الأمة ولا تذر، إلا ما رحم الله.
إن اجتياح الفكر المادي المسربل في جبة الثقافة الماجنة في شتى ألوانها، وخاصة المجال الفني الممسوخ الذي اكتسح العالم بأسره، ولم تقف في وجهه إلا مجتمعات معدودة، وهي اليوم معه في صراع. ففي عالم مثل الذي نعيشه لايمكننا عبر المشاريع الضيقة المسير، ولا من خلال الرؤية الأحادية الإجابة عن التحديات المتسارعة، والوقوف في وجه جحافل الرغبات والشهوات الإنسانية المُهيجة.
لذلك تعتبر الرؤية الشمولية للكون والإنسان عند فتح الله كولن أحد أركان منظوره الإصلاحي. يقول الرجل في هذا الصدد: (وفي عالم معولم، ليس هناك عالم إسلامي، أو عالم مسيحي، أو عالم يهودي، بل العالم أجمع أصبح قرية صغيرة. وبرأيي المتواضع يجب التخطيط لمشاريع جديدة بمراعاة هذه الحقيقة ذاتها. )
رسم كولن منذ زمن بعيد طريقًا للمؤمنين بفكره والعاكفين على تنزيل مشروعه من الرجال والنساء الذين قال فيهم: “ومن يدري، لعل الفكر الإنساني في عالم المستقبل يتوهج معهم سطوعًا وإشراقًا للمرة الأخيرة”.
طبيعي لمن يعتبر العالم اليوم قرية صغيرة يتعايش فيها كل ما ومن يسكنها، أن يفكر وينتج وفق ما يراه ويؤمن به. وقد سبق لي أن توقفت مع طلبة الماستر على قول نفيس لابن قيم الجوزية رحمه الله، حول الاجتهاد المعاصر ضمن مادة فقه الواقع حيث يقول: (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر…) وفي هذا الصدد يعلم كل مطلع مدى تشبث فتح الله كولن بالكتاب والسنة، خاصة فيما ألفه وكتبه من مراجع تجاوزت المائة كتاب في مختلف مجالات المعرفة. أما فقه الرجل بالواقع فلا أدل عليه من مشاريعه العالمية القابلة للتطبيق والتنزيل في كل بقعة من بقاع العالم حضريًّا كان أم قرويًّا، فقيرًا أم غنيًّا. وتلك علامات النبوغ المعاصر التي لايملكها أيًّا كان. بل وقد رسم الرجل منذ زمن بعيد طريقًا للمومنين بفكره والعاكفين على تنزيل مشروعه من الرجال والنساء الذين قال فيهم: ” ومن يدري، لعل الفكر الإنساني في عالم المستقبل يتوهج معهم سطوعًا وإشراقًا للمرة الأخيرة، وتجد الآمال الإنسانية طريقها إلى الواقع، وتتحقق جُلّ أحلامنا بهم رغم أنف ما رُسم في كتب اليوتوبيا من مثاليات. فهُم من وجهة يطالعون الوجود والزمان في هذا المستوى، ومن وجهة أخرى ينسلخون من ضيق الحياة الجسمانية وينفسحون في رحاب عالم الفكر ويسيحون -وهم في هذه الحياة الفانية الموقوتة- على سفوح ممتدة إلى اللانهاية في عالم آخر ذي بُعْدٍ أبدي..”
وبثقة في النفس عالية يصرخ بصمت في وجه أمواج العولمة العاتية قائلا:” يجب علينا اليوم أن نجهّز الأبطال الذين يجيدون تلقيح أنفسهم بأمصال الوقاية المستخرجة من ذات أرواحهم”. نعم ما ترى أحدًا من هؤلاء الأبطال الذين يقصدهم من كبار أوصغار إلا وتشهد أنهم ملقحون من أمراض العولمة التي أصابت قطاعًا عريضا من أبناء وبنات أمتنا. ولبيان استحضار أهمية المجال الثقافي والفني في عالمنا المعاصر يقول: “كيان الأمة ووجودها ومجدها متناسب تناسبًا طرديًّا مع عمق الثقافة والفن الذي تمتلكه تلك الأمة. والأمة التي خلفت في مختلف أرجاء الأرض أثاراً فنية تملك بعدد تلك الآثار ألسنة تقول: “أنا أيضاً موجودة”.
في خضم واقع الأمة المرير؛ انبجست حركة إصلاحية كبيرة بمشاريع نوعية. في بداية الأمر ظنها كثير من المتخصصين حركة محلية. لكن ومع مرور الأيام والمحن برهنت للجميع أنها حركة عالمية إنسانية بامتياز.
لم يكم الاهتمام بالمجال الثقافي والفني من باب الترف كما يظن البعض، بل هو بالنسبة إلى فتح الله كولن، من الكنوز التي قد تفتح كثيرا من المغاليق في عالم بات قرية صغيرة. يقول فتح الله كولن في همسات أقرب للفلسفة منها للبيان: “…وبفضل الفن يستطيع الإنسان أن يفتح أشرعته ليسيح في أجواء السماوات والأرض فيصل إلى مشاعر وحدس ما وراء الزمان والمكان…الفن هو اللوحة الأولى التي تستطيع تصوير قدرة ابن آدم وأعماقه. أجل! فبفضل الفن سجلت أعمق المشاعر والأفكار الإنسانية وأعمق خلجات الروح وحفظت وخلدت وكأنها مسجلة على شريط”.
قد يصعب على من لم ير بعضًا من منجزات أبناء ومحبي فتح الله كولن على أرض الواقع، فهم بل تصديق ما يقال في هذا المجال. لكنك حين ترمق المؤسسات الثقافية في كثير من بقاع العالم، أو عند سماعك لبلابل المدارس تنشد أغاني الوجود وأشعار الخلود وحكايات الشهود؛ حينها ستؤمن بمنجزاتهم في هذا الصدد. يقول فتح الله كولن: “كما أن جميع الفنون الجميلة على مستوى الأفكار هي هدايا خالدة من قبل أصحاب الأرواح الفنانة، كذلك فإن جميع الوسائل والوسائط التي أصبحت وسيلة وواسطة لرفاه الإنسان وسعادته بدءًا من النظارة التي تكسب عيوننا الكليلة قوة، إلى أجهزة اللاسلكي والهاتف التي تقرب لنا الأصوات من المسافات البعيدة، إلى أجهزة التلفاز التي تنقل إلى غرفنا الصور من أطراف العالم، إلى القطارات والسيارات والطيارات التي تنقلنا من مكان إلى آخر، إلى المركبات الفضائية والأقمار الصناعية التي تقدم خدمات جليلة للإنسانية… كل هذه الوسائط وسائط منفتحة على الفن، وهي من آثار الأشخاص الذين يحملون بذور الفن في أرواحهم.”
هيلاري كلينتون: “إن المجتمع المدني لم يساعد في تأسيس أمتنا فحسب، بل ساعد أيضًا في الحفاظ على أمتنا وتزودها بالقوة والطاقة لتنطلق إلى آفاق المستقبل.”
حينما يُخرج فتح الله كولن أفواجًا من المتمثلين لهذا النوع من الفنون، فهو بذلك يسهم في خلق عالم من الحب والتساكن والرحمة لكل العالمين. جيل لايهدأ له بال إلا بالركد ليلا قبل النهار من أجل بناء عام ثقافي فريد تتسابق فيه أهازيج المدارس كالعناقيد على صدور كثير من الدول، مع تعايش مؤسسات الثقافة والحوار ونفثها لأريج المحبة والتعايش الشريف من عالم “أبانت” إلى عوالم “نياغارا” ومن “مجمع البلقان” إلى حراء ونسمات وغيرها من المؤسسات التي تقوم بأدوار طلائعية في عالم أصبحت فيه رؤية مشاريع نابعة من روح الأمة معبرة عن قناعاتها شيئا عزيزا.
هكذا تذكرنا المشاريع الثقافية والفنية النوعية بأمجاد أمة المسلمين كما في عهد صلاح الدين، وتشعر الأمة بريادتها المشرقة في الأمس كما عاشتها أيام الأندلس. (يتبع)