منذ وقوع الانقلاب العسكري الفاشل بتركيا في منتصف يوليو 2016 ولا يكل ولا يمل الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” من اتهام الأستاذ “فتح الله كولن” بتدبيره والتحريض عليه كما يتهمه بأنه إرهابي دولي يحيك المؤامرات ضد الدولة التركية، ويطالب دومًا “أردوغان” الإدارة الأمريكية بتسليمه الأستاذ “كولن” لتتم محاكمته داخل تركيا، بيد أن واشنطن ترفض كافة تلك المطالب وتؤكد على أن قرارها يخضع للقضاء الأمريكي الذي لم يوجه أي اتهام للأستاذ الذي يقيم بالمركز الإسلامي بولاية بنسلفانيا منذ 1999 حتى اليوم، ولم يقم بأي عمل قولاً أو فعلاً ضد الدولة الأمريكية أو أحد مواطنيها، وإلا لن تسمح له الأخيرة بالبقاء فيها بالطبع، وهي تملك أحد أقوى أجهزة الاستخبارات بالعالم ،ويمكنها بسهولة أن تتحقق من صحة الاتهامات الموجهة له وترحيله لأنقرة حال ثبت تورطه فيها، فما هو الداعي كي تحمي واشنطن الأستاذ “كولن” لمدة عقدين كاملين، وهي في نفس الوقت ترتبط بعلاقات تحالف إستراتيجي مع أنقرة، والادعاءات التي يروج لها الإعلام التركي الموالي “لأردوغان” بأن الأستاذ “كولن” يحصل على دعم أمريكي مباشر أصبحت حجة واهية، تفندها قوة التحالف الإستراتيجي بين واشنطن وأنقرة، والذي برز جليًّا من خلال الإفراج عن القس الأمريكي المحتجز منذ عامين ونيف بتركيا، حيث قررت المحكمة التركية بأزمير يوم 12 أكتوبر 2018 الإفراج عن القس الأمريكي “أندرو برانسون”، وتبرئته من كافة التهم الموجهة إليه، ومنها التعامل مع تنظيم إرهابي هو (حركة الخدمة)، والتجسس لصالح جهات خارجة على الدولة التركية، وهذا القرار يُعد وثيقة تبرئة تركية رسمية للأستاذ “كولن”؛ فهو يدحض كافة الاتهامات التي وجهت له وللحركة حول تدبير الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو 2016؛ لأن “أردوغان” قد صاغ كافة الاتهامات بناء على تورط “برانسون”، فكيف الحال الآن بعدما تم تبرئة الأخير؟ ولا شك في أن إلقاء القبض على القس الأمريكي تم بطريقة عشوائية غير قانونية، كحال كافة المعتقلين بالسجون التركية، كما أن اعتقاله كان خطأ سياسيًّا لا يغتفر، دفع ثمنه الاقتصاد التركي الذي يعاني من أزمة حادة. كما تم تجديد التحالف التركي الأمريكي لمواجهة حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًّا في الدولتين، ورصدت واشنطن مكافآت مالية ضخمة مقابل إلقاء القبض على 3 قيادات عسكرية تابعة له، فضلاً عن استمرار التنسيق السياسي والعسكري بينهما في مختلف القضايا الشرق أوسطية لاسيما القضية السورية.
طالبت الخارجية الأمريكية أنقرة باحترام حرية التعبير وضمان محاكمات نزيهة بعد حملة الاعتقالات بحق عدد من الناشطين والصحفيين المرتبطين بجمعية أنطاليا الثقافية. ليرتفع عدد المعتقلين بالسجون التركية منذ عامين ونصف إلى أكثر من نصف مليون معتقل
إذن فإن العلاقات التركية الأمريكية قد تجاوزت أزمة اعتقال القس “برانسون”، وأكد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” غير مرة أن التعامل مع تركيا يسير بشكل إيجابي جدًّا، بيد أن ذلك لم يرض حليفه “أردوغان” الذي فشل في إقناع العالم بإلصاق تهمة الإرهاب بالأستاذ “كولن” وبالأخص واشنطن، رغم جهوده المضنية التي يبذلها في هذا السياق وكان منها .. اتهام “أردوغان” أفراد حركة “الخدمة” خلال خطاب ألقاه باجتماع الدورة الـ 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 سبتمبر 2018 بتصدير الإرهاب من الولايات المتحدة إلى 160 بلدا في جميع أنحاء العالم، وذلك من خلال المدارس المستقلة التابعة للحركة في أمريكا. وادعى أن مدارس الخدمة تتلقى 763 مليون دولارًا لدعم المدارس المستقلة في 27 ولاية أمريكية. وكعادته لم يذكر أي دليل على هذه الاتهامات، ولم تلق أي آذان صاغية لها، وقد كررها مرة أخرى خلال زيارته لألمانيا في نهاية سبتمبر 2018، بيد أن برلين رفضتها بشكل تام.
أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية “هيذر ناورت” في 17 نوفمبر 2018 أن واشنطن لا تدرس سبل تسليم “كولن” لتركيا لاسترضاء الأخيرة، لأن القضيتين منفصلتين تماما
ثم حملة التسييس التركي المنظم لحادثة مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” بقنصلية بلاده بإسطنبول، والابتزاز السياسي المستمر للرياض وواشنطن على خلفية تلك القضية، إلى حد مطالبة “أردوغان” لواشنطن بتسليمه الأستاذ “كولن” لوقف الحملة الإعلامية المدبرة ضد الرياض وواشنطن، وهو ما نفته تمام المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية “هيذر ناورت”، التي أكدت في 17 نوفمبر 2018 أن واشنطن لا تدرس سبل تسليم “كولن” لتركيا لاسترضاء الأخيرة، لأن القضيتين منفصلتين تماما، وهو ما أكده “ترامب” بعد ذلك بإنه لن يسلم “كولن” لأنقرة. وبهذا يكون الموقف الأمريكي واضح تمام بلا أى التباس. الأستاذ “كولن” لن يُسلَّم لأنقرة ولا توجد أي أدلة قانونية تدينه بأي تهمة تذكر.
تبرئة القس الأمريكي “أندرو برانسون” من كافة التهم الموجه إليه ومنها التعامل مع تنظيم إرهابي (حركة الخدمة) والتجسس لصالح جهات خارجية على الدولة التركية، يعد وثيقة تبرئة تركية رسمية للأستاذ “كولن”
كما طالبت الخارجية الأمريكية أنقرة باحترام حرية التعبير وضمان محاكمات نزيهة وعادلة بعد حملة الاعتقالات بحق عدد من الناشطين والصحفيين المرتبطين بجمعية أنطاليا الثقافية. ليرتفع عدد المعتقلين بالسجون التركية منذ عامين ونصف إلى أكثر من نصف مليون معتقل فقد 172 ألفًا منهم وظائفهم، وتوفي نحو 100 شخص منهم في ظروف مشبوهة أو تحت التعذيب أو بسبب المرض جراء ظروف السجون السيئة، فضلا عن فرار عشرات الآلاف من المواطنين إلى خارج البلاد بحرًا، وغرق العشرات منهم بالبحر المتوسط وبحر إيجه، لتحتل تركيا وبلا منازع الدولة الأولي على مستوى العالم في سجن المعارضين وإنكار حقوق الإنسان وحرية التعبير، وهو ما دفع واشنطن والمنظمات الحقوقية الدولية كالعفو الدولية لمطالبة أنقرة بضرورة مراجعة الإجراءات القانوينة التي تسفر عن هذه الاعتقالات والممارسات الوحشية الموثقة بتقارير أممية.
ثم بعد كافة تلك الاعتقالات والممارسات الديكتاتورية يطالب “أردوغان” بتسليمه الأستاذ “كولن” لمحاكمته بتهمة الإرهاب؟! إنها مفارقة ساخرة بعد كل ذلك من هو الإرهابي الحقيقي الذي يجب أن يخضع لمحاكمة دولية، الأستاذ “كولن” أم “أردوغان”؟