لا توجد حضارة بلا قيم تخط لمجموعها معالم تسيروا عليها، فهي “عقيدتها”الحضارية، و”شخصيتها” الاعتبارية، ودوافع تفاعلاتها لتحسين أحوالها ماديًّا ومعنويًّا، ويؤدي غيابها عن نمط الحياة إلى تعطيل “النهوض والإقلاع الحضاري”، وتميّع صور الانتماء، وظهور التوتر والشقاق و”الفصام” الاجتماعي؛ لذا أليس من المعقول نهضويًّا الاتفاقعلى “رؤية حضارية تؤيدها الشرعية المجتمعية”، لتزيل عن الأمة خطر تفككها الاجتماعي، وتشرذمها إلى عصبيات وعشائر، وجماعات وقبائل؟
وفي الوقت الذي يعلن فيه الآخر الحضاري عن الوصول لنهايات “العولمية”نهاية التاريخ والجغرافيا والدولةوالأيديولوجيا، مازالت تتقاذف العالم الإسلامي أمواج جدل متأزم، كيف نجحنا ردحًا من الزمان، ولماذا تنكبنا الطريق؟ ومن أين نبدأ؟ ولماذا نجحت تجارب نهضوية، وفشلت نظيرتها الإسلامية؟، ولماذا تراجع “التحديث” وتحول إلى “تغريب”، فاحتلال متعدد الجنسيات، وأين صدى “رؤية”الوضعية المنطقية والتعادلية والطريق الثالث، والقومية الشوفينيةوالدولة الوطنية والعلمانية والليبرالية واليسارية إلخ؟
تبغي الرؤية الأولى النهوض مستلهمة الهوية الثقافية، والتجربة الحضارية الناجحة لعقود متطاولة. وترى أن القيم الحاكمة للحضارة الإسلامية منهاج كامل للحياة، بما رسخت من تشريعات فردية ومجتمعية، وأُسس الدولة وعلاقاتها بالعالم.
ومن المعلوم أنه يسبق أي نهوض وتجديد حضاري “رؤية” لما ينبغي أن يكون عليه الواقع المنشود، وفي هذا المضمار. تتباين رؤيتان: رؤية الهوية، والمذهبية الإسلامية، ورؤية الوافد، والمذهبية الغربية.
الرؤية الأولى
تبغي النهوض مستلهمة الهوية الثقافية، والتجربة الحضارية الناجحة لعقود متطاولة. وترى أن القيم الحاكمة للحضارة الإسلامية منهاج كامل للحياة، بما رسخت من تشريعات فردية ومجتمعية، وأُسس الدولة وعلاقاتها بالعالم. وعند تطبيق تلك الرؤية، وتقويمها ثمة مرونة لمستجدات العصر بما لا يخرج عن الضوابط الحاكمة. وخلاف ذلك يعد انتحارًا حضاريًّا يكرس الهيمنة والاستلاب، ويزيد التقهقر الحضاري، لكن غالبًا ما تُستنفد جهود هذا الفريق في “الدفاع عن النفس “الذات الحضارية”، مما قد يحول دون بلورته لـمشروعه بلورة شافية كافية، تبدد الشبهات، وتزيل الأوهام والمخاوف من حيث الأهداف والوسائل، ومناهج الإصلاح المتعددة الجوانب.
القيمة العليا القائدة في الحضارة الإسلامية هي الحق. وهي تفسير “الهوية الإيمانية”، وأنموذج حياة الأمة، فهي تتعبد الحق (فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ)(يونس:32). وعليها مواجهة الباطل.
كما قد تصرفه حالة الدفاع عن إذكاء إرادته لتجديد ما رث، واستنهاض ما خار، وبعث ما كمُن، وتقويم ما جُرّب، ولقد اضطلع بهذه الرؤية الأولي من الأمة علمائها العاملين الذين يفقهون مقومات حضارتنا، وأسس شريعتنا، ومعالم شرائعنا غاياتها ومقاصدها. كما يحيطون بظروف الناس، ومشكلاتهم ومصالحهم، وكيفية تنزيل النصوص والأحكام عليها وفق هذه المقاصد والغايات.
الرؤية الثانية
تنشد البدايات عبر ترك الجذور الحضارية، جزئيًّا أو كليًّا، وتتبع أثر الغرب “حذو القذة بالقذة”، و”استنساخ تجربته كلها”، فنحن ننتمي إلى الغرب عقلاً وفكراً، وحضارة وثقافة، حتى بعد رسوخ الحضارة الإسلامية ظل العقل الشرقي يونانيًّا، رومانيًّا، أوروبيًّا. ويري هذا التيار أنما لدينا من أسس حضارية هي سبب تخلفنا، فلزامًا الخروج منها وعليها، وإحداث قطيعة شاملة مع موروثها الثقافي، والالتحاق مباشرة بركب الحضارة الغربية، والتبني الكامل للقيم والعادات الاجتماعية الغربيةالمجيدة، والمهيمنة الغالبة. وتجاوز مقولة “ابن خلدون”: “المغلوب مولع بتقليد الغالب” إلى “التماهي الكلي” معه، وهضم أفكاره وعلومه، وأشيائه الحضارية؛ حيث “البقاء للأقوى”، ومع مضي قرون من الاستنارة الغربية، اكتشف منظرو الفكر الغربي أنها كانت إلى حَدّ ما مظلمة في عديد من جوانبها، فراجعوا كثيرًا من أطروحاتها، وتناقضاتها، وخطورتها “التدميرية” على الإنسان والكون، ومع ذلك يحرص الغرب على نقلعولمة “استنارته المظلمة”، كما ينوب عنه دون نقد كثير من التيارات التغريبية المحلية.
مقارنة بين الرؤيتين
المجال العام المتغلغل في جوانب حياة الحضارة الإسلامية هو مجال الدين، بينما الإطار الحاكم للحضارة الغربية إطار سياسي هو “الدولة القومية”، والتي “تتغول” بسلطتها في كل مجالات الحياة، كمؤسسة تنفيذية، أما لدينا فالقيادة “لعقيدة سماوية” لا تشخصها سلطة مؤسسة بعينها، بل تمثل قيمها العليا مرجعية لأي سلطة، فالدولة في الإسلام دولة مدنية مرجعيتها الإسلام تقوم على الاختيار الحرلـ”القوي الأمين” المؤهل للقيادة الجامع لشروطها. كما تقوم على “البيعة العامة” من الأمة، ووجوب الشورى، و”إلزاميتها” للحاكم المسئول أمام الأمة، كما تحافظ على حقوق الناس التي هي فرائض وواجبات…، وتحقق مبدأ “شمول تعاليم الدين دون فصام أو تجزئة أو ازدواجية”. فشريعة الإسلام شاملة متكاملة. لكون الإسلام ليس شعائر تعبُّدية فحسب، بل عقيدة، وعبادة، وخلق، ومعاملات، وشريعة إن أي محاولة لإقصاء المجال القائد -الدين- من معركة وجود الأمة هو تكريس انهزامها وإذلالها بل وفنائها. أما “علمانية الغرب” فلها أسبابها التاريخية، وتمثلت في تحكُّم الكنيسة ورجالها في الدولة، وفي حياة الناس، وتسلطها عليهم في الأرض باسم السماء، فلا يحق لأحد محاسبهم أو نقد رؤاهم، فلهم من “القداسة” ما يحول دون ذلك.
نسق القيم
القيمة العليا القائدة في الحضارة الإسلامية هي الحق. وهي تفسير “الهوية الإيمانية”، وأنموذج حياة الأمة، فهي تتعبد الحق (فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ)(يونس:32). وعليها مواجهة الباطل. فالأمة الإسلامية لا يحركها لافتات التقدم -التطور -الحداثة-ما بعد الحداثة، بقدر ما يحركها “رسالة إيمانية تجسد دورها الإنساني”نعم”الحق مطلق، والتطبيق نسبي، لكن محرك الأمة الحقيقي رغبتها في الاقتراب من “المطلق” تتوجه إليه، لكنها قد لا تبلغه لأن الكمال لله وحده.
القيمة العملية للأمة هي العدل، وهو ميزان القواعد العامة للدولة والناس في أن، وهو يحقق قيمة الحق فعليًّا، فالحق عدل، فلا يمكن التوجه نحو الحق مع حياة غير عادلة.
أما القيمة العملية للأمة فهي العدل، ميزان القواعد العامة للدولة والناس في أن، وهو يحقق قيمة الحق فعليًّا، فالحق عدل، فلا يمكن التوجه نحو الحق مع حياة غير عادلة، فبقدر التزامالدولة، والناس بقيمة “العدل” وقواعده تتحدد أسس النهوض، وشرط نيل الشرعية المجتمعية، ولعل إيجاد النظام العادل الذي معه ينتفي الظلم، والفساد هي العنوان الحاسم للإحياء الحضاري للأمة، أما قيمة التراحم فقاعدة السلم القيمي ذي الثلاث درجات: التراحم، فالعدل، فالحق. والتراحم يشمل التضامن والتكافل أسريًّا، ومجتمعيًّا وإنسانيًّا.
العقل وأمور أخري
لا خلاف على حق الاجتهاد وحرية الفكر والرأي، وإعمال العقل، لكن المشكلة في رأي د. “المسيري”تكمن في “نوع العقل” الذي يُستخدم: أهو عقل مادي، أم قادر على تجاوز المادة؟ وما هو الإطار الذي يتحرك فيه، ومرجعيته النهائية. وما هي “علاقة العقل بالمادة”فشتان بين “النموذج” الذي يفترض أسبقية الإنسان على المادة، ومع الذي يفترض أسبقيتها على الإنسان، وفي إطار هذا التباين ظهرت “الفلسفة النفعية”. فأعطت غرائزه المادية الأسبقية على المفاهيم الأخلاقية والإنسانية، فالأخلاق لا علاقة لها بالفضيلة، وتم تعريف “الخير والشر” تعريفًا ماديًّا، فالخير ما يجلباللذةلأكبر عدد من البشر، و”الشر” عكس ذلك.
أمتنا الإسلامية “أمة اجتماعية”، وليست “فردية النزعة” كما الغالب عند غيرنا فمجالها الديني تفاعلي جماعي، أما في الغرب ففردي النزعة، والإيمان عبادة وممارسة.
بينما العواطف الإنسانية تعبير عن حركة المادة، وليس هناك أسئلة أخلاقية كبرى، فكل الأمور مادية نسبية متغيرة. لكن “سيادة الدين” في الحضارة الإسلامية تعني سيادة القيم الدينية خيارًا وإيمانًا، بينما يحدد الفقه، ومؤسساته الجوانب التطبيقية للحياة، وتحقق هذه السيادة اتساقًا بين مجالات الحياة وفئات المجتمع “المؤمن بها” دون الحاجة للتغول الذي تقوم به “الدولة القومية” في الغرب.
أمة اجتماعية أم فردية النزعة
أمتنا الإسلامية “أمة اجتماعية”، وليست “فردية النزعة” كما الغالب عند غيرنا فمجالها الديني تفاعلي جماعي، أما في الغرب ففردي النزعة، والإيمان عبادة وممارسة. لذا ففعل النهضة الإسلامية ينبغي أن يكون جماعيًّا، ويهدف لتفعيل الحياة الاجتماعية، مما يحقق للأمة طبيعتها التضامنية، وترابطها الإنساني، ويخلق رأيها العام، واتفاقها في قضايا الدين والحياة، كما يعظم دور الفرد داخل جماعته تلك. ومشروعات التنمية الاقتصادية والإدارية والعمرانية التي تقوم على نمط فردي، ولا تتبع تشارك العمل والقرار والخصوصية الاجتماعية، يـُحكم عليها بالفشل، وحداثة العمران الذي لا تراعي الخصوصية تؤدي إلى التفكك والتنازع. ولعل المناطق “الأكثر حداثة” تشهد سلبيات حياتية أكثر من نظيرتها التي راعت الخصوصية الاجتماعية الإسلامية.
مقارنات أخرى
ليس بالضرورة أن ما نجح من نظمهناك سينجح هنا، لكن قد يحدث تكيف سلبي معها، لكن قناعات الناس بالنظم المتوائمة مع خصوصياتهم تجعلهم يلتزمون بها، فينجزون ويبدعون، ولا يظن ظان أن فشل “الأنظمة المستوردة” ناتج عن عدم تطبيقها بالشكل المناسب أو غير الكامل، بل لغربتها عن المجالات الدينية والاجتماعية وعن سلم قيمها.