يرى الأستاذ فتح الله كولن أن جميع أفراد الإنسانية يشتركون في نقاء المشاعر وصفائها، إذ لا يختلف الناس حول حقيقة القيم السامية وحول تفسيرها. فالصدق هو الصدق في كل مكان، والأمانة هي الأمانة لا يختلف مفهومها عند كل الناس مهما اختلفت دياناتهم وعقائدهم وفلسفاتهم.

القواسم المشتركة

إن جميع أفراد الإنسانية يلتقون حول هذه القيم النبيلة السامية، ولا يختلفون حولها ولا يختلف تأويلهم لها كذلك. ولذلك وجب الاشتغال على هذا الحيز المشترك. فالقواسم المشتركة تشكل بالنسبة للأستاذ فتح الله رصيدا مهمًّا يُفتَح الحوار انطلاقا منه وفي إطاره.

التربية والتعليم هما الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان في مدارج الكمال، لأن الإنسان هو أرقى المخلوقات استعدادا.

إن التربية والتعليم يبنيان منطق الحوار والتسامح، إذ لا وجود لحوار دون حضور لرؤية الحوار والتسامح في صلب السلوك الإنساني وفي أصل ذهنيته، ولا سبيل إلى ترسيخ ذلك كله دون رؤية تربوية وخطة تعليمية واضحة.

مركزية الإنسان

القضية هنا هي قضية إنسان، فالإنسان هو الأساس.. والأستاذ فتح الله يعتقد بأن الأزمات التي عرفها العالم في القرون الأخيرة تَسبّب فيها الإنسان نفسه، لأنه انحرف عن المنهج الصحيح من خلال حصر زاوية النظر في الجانب المادي وفتح المجال أمام إشباع الرغبات المادية والجسدية، دون التفكير في إشباع الجانب الروحي.

يتّفق كونفشيوس وأفلاطون وفتح الله كولن على أن التعليم القوي الموجه هو حجر الزاوية في تنمية الإنسان المثالي الأرقى.

في مقارنة لها بين كونفشيوس وأفلاطون والأستاذ فتح الله كولن تبين الأستاذة الدكتورة الأمريكية “جِيل كارول” أن القاسم المشترك بين جميع الثلاثة هو اشتغالهم على الإنسان. وهم من خلال بحثهم عن هذا النموذج المثالي قد ركّزوا على التعليم والتربية من أجل الوصول إلى مبتغاهم هذا، فتقول:

“التعليم هو القاعدة العامة التي يرتكز عليها أيّ جهد لتحقيق الإنسانية الكاملة أو المثالية… إلى درجة أنهم يقولون: إنه من دون العنصر التعليمي فإن صرح النظام بأكمله سينهار، بل والأكثر من ذلك أن كلاًّ منهم يحدد نوعا من التعليم هو الذي سيحقق أقصى إمكانية للحصول على نوعية التهذيب للشخصية الإنسانية التي يسعى إليه كل منهم باختصار.

القضية هي قضية إنسان، والأستاذ كولن يعتقد بأن الأزمات التي عرفها العالم في القرون الأخيرة تَسبّب فيها الإنسان نفسه.

يتّفق كونفشيوس وأفلاطون وفتح الله كولن على أن التعليم القوي الموجه هو حجر الزاوية في تنمية الإنسان المثالي الأرقى. ومن ثم يجب صياغة الأطر الاجتماعية في الأساس حول آليات ذلك التعليم حتى يتمكن المجتمع من تكوين أعلى وأفضل زعمائه من داخلــه هـو”.

تجربة واقعية

وقد يكون بين هؤلاء بعض عناصر الالتقاء، لكن يبقى لكل واحد منهم عناصر تميزه عن الآخر. وأتصور بأن العنصر الذي يميز فتح الله كولن هو أن المهتم يستطيع الحكم على التجربة وتقييمها من خلال الملاحظة الواقعية المتمثلة في حركية الخدمة، وفي المدارس المنتشرة في كل مكان، ومن خلال النماذج البشرية المتحركة والمتفاعلة واقعيا، وهي نماذج لم تنزل من السماء، بل هي نتيجة منهج تربوي محدد. لكننا لا نستطيع محاكمة التجارب الأخرى نظرا لأننا لا نستطيع الحكم على ما قام به كل من كونفشيوس وأفلاطون تطبيقيا. ولهذا تبقى تجربة فتح الله تجربة حيّة تُجيب على كل الأسئلة المعرفية نظريا وعمليا، وتجربة كونفشيوس وأفلاطون رصيدها النظري لا يسمح بتقييمها تقييما سليما.

مفهوم الإنسان

ومن أهم عناصر الاختلاف هو نظرة الأستاذ فتح الله كولن للإنسان.. إذ الإنسان بَوْتقة مكوَّنة من جوانب مادية ونفسية وعقلية ثم روحية. فهو كيان متكامل من خلال تكاثف كل هذه العناصر. وكل مكون من هذه المكونات يحتاج إلى بناء خاص دون تنافر مع العناصر الأخرى، لأن عملية البناء تسير متساوقة في كل الجوانب.

القواسم المشتركة تشكل بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن رصيدا مهمًّا يُفتَح الحوار انطلاقا منه وفي إطاره.

وهذه العناصر كلها لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تربية وتعليم قائم على رؤية دينية، إذ يقول الأستاذ فتح الله كولن:

“إن الإنسان ليس مخلوقًا يتكون من جسم فقط أو عقل أو مشاعر فقط أو روح فقط، بل هو عبارة عن مزيج منسجم من كل هذه العناصر. فكل واحد منّا له جسم ينطوي على مجموعة متشابكة من الحاجات، وكذا عقل له حاجات أكثر دقة وحيوية من الجسم. وتسيطر على العقل مخاوف بشأن الماضي والمستقبل… كما أن كل إنسان هو مخلوق مكون من مشاعر وروح نكتسب من خلالها هويتنا الإنسانية الفعلية، فكل فرد هو هذا كله معا. وعندما ينظر الإنسان -رجلا كان أم امرأة- باعتباره مخلوقا يحمل كل هذه الجوانب، وعندما يتم تلبية كل حاجاته فإنه سيصل إلى السعادة الحقيقية. وفي اللحظة الراهنة لا يمكن تحقيق التقدم والتطور الإنساني الحقيقي إلا بالتعليم”.

وعلى العموم فإن الأستاذ يعتقد اعتقادا راسخا أن الإنسان يرقى بالتعليم، فأول واجبات الإنسان هو إدراك المعرفة، فالتربية والتعليم هي الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان في مدارج الكمال، لأن الإنسان هو أرقى المخلوقات استعدادا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: د. محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث، قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، ص: ٣١٤-٣١٧، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٣، الطبعة الأولى، القاهرة

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.