لا شك أن ما يجري في تركيا من أحداث تتصدر المشهد الإعلامي التركي والدولي، يلقى اهتمامًا ومتابعة من قبل الشارع العربي بنوع من التحيز لحزب العدالة والتنمية، ولشخص زعيم الحزب ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، الذي يعد بطلاً في نظر الشارع العربي نظرًا للمواقف الجميلة التي يسجلها الإنسان العربي له. ولا نخفي شيئا إن قلنا بأن مواقف أردوغان أشعرتنا في وقتها، ببعض الاعتزاز، وأدخلت على قلوب العديد من أفراد المجتمعات العربية بعض الدفء والأمل في قيام بطل يدفع بعض الظلم عن قطاع واسع من المستضعفين.

عندما يتم استهدافُ جماعة الخدمة تَضمَن الجهاتُ التي تسعى لإخفاء سرّها إلهاءَ شرائح واسعة من شرائح المجتمع التركي.

قد تكون هذه الصورة ما تزال تشعر الشارع بأن أردوغان على صواب، وأن الأحداث التي تعيش على وتيرتها تركيا اليوم تستهدف فعلا الحزب، فترتفع الحناجر بالقول إن القضية تتعلق بمؤامرة دولية تحاك ضد تركيا وضد التيارات الإسلامية وخاصة تيارات الإسلام السياسي، ومن ثم توجه اتهامات لجهات دولية محددة جرى اتهامها في العالم العربي في مثل هذه المواطن، وهو ما تشير إليه فعلا وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة ولحزب العدالة والتنمية، التي يلاحظ المتابع أنها تتهم جهات داخلية ضالعة في مؤامرة مع جهات خارجية تنفذ أجندتها.

فقدان التريث والتحقق

وقد سمعنا العديد من المثقفين العرب الذين يفترض فيهم التبيّن والتريّث وعدم التسرع في إطلاق الأحكام، يطلقون مثل هذه الأحكام دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عن المعلومة من المصادر الموضوعية والموثوقة، وتقليب الأمور على جهاتها المختلفة كما تقتضي ذلك شروط الموضوعية والمسؤولية. ولعل من أهم الأمور التي يتوجب الوقوف عليها في هذا الإطار، هو هذه الحملة التي يشنها بعض كوادر حزب العدالة والتنمية بما في ذلك أردوغان نفسه ضد الخدمة وأهلها، التي تمثل جزءا كبيرا من الشعب التركي وفي المقدمة مؤسس هذه الحركة الأستاذ فتح الله كولن. وهي حملة تتهم “الجماعة” -كما يطلق عليها في تركيا وكما يصطلح عليها اليوم في الإعلام-بكونها ضالعة في التآمر على الحكومة وعلى حزب العدالة والتنمية مع جهات خارجية، وتتهم الجماعة بكونها جماعة مخادعة وتسرق الشعب من خلال مشاريعها الكثيرة التي تقدم خدمات مهمة للمجتمع ليس هذا مجال ذكرها.

العديد من المثقفين العرب الذين يفترض فيهم التبيّن والتريّث في إطلاق الأحكام يطلقون الأحكام دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عن المعلومة من المصادر الموضوعية والموثوقة.

ولأني مهتم بالشأن التركي، ومتابع له من الزاوية الثقافية والفكرية، ومهتم بفكر الخدمة عن قرب، ومهتم بفكر المفكر الأستاذ فتح الله كولن أقول بأني أستغرب كثيرا هذه الحملة التي تقحم شخصية فكرية من أهم الشخصيات الفكرية في تركيا وفي العالم الإسلامي وفي العالم كله، -وهذا هو أصل ما يقوله متابعون غربيون في أمريكا وأوروبا، وتقحِم في الوقت نفسه الحركة التي أوحى بها للناس في تركيا والتي انتقل إشعاعها إلى مناطق مختلفة من العالم في صورة خدمات تربوية في كثير من الأحيان وخدمات اجتماعية في مناطق أخرى وخاصة تلك التي تعيش حالة توتر سياسي أو ظروف قاسية دون أن يكون للحركة أيّ تدخل في المجال السياسي، أو أن تعتبر نفسها حركة ذات بعد سياسي. ولذلك أستغرب كثيرا هذه الاتهامات، وأرى أن الواجب يفرض البحث عن أصل المشكل وسبب هذه الحملة التي أقحمت كما أشير بالأستاذ وبالخدمة في صلب هذا الجدل السياسي الصرف.

حركة الخدمة كبش فداء

إن التتبع الموضوعي يفترض وجود أزمة خطيرة تسعى حكومة العدالة والتنمية إخفاءها، بتوجيه الرأي العام تجاه عدو يقدَّم كبشَ فداء ويقدَّم قربانا لإخفاء المشكل الحقيقي. وقد يقول القائل ولماذا يتم اختيار “الجماعة” والأستاذ فتح الله كولن لإلصاق التهمة. والجواب في ظني وقد أكون مخطئا هو ذلك الوجود القوي للخدمة في عمق المجتمع التركي، بالإضافة إلى الاحترام الواسع الذي يحظى به الأستاذ فتح الله كولن بين مختلف الأوساط، خاصة بين المثقفين بمختلف توجهاتهم الفكرية والدينية. ولذلك فعندما يتم استهدافُ الجماعة تَضمَن الجهاتُ التي تسعى لإخفاء سرّها إلهاءَ شرائح واسعة من شرائح المجتمع التركي. وقد كانت الحملة الحالية سبقت بحملة أخرى استهدفت تقديم مقترح للبرلمان يرمي إلى إغلاق المدارس التحضيرية للجامعة، وهي مدارس واسعة الانتشار في تركيا وخاصة في المدن الكبرى هدفها الأساسي هو إعداد الطلبة لولوج الجامعة في مختلف صنوف العلوم والتخصصات، وهي معاهد تعقد عليها الأسر التركية آمالا كبيرة، ويتم التعويل عليها في إعداد أبنائها لولوج أفضل الجامعات والمعاهد.

النظرة الموضوعية تفرض عدم الانسياق وراء ما يجري في تركيا، وإساءة الظن بالخدمة وبالأستاذ فتح الله كولن؛ لأن سيرة حياته كلها خالية من كل ما يسيء ويضر بلده تركيا.

وصاحَب الحملةَ نفسها حملة أخرى لإغلاق ما يعرف في شرق الأناضول ببيوت المطالعة، وهي دور يجد فيها الشباب كل ما يحتاجون إليه من عناصر الدعم الفكري والمعرفي، وهي تقوم بدور في الحيلولة دون الصعود إلى الجبل والسقوط في براثن الإرهاب الذي يشكل أزمة حقيقية بالنسبة لتركيا، كما يخبر بذلك أحد المتابعين لهذه المؤسسات. وتعرف هذه الدور بكونها دورا وقفية ينشئوها الشعب نفسه، فهي من الشعب التركي وللشعب التركي. ولذلك استغرب الشارع التركي محاولة الحكومة إغلاق هذه الدور دون اقتراح البديل، الأمر الذي قد يدفع إلى القول بأن المستهدف هو الشعب نفسه وليس غيره. ومن الممكن أن نفهم بأن السبب في ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى كون الخدمة هي أول من فكر في هذه الدور، وأول من عمل على دعمها معنوية وماديا. ولعل هذا هو العامل الذي يجعل الجماعة محبوبة بين السكان في هذه المناطق، الأمر الذي يفسر استنكار الشارع التركي الحملة ضد الجماعة وضد شخص الأستاذ فتح الله كولن. وقد أثمر الضغط الذي مارسه الشارع إلى تأجيل المشروع لسنة.

أردوغان لا يصغي للناصحين

عبر الكثير من المنصفين الذين لا ينتمون بالضرورة للتيار الإسلامي عن استغرابهم لموقف الحكومة ضد الجماعة، وهي التي كانت داعما له في وصوله إلى الحكم، وداعما قويا في التصويت على حزمة القوانين الداعمة للمسلسل الديمقراطي وللمؤسسات؛ ووجَّهت في الوقت نفسه النصح لأردوغان بأن يخفف من حملته، وأن يضع في اعتباره أن تصرفاته تهدد كل ما جرى بناؤه بيد الأتراك جميعا، وهو ما أعطى لتركيا المكانة التي تحتلها في ضمير العالم والعالم الإسلامي على الخصوص، وهي مكانة ساهم فيها كل الأتراك وليس حزب العدالة والتنمية وأردوغان وحدهما.

لماذا اختيرت الخدمة والأستاذ كولن ككبش فداء؟ والجواب في ظني يكمن في الوجود القوي للخدمة في عمق المجتمع التركي، بالإضافة إلى الاحترام الواسع الذي يحظى به الأستاذ كولن بين مختلف الأوساط.

تم الكشف عن وثيقة تصنفها الصحافة المحلية بالخطيرة، حددت فيها الحكومة أولوياتها بالنسبة للأمن القومي تضع الجماعة في مقدمة الحركات التي يجب القضاء عليها. كل هذه الأمور تدفعنا إلى أن نكون على حذر في الحكم على ما يجري في تركيا، خاصة إذا تم استحضار العمليات التي قام بها الأمن والقضاء في الآونة الأخيرة ضد شبكة متهمة بالفساد المالي، يتزعمها رجل أعمل إيراني لا يتجاوز عمره 29 سنة، وتورط فيها أبناء بعض الوزراء. الأمر الذي يدعو إلى طرح أكثر من سؤال عن الأسباب الحقيقية للأزمة وتجعل النظرة الموضوعية تفرض عدم الانسياق وراء ما يجري، وإساءة الظن بالخدمة وبالأستاذ فتح الله كولن، لأن سيرة حياته كلها خالية من كل ما يسيء ويضر بلده تركيا.