الهجمة الشرسة التي يشنها أردوغان على أوساط أتباع حركة الخدمة تتجاوز كونها رد فعل على المحاولة الانقلابية، بل تعكس طموحًا سياسيًّا لدى أردوغان يمكن قراءته من منظور عقدة “قتل الأب” الشهيرة في علم النفس.
ما لم يكن متوقعًا أن يحققه أيّ انقلاب ناجح في تركيا أنجزه الانقلاب الفاشل ليوم 15 يوليو/ تموز(2016م)، فقد بدا الرئيس رجب طيب أردوغان كما لو كان حاكمًا جديدًا استولى للتوّ على السلطة في البلاد، ويريد أن يصفي حساباته مع ماض لا يرغب فيه، وبعد أزيد من عقد من الزمن في الحكم يبدو أن شهوة السلطة قد ازدادت مع كثية الاستعمال.

لكي يضع أردوغان قطيعة مع تجربة “أربكان” بدأ في إرسال رسائل سياسية لدفع تهمة الانتماء إلى التيار الإسلامي عنه، فأرسل ابنيه للدراسة في أميركا، وقام بمبادرات إيجابية إزاء الغرب، وحصل على جائزة الشجاعة الفائقة من منظمة “إيباك” اليهودية.

منذ انكشاف فضائح الفساد التي عصفت بالحكومة التركية عام (2013م)، حين كان أردوغان رئيسًا للوزراء، واندلاع الصراع المكتوم ما بين حركة الخدمة لفتح الله كولن وحزب العدالة والتنمية، بدا واضحًا أن أردوغان يتحين الفرصة الأنسب للقضاء على الحركة وتصفية وجودها، وقد اتخذ الهجوم على الحركة في المرحلة الأولى أسلوبًا سياسيًّا وقانونيًّا، من خلال متابعة عدد من المسؤولين والصحافيين المحسوبين على الحركة واعتقالهم، وشن حرب إعلامية صامتة على حركة الخدمة، ولكن ذلك الأسلوب لم يؤدّ إلى النتيجة التي كان أردوغان يتوخّاها، وهي اجتثاث الحركة بشكل نهائي، إذ ظلت تمتلك وسائل إعلامها التي تسدد عبرها ضربات مقابلة إلى الحكومة، كما ظل حضورها الاجتماعي التعليمي والاقتصادي قائمًا.

ظل أردوغان يقدم صورة مزدوجة عن نفسه، واحدة للشارع لدغدغة مشاعر الإسلاميين وجذبهم إليه، والأخرى إلى الغرب في الخارج والمؤسسة العسكرية في الداخل.

أمام تصلب الحركة ومقاومتها لعوامل الفناء لجأ أردوغان إلى أسلوب آخر، وهو مصادرة صحفها وقنواتها التلفزيونية التي تتوفر على تأثير معتبر في الرأي العامّ التركيّ، فكان اقتحام مقر جريدة “زمان” واسعة الانتشار، والاستيلاء عليها وتغيير خطها التحريري، ومصادرة مجموعة “سَمَانْيُولُو” التلفزيونية، وبات واضحًا أن المرحلة التالية ستكون الأصعب، وهو ما حصل عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، حيث انطلقت عملية الاجتثاث بشكل مباشر بدعوى تورط الحركة في تلك المحاولة، وهو ما أعلنه بوضوح وزير الطاقة التركي صهر أردوغان “برات أَلْبَايْرَاقْ” في ندوة صحافية، حين قال إن المجلس العسكري التركي الأعلى كان يخطط لطرد جميع الضباط المرتبطين بالحركة، ما يعني أن الخطة كانت جاهزة.
لكن الهجمة الشرسة التي يشنها أردوغان على أوساط الحركة، والتي تشبه الحملة الماكرثية في أوساط الشيوعيين الأمريكيين خلال الأربعينات التي جمعت ما بين الترهيب والملاحقة، تتجاوز كونها رد فعل معقولاً على المحاولة الانقلابية، فالواقع أن هذه الحملة -الشبيهة بعمليات التجفيف- تعكس طموحًا سياسيًّا زائدًا لدى أردوغان نفسه، يمكن قراءته من منظور عقدة قتل الأب الشهيرة في علم النفس الإكلينيكي.

منذ فضائح الفساد عام 2013 وأردوغان يتحين الفرصة الأنسب للقضاء على الحركة وتصفية وجودها.

قبل أن يشن أردوغان حربه على فتح الله كولن بدأ أردوغان مساره السياسي بالانقلاب على أستاذه نجم الدين أربكان، الذي يعد الأب المؤسس لتجربة الإسلام السياسي التركية، عمل أردوغان إلى جانب “أربكان” في حزب الرفاه إبان التسعينات، وترشح باسم الحزب وشرع في بناء فريقه من داخله، قبل أن يبدأ في رسم القطيعة مع “أربكان” ويتهمه بالمحافظة والأبوية، ويصف تجربته وفريقه بالتجربة السياسية الجديدة المختلفة عن الإسلام السياسي التركي، قوامها الإنجاز المصحوب بالشعبوية، وتحويل أيّ أداء إلى أداة لشحن الجماهير، ولكي يضع قطيعة مع تجربة “أربكان” بدأ في إرسال رسائل سياسية لدفع تهمة الانتماء إلى التيار الإسلامي عنه، فأرسل ابنيه للدراسة في أميركا، وقام بمبادرات إيجابية إزاء الغرب، وحصل على جائزة الشجاعة الفائقة من منظمة “إيباك” اليهودية؛ لكنه مع هذا ظل يقدم صورة مزدوجة عن نفسه، واحدة للشارع لدغدغة مشاعر الإسلاميين وجذبهم إليه، والأخرى إلى الغرب في الخارج والمؤسسة العسكرية في الداخل.

قبل أن يشن أردوغان حربه على فتح الله كولن بدأ أردوغان مساره السياسي بالانقلاب على أستاذه نجم الدين أربكان، الذي يعد الأب المؤسس لتجربة الإسلام السياسي التركية

ولقد ظهرت هذه الازدواجية في موقفه من المؤسسة العسكرية بتركيا، فخلال السنوات الماضية ظل أردوغان يعتبر الجيش التركي دولة عميقة أو موازية، واستطاع مخادعة حركة الخدمة التابعة لـ”كولن” لنيل دعمها في فوزه بانتخابات عام (2002)، بعد أن كان ولاؤها في السابق لحزب “أربكان”، وبعد سنوات من الحكم وتثبيت سلطته أصبحت حركة الخدمة هي التي تمثّل الدولة العميقة أو الموازية! في انقلاب يعكس الانتهازية السياسية التي تشكل طابعًا مميزًا لفئة عريضة من الإسلاميين، فبين عشية وضحاها تحولت المؤسسة العسكرية من دولة موازية لا يستطيع الاقتراب منها، إلى مؤسسة يستطيع أن يطرد منه العشرات من الجنرالات ويتصرف في شؤونها الداخلية بكلّ حرية.