لا شك أن التعليم وسيلة أساسية يتعرف بها الإنسان على حقيقته الذاتية، ويصل بها إلى إمكاناته الكامنة، وإن هذه الرؤية واحدة من المبادئ الرئيسية في فكر الأستاذ فتح الله كولن، وأحد أهم نشاطات مشروع الخدمة. هذه المقالة لها ثلاث أهداف رئيسة، الأول تقديم تعريف عام لمشروع الخدمة، الثاني تسليط الضوء على الخصائص المميزة لمجهودات مشروع الخدمة المتعلقة بنشاطها التعليمي، والثالث هو التعبير عن مدى تجسيد تعاليم فتح الله كولن لفهم التعليم والالتزام به كقوة تحررية، وهو التزام يتردد صداه بعمق في دور التعليم في تفعيل الحقوق المدنية داخل الولايات المتحدة.
التعريف بالخدمة
أُعَرِّف “الخدمة” أنها حركة عالمية للإصلاح الاجتماعي والتجديد الروحي، لها هويتها الثقافية والتعليمية والتربوية تحافظ عليها، وفي الوقت نفسه تفتح أبوابها وتجذب كل البشر من مختلف الديانات والخلفيات الثقافية، الذين يتفقون معها في المبادئ والقيم العالمية، وهذه القيم تدور حول أهمية الأسرة، والتعليم، والمسؤولية الفردية، وتقديم العون للآخرين.. وكل ذلك في سياق حياة تدور في فلك محبة الله. هذه القيم متوجهة لتأسيس الحوار والتعاون مع وعبر مختلف المجتمعات والحضارات، من أجل تحقيق مزيد من العدالة، وبالتالي مزيد من السلام والتضامن للعائلة الإنسانية جمعاء.
يشجع كولن المؤمنين بأفكاره تبنِّي مشروع استخدام الأفكار الحديثة لنقد وفهم القيم والممارسات التقليدية بشكل أفضل، واستخدام التعاليم التقليدية لتقييم ميزات الحداثة، والوصول إلى التركيب الأمثل بين التقليدي والحديث.
وهكذا نجد أن الخدمة تقف على النقيض ممن يطلقون على أنفسهم لقب حركات “إسلامية” وغالبًا ما يكون هدفهم الأصلي سياسيًّا، ويحملون أجندة لأسلمة الحكومات والأنظمة داخل البلاد التي هي في الأصل ذات أغلبية مسلمة.
1- التسامح روحُ مشروع الخدمة
كما يعرف العديد من القراء، فإن الخدمة تستوحي عملها من أفكار رجل نذر حياته لخدمة الطلاب، وكان يقطع العشب ويغسل الصحون من أجل الطلاب وهو الأستاذ فتح الله كولن يقدّره الملايين من المحبين حول العالم، ويعتبرونه واحدًا من أهل الله المخلصين.. إنه رجل أعطاه الله الحكمة، وأنا شخصيًّا مثل الملايين أعتبره ” أستاذي الحبيب”.
في الحقيقة يمكن القول الكثير عن هذا الرجل النادر، بل يمكن كتابة المؤلفات عن حياته العجيبة وتضحياته من أجل خدمة الإنسان، وتواضعه وإخلاصه لله تعالى.. ويمكن كتابة ما لا يحصى من المجلدات عن أفكاره المنشورة في كتبه المترجمة للعديد من اللغات، ولكن الأستاذ فتح الله كولن، لن يرضى أن يُوقِف شخص وقته للكتابة عن شخصه، بل أعتقد أنه سيكون في غاية الانزعاج. فهو يفضل الحديث عن هدفه النبيل الذي قدم عمره من أجله، ويدعو الآخرين للاشتراك معه في هذه الغاية النبيلة.. لذا، احترامًا لحساسية الأستاذ سأتحدث عن التسامح الذي يعدّ الروح السائدة في حركة الخدمة المستلهِمة من فكر الأستاذ فتح الله كولن.
يتحدث الأستاذ عن التسامح فيقول في شعره:
افتح قلبك ليسع المحيطات، وتَحلَّ بالحب لكل الموجودات..
لكل الأرواح الحزينة مد يد العون، ولا تدع خارج باب قلبك روحًا تئن.
ورغم أنها أبيات مترجمة، لكنها تشعرك بنفحات قِيَمِية وروحية عميقة، وتقف أمامك قوية رغم عدم كفاية الترجمة للتعبير عن النص الأصلي. أما مصطلح التسامح في اللغة التركية فهو كلمة “Hoşgörü”، وهي تتكون من كلمتين، وتعني بصورة حَرْفِية أن ترى الآخرين من منظور جيد. ولقد علق الأستاذ فتح الله كولن على المعنى اللغوي للكلمة فقال: “النظر بعدسة التسامح يعمق إيمان الشخص، ويجعل إيمانه بعمق لانهائي، ويقلص الأخطاء والمعاصي إلى أدنى حد. والحقيقة أن الله المتعالي عن الزمان والمكان، معاملته لخلقه تمر من طريق التسامح، ونحن نأمل أن تعم روح التسامح كل الموجودات”(1).
يركز كولن على أن المعلم يمثل نموذجًا أخلاقيًّا حيًّا للتسامح، ليس فقط داخل الصف الدراسي كتربوي، ولكن كمعلم بمعنى أوسع وأشمل.
وإذا دققنا النظر هنا لما قاله الأستاذ كولن، نجده لا يقول كرامة الإنسان ترتفع من خلال قيمة التسامح، بل يقول إن الله تعالى بنفسه ينظر للخلق بعدسة التسامح ويعاملهم وفقًا لها.
وبوصف آخر فإن كولن يعبّر عن التسامح، بأنه أمر إلهي ديناميكي في العلاقة بين الخالق والمخلوق، فإن كان الله الواحد العالي المتعالي ينظر بعين التسامح للخلق -لا سيما نحن البشر- بالرغم من ارتكابنا للمعاصي والآثام، فيزيد من حسناتنا كما في الحديث رقم 37 من كتاب الأربعين النووية، فلماذا وكيف ينظر البشر الآثمون للآخرين بطريقة مختلفة؟
2- التعليم القائم على النموذج الأخلاقي
قبل أن ألتقي شخصيًّا مع الأستاذ كولن، شعرت أني قابلته في كل مَن قابلتهم من أصدقاء داخل الخدمة، فهم يجسدون تعاليمه في حياتهم ويلتزمون بها، وهي التواضع والاهتمام بالآخرين والمسارعة بالمساعدة، واهتمامهم بالقيم الأسرية، وتطوير أنفسهم، وحبهم التعلم من الآخرين والاستفادة من خبراتهم.. كل هذه الأوصاف الطيبة كنت أراها ممثلة في كل الأصدقاء الذين قابلتهم داخل الخدمة، على الرغم من الأعمال التي يقومون بها وفي مناطق مختلفة في العالم. عالمنا اليوم متعطش للمثال والنموذج وليس فقط للخطاب المنمق، والخدمة تعمل جاهدة لسد هذه الحاجة عبر تبنِّيها لمنهجية النموذج الأخلاقي في التعليم، وهذه المنهجية تعتبر عنصرًا رئيسيًّا في الفلسفة التعليمية التي ينادي بها الأستاذ كولن.
وكما يقول “روث وودل”(2): “إن كولن لا يطلق لفظ “التعليم” على الجوانب السطحية والفنية في العملية التعليمة، ولكنه يطلق مصطلح “التعليم” على أداء أشد عمقًا ومعنى أكثر شمولية”(3)، وعلى الرغم من الأهمية التي تعلقها المدارس على التدريب والجوانب الفنية داخل الفصول الدراسية العملية، فالمعلم أكثر من مجرد مزوِّد للمعلومات أو المهارات. والعلاقة بين المعلم والتلميذ علاقة في غاية الأهمية: “الطريقة الأفضل للتعليم، هي إظهار اهتمام حقيقي لكل طالب وبصورة فردية، مع عدم إغفال حقيقة أن كل فرد هو عالم مختلف”(4).
قبل أن ألتقي شخصيًّا مع الأستاذ كولن، شعرت أني قابلته في كل مَن قابلتهم من أصدقاء داخل الخدمة، فهم يجسدون تعاليمه في حياتهم ويلتزمون بها
وهكذا، ففكر كولن يركز على أن المعلم يمثل نموذجًا أخلاقيًّا حيًّا للتسامح، ليس فقط داخل الصف الدراسي كتربوي، ولكن كمعلم بمعنى أوسع وأشمل. ولا ينبغي علينا إغفال أن النموذج الذي يستهدفه كولن من المعلم، يتماشى مع مفهوم التسامح داخل حركة الخدمة، ونجده أمام أعيننا ممثلاً في أكثر من 1500 مدرسة حول العالم.
وبالعودة لـ”وودل”: “الأهمية الممنوحة لتطوير الأفراد داخل الحركة، تقود المدرسين والإداريين لساعات عمل إضافية مجانية، ونجد المدرسين يخصصون أوقاتًا لإعطاء الدروس للطلاب خارج ساعات العمل وفي نهاية الأسبوع. والطلاب المتخرجون في تلك المدارس والملتحقون بالجامعات، يعودون للمدرسة للقيام بأعمال تطوعية لخدمة الطلاب الآخرين”(5). ولا يقتصر إيثار المعلمين على التضحية بوقتهم للطلاب، بل إنهم يقدِّمون مساعدات مادية للطالب إذا استدعى الأمر، فالعديد من المعلمين يسهم في دعم الطلاب ماليًّا ويدفعون جزءًا من المصاريف الدراسية، أو كلها في بعض الأحيان.
3- التقييم النقدي المتبادل بين التقليد والحداثة
من سمات تعاليم فتح الله كولن وحركة الخدمة، والتي تمتد جذورها إلى أعمال بديع الزمان سعيد النورسي (المتوفى عام 1960)، نجد اهتمامًا بإجراء محادثة نقدية بين التقليد والحداثة فيما يتعلق بمسائل التنمية الاجتماعية والثقافة والإصلاح. فإن كولن يشجع أولئك الذين يلهمهم على تبنِّي مشروع استخدام الأفكار الحديثة لنقد وفهم القيم والممارسات التقليدية بشكل أفضل، واستخدام التعاليم التقليدية لتقييم ميزات الحداثة، والوصول إلى التركيب الأمثل بين التقليدي والحديث، من أجل رفاهية المجتمعات البشرية.
كواحد قضى سنواته التكوينية في أواخر القرن العشرين في تركيا، شهد كولن -بشكل مباشر- التأثيرات السلبية للعديد من الدعاية العلمانية القسرية والقمعية كجزء من مشروع أكبر بكثير للهندسة الاجتماعية القومية. على وجه الخصوص، أدرك كولن أن “الديمقراطية” وسمعتها كقيمة “حديثة”، لا يمكن أن تكون أكثر من مجرد خطابات بلاغية مجازية. ففي الواقع شاهد الطريقة التي استخدم فيها هذا المجاز -عندما استخدمه الجمهوريون الأتراك- ليخفي وجهًا لا يرحم من الاستبداد الكمالي الذي يمكن تقييمه على أنه أقل “ديموقراطية” وأقل بالتأكيد “تعددية” من نظام الدولة العثمانية. لذا بالنسبة لكولن، يمكن أن تكون الأفكار الحديثة، مثل تلك المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عدسة مفيدة للغاية يمكن من خلالها للمسلمين أن يشرحوا بمزيد من الوضوح بعض المبادئ العالمية والإنسانية التأسيسية المعلنة في القرآن الكريم، و جزءًا لا يتجزأ من الفقه الإسلامي. وعلى نفس المنوال رأى كولن أن هذه المبادئ تمتلك الكثير لتقدمه ليس فقط لمصلحة المجتمعات المسلمة المعاصرة، بل لجميع المجتمعات الإنسانية.
الخدمة تقف على النقيض ممن يطلقون على أنفسهم لقب حركات “إسلامية” وغالبًا ما يكون هدفهم الأصلي سياسيًّا، ويحملون أجندة لأسلمة الحكومات والأنظمة داخل البلاد التي هي في الأصل ذات أغلبية مسلمة.
ولذلك كتب الأستاذ كولن عن الديمقراطية قائلاً: “لقد تطورت عبر الزمن ومرت بمراحل عديدة عبر التاريخ، وستستمر في التطور في المستقبل وعلى طول الطريق، حتى تتشكل لتناسب احتياج الإنسان وتصبح نظامًا عادلاً، نظامًا يقوم على العدالة والواقعية. فلو نُظر للإنسان بصورته الكلية ولم يُغفل بعده الروحي واحتياجاته الروحية، ولم يُنس كون الإنسان كائنًا أخرويًّا وليس مجرد كائن سينتهي بانتهاء هذه الحياة الدنيوية الفانية، حينها ستصبح الديمقراطية نظامًا مثاليًّا يسعد جميع البشرية. والمبادئ الإسلامية كالمساواة والتسامح والعدالة، قد تساعد في تطوير الديمقراطية”(6).
4- اندماج العقل بالقلب والذكاء بالرحمة
إن الدمج بين الذكاء والرحمة بأوسع معانيه يعبر عن الأستاذ كولن وحركة الخدمة من خلال نهج روحي شمولي واسع، وعلى وجه الخصوص فأبناء الخدمة يفهمون ضرورية العقل في حل المعضلات الاجتماعية المعقدة التي تحتاج إلى تحليل ومعالجة دقيقة، ولكن أبناء الخدمة في الوقت ذاته يعتبرون أن أي حل منطقي يحكم عليه من خلال تأثيره على حياة البشر لا سيما من اهتم بهم القرآن وعبر عنهم بـ”المستضعفين”، وأطلق عليهم العهد الجديد تعبير “الجوعى والعطشى للعدالة”.
5- الحوار والتشاور
الحوار والتشاور موضوع مرتبط بالدمج بين العقل والقلب، خاصة ما يتعلق بتحقيق تطوير اجتماعي صحي، فكلٌّ من الأستاذ كولن والخدمة، يتمسكان بالحوار والتشاور، والتشاور أو “الاستشارة” هي عبارة عن مناقشة جماعية حول أفضل إستراتيجيات لتحقيق الأهداف الاجتماعية. وفي الحقيقة لن أذهب بعيدًا إنْ قلت إن الحوار كان نتيجة طبيعية للتشاور الذي يمثل ديناميكية داخل الحركة، ومن ناحية أخرى فالخدمة تتمسك بالحوار بين الثقافات والأديان. بل إن لدي اعتقاد راسخ بأن أخلاقيات ومبادئ الخدمة وممارستها للحوار والتشاور، يتألف منهما الشخصية المميزة للـحركة المدنية(7).
قصة شخصية توضيحية
أود الآن أن أقص عليكم واقعة شخصية توضح عالمية الحركة، كما أنها ستساعد في توضيح التعريف الذي أطلقته على الحركة، والعناصر الخمسة الرئيسية التي حاولت شرحها بصورة مختصرة. منذ عدة سنوات كان لدي مناسبة استدعتني للسفر إلى دولة جنوب أفريقيا، ومن بين الأمور العديدة، تيسرت لي فرصة لزيارة أكاديمية الرياضيات والعلوم للأولاد التابعة للخدمة، والتي خدمت إلى حد كبير شبابًّا من بلدة “سوتو” التي كانت تعاني اقتصاديًّا من الفقر المدقع، وفي الحقيقة كنت زرت سابقًا مدينة “سوتو”، وعرفت فيها أناسًا يمتلكون معنويات عالية على الرغم مما يعانونه من الفقر المدقع.. ولقد أخذني أحد المعلمين لزيارة أسرة أحد التلاميذ محاولاً تطبيق النموذج التعليمي الشامل الذي يدعو له الأستاذ كولن، وسعدت أثناء الزيارة للمدرسة بأسئلة التلاميذ المطروحة، كما سألتهم عن أوضاعهم وأوضاع المدرسة وأحلامهم وآمالهم.
“الخدمة” حركة عالمية للإصلاح الاجتماعي والتجديد الروحي، لها هويتها الثقافية والتعليمية والتربوية تحافظ عليها، وتفتح أبوابها لكل البشر من مختلف الديانات والخلفيات الثقافية، الذين يتفقون معها في المبادئ والقيم العالمية.
وبعد هذا الحديث الممتع، عدت مع المسؤول إلى غرفته وطرحت عليه سؤالاً عن خلفية هؤلاء الطلاب الذين قابلتهم توًّا، فتبسم قائلاً: “آبي”(وهي لفظة تركية تدل على الاحترام)، 80% من الطلاب هم كاثوليك مثلك.. حينها لم أستطع أن أتمالك دموعي وأنا أعرف أن أبناء الخدمة لا يجدون حرجًا في البكاء أو رؤية أحد يبكي. فالتفكير بأن هؤلاء الأتراك سافروا ملايين الأميال تاركين العيش الرغد والإمكانات المادية الممتازة، وكذلك الجو الروحي.. تاركين عائلاتهم وبيوتهم وجاؤوا لبناء مدرسة في مدينة “سوتو”، ليستفيد منها الشباب الكاثوليك.. هناك أحسست بحالة غامرة من المشاعر، وبعد ذلك عدت إلى أمريكا لكي أزور الأستاذ كولن وأراه بصورة شخصية(8).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) The Necessity of Interfaith Dialogue: A Muslim Perspective” (2001)
(2) Fethullah Gulen’s Philosophy of Education in Practice”
(3) Unal and Williams 2000:312
(4) Unal and Williams 2000:313
(5) Aslandogan and Cetin 2007:54
(6) Toward a Global Civilization of Love and Tolerance
(NJ: Tughra, 2011 p. 224)
(7) cf. Etga Ugur, “Civic Islam in the Public Sphere: the Gulen Movement, Civil Society and Social Capital in Turkey” http://www.islamconference.org/2006/ICI-06%20PAPERS/ABSTRACTS/Etga%20Ugur.pdf).
(8) هذه نسخة مختصرة ومحررة من حديث قدّمه المؤلف في الأصل بمناسبة منح الأستاذ فتح الله كولن شهادة غاندي الدولية وجائزة كينغ وجائزة إيكيدا لحقوق الإنسان ومبادرات السلام من قبل القس الدكتور مارتن لوثر كنغ من كلية مورهاوس الدولية في 09 أبريل 2015.