الإنسان مخلوق ترابي، له في التراب نسب عريق، وقربى وصلة، فإذا مات عاد إلى التراب وارتمى في أحضانه، وغفا على صدره.. فالتراب مادّة الحياة الأولى في خليقة الإنسان، وفي خليقة الزهر والشجر والحَبّ والثمر، ومن دونه لا أفواه تأكل، ولا معدات تشبع.. ولأنّ له حياة تضاهي حياة الماء “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ”(الأنبياء:30). حَلّ محلَّه عندما يكون مفقودًا “فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا”(النساء: 43) ولأنه حياة قال الله تعالى في الأرض أُمِّ التراب “مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ”(ولم يقل نُمِيتُكُم) وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ (ولم يقل سبحانه نُحْيِيكُمْ، وكأننا كنَّا أحياءً في قبورنا ثم بعثنا منها) تَارَةً أُخْرَىٰ” (طه:55).

فالمحوية فيه قربة من الله تعالى كما في الحديث الشريف “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدْ، فَأَكْثِروا الدُّعَاءَ”(رواه مسلم)، حتّى أنَ بعض علمائنا كره أن يسجد المصلي على شيء يحجب جبهته عن الأرض، ولَمّارأى الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا عليًّا رضي الله عنه نائمًا على التراب خاطبه قائلاً: “قُمْ أَبَا تُرَاب”(رواه مسلم)، فصارت لقبًا يُعرف به ويُلازمه، ووسامَ تشريف وتكريم له.

وإنْ كنّا ترابيين في أصل خليقتنا، غير أننا لم نبذل أيّ جهد جدّي لتعميق دراستنا للتراب هذا العنصر المهم الذي خُلقنا منه، واكتفينا بهذا الفهم السطجي الظاهري الذي يوهم بأننا عرفناه كما ينبغي أنْ يُعْرَف.. وفي التراب حرقة وعطش وانتظار دائم لمساكب الماء من الدفوق السماوية العليا لتبُلَّ حرقاته، وتطفئ تعطشاته، وتنعش حيوياته، فيهتز ويربو من خلال لقاء حميمي يين حياتين، حياة الماء وحياة التراب.

وإنه لأمر في غاية الوجوب أن يحظى التراب في كل مرّة بلمسة مائية تتنزل عليه من سماء الرحمة قبل أن يغيب عن وعيه الإحيائي فيما حوله من أشياء ميتة أو في طريقها إلى الموت.. ولكي يكتسب قوة جديدة تعزز قوته الإحيائية في الأشياء المنتظرة للهزّة الإيقاظية من النوم الذي يكبس بثقله عليها والذي تراه عذابًا لا يحتمل، تسعى للخلاص منه، والعودة إلى كامل قواها التيقظية والحياتية التي يطمح كل ميت أن يعرفها ويجربها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: أديب إبراهيم الدباغ، فتح الله كولن في شؤون وشجون، دار النيل للطباعة والنشر، طـ1، 2013م، صـ136/ 137.

ملحوظه: المقال كما قال الأستاذ أديب الدباغ في مقدمة الكتاب يمكن أن ننسبه للأستاذ كولن؛ لأنه من وحي فكره، ولكنه ليس للأستاذ كولن لأنه كتب بغير قلمه، وبغير مفرداته.

About The Author

ولـــد عـــام 1931م في الموصل بالعراق. حصل على دبـلـوم فـي التربية والتعليم ثم مارس التدريس 29 سنة منذ عام 1953م. كما مـــارس الكتابة في الصحف والمجلات العراقية والعربية منذ 1950م. شارك في العديد من المؤتمرات والـنـدوات الدولية. كتب الكثير من الأبحاث. له أكثر من 14 كتابًا في الإسلاميات؛ منها «الاغـتـراب الروحي لدى المسلم المعاصر»، «الضاربون في الأرض»، «رجـل الإيمان في محنة الكفر والطغيان»، «إشراقات قلب ولمعات فكر من فيوضات النورسي».

Related Posts