من الترفيعات التي خص الله بها الأمة المسلمة أنْ جعلها أمة القرآن، حيث كان لها في هذا الكتاب القدسي المحفوظ أعظم حاضن، وأفقه مربٍّ، وأزكى موجِّه.. من هنا لبثت الدعوة إلى الاستفاقة تراهن لتحقيق النجاح في كل عصر على تعاليم القرآن، وطفقت التجارب والجولات والتمحيصات تتكلّل بالنصر كلما كانت آصرة الاستناد على القرآن قوية، والرابطة معه مستحكمة.

ولعل الشمولية التي لبثت الأجيال تشهد بها للقرآن العظيم، (والتي هي أحد أبرز وجوه إعجازه)، تكمن في هذا التحفيز البيداغوجي الجلي الذي تمارسه مخاطباته على القارئ المسلم، دفعًا له للتّأمل والتفكير وبناء العقل الاستقرائي المحلل للظواهر، والمتفحّص للقوانين.

 القرآن الكريم يخاطب العقل

من مفاتيح المتن القرآني المتواترة التي راوحت سياقاتُها بين التنبيه والحضّ والتعريض والتقريع،قوله تعالى:﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(الأَنْعَام:32)،﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(الأَنْعَام:152)، ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾(الأَنْعَام:50)، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾(يُوسُف:109)، إلى آخر ما هنالك من مواقف تخاطب العقل وتعلي منْزلة الفكر وتنوّه بالتفكير.. من هنا كانت الأمّة المسلمة أمة مفكرة بالقوة، ولولا ما عرض لها من عوامل الجهل والتفريط والحيدة عن جوهر القرآن وفهْمه حقّ الفهم، لظلّت أمّة الفكر والتفكير بالفعل والصدق.

لبثت الدعوة إلى الاستفاقة تراهن لتحقيق النجاح في كل عصر على تعاليم القرآن، وطفقت التجارب والجولات والتمحيصات تتكلّل بالنصر كلما كانت آصرة الاستناد على القرآن قوية، والرابطة معه مستحكمة.

يقول الأستاذ كولن: “التفكر دم الحياة الإسلامية” (التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، فتح الله كولن،1/43)، وإذا “انعدم التفكير، أظلم القلبُ واضطربت الروح، وتحولت الحياة الإسلامية إلى موات هامد”(التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، فتح الله كولن،1/43).

التفكير.. عبادة

التفكير في شرعة الإسلام عبادة، لأن الإسلام جعل التأمّل في الأكوان واستقراء الظواهر وفهْم الطبيعة، سبيلاً إلى ترسيخ الإيمان، ومنهاجا لاستنْزال بركة اليقين، “التفكر (الإيماني في الكون) يكون موضع واردات ذات بركة”((التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، فتح الله كولن،1/45).

لقّن الإسلام مبادئ العقيدة والتوحيد، وكرّر آيات الوحدانية. ثم أوجب على المؤمن أن يستقرئ معالم الوحدانية والتوحيد في مظاهر الطبيعة  والكون من حوله.

لقد لقّن الإسلام مبادئ العقيدة، فأنزل سور التوحيد، وكرّر آيات الوحدانية ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾(الإِخْلاَص:1)، ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾(البَقَرَة:255).. ثم أوجب على المؤمن أن يستقرئ معالم الوحدانية والتوحيد في مظاهر الطبيعة ومجالي الكون من حوله، فكان من ثمة هناك “تفكير ينتهي إلى الله، وتفكير يبدأ به عز وجل”(التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، فتح الله كولن،1/46)، وفي الحالين، يكون الفرد المتفكر على موعد مع التوفيقات، كالأرض تزدهر وتخرج ما في بطنها، سواء أأبكرها الغيث أم جاءها مُعْقِبًا.

التنوير بالقرآن

لا ريب أن أهل البصيرة الإيمانية يلمسون بكل يسر الروح التنويرية التي تجسدت فيها تعاليم القرآن، والكيفية المنطقية التي عرضت بها تسديداته، يقول الأستاذ كولن: “إن الذين يعملون في ساحة العلم والعرفان والحكمة، يطالعون هذا الكتاب العظيم بكل رغبة ولذّة، ويشهدون بأنه يشرح أسرار الوجود والأمور الدقيقة الموجودة في روح الطبيعة، ويضعها أمام أنظارهم”(ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:59).

——————————————————

المصدر: سليمان عشراتي،الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ 66-68.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

 

About The Author

أ.د. سليمان عشراتي، مفكر وأستاذ جامعي جزائري، يدرِّس في المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، اختصاص الفكر الإسلامي المعاصر والدراسات القرآنية والديانات. له عديد من المؤلفات أبرزها: خماسية "الأمير عبد القادر"، وثلاثية "ابن باديس"، و"النورسي في رحاب القرآن وجهاده المعنوي في ثنايا رحلة العمر" و"المعنى القرآني في رسائل النور"، و"الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن"، و"هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن".

Related Posts