معلوم أن العقل دينامية تفكيرية من طبيعتها تعميم ونشر مكاسبها من المعرفة والقبسات والاستنتاجات التي تتاح لها، دعما لمداركها، وتجديدا ليقينها ومسلّماتها، وهو ما تهيأ للعقل الإسلامي بعد أن فاعلتْه تعاليم القرآن، إذ أطلقته من عقاله، فبات يسرح حرًّا في الآفاق، مستنير الأحكام، متثبتا في جنْي الاستنتاجات.

لم يتأتَّ للمسلمين الأوائل أن يفتحوا الامبراطوريات ويوطّنوا كلمة الله فيها، إلا لأن القرآن جدّدهم روحيًّا، وطبعهم فكريًّا ووجدانيًّا.

ذلك لأن القرآن العظيم يخدم روح الإنسان وفكره، فيطهّره من الشرك ويهيئه للتسديد السليم، ولم يتأتَّ للمسلمين الأوائل أن يفتحوا الامبراطوريات ويوطّنوا كلمة الله فيها، إلا لأن القرآن جدّدهم روحيًّا، وطبعهم فكريًّا ووجدانيًّا، فتهيّأوا على ذلك النحو لأنْ يكونوا ليسوا فحسب فاتحين، بل “هداة البشرية والمرشدين إلى الحضارة القرآنية”[1]

آداب وأخلاق القرآن

آخى القرآن بين الشعوب، ولحم أواصرهم، إنه “كتاب يقدح في أرواح من عشقه فكرة الحرية، ومفهوم العدالة، وروح الأخوة، والرغبة في مساعدة الآخرين، والعيش من أجلهم”[2]. ولا تفتأ الأطوار تكشف عن عظمة مبادئه وتساوقها مع روح الإنسان، مهما امتدّت بهذا الإنسان الارتقاءاتُ العلْمية والتدرجات المدَنية، ولا بدع أن نرى العصر الراهن قد بدأ يتّجه نحو القرآن بسرعة أكبر مما كنا نتوقع أو نتصوّر، وإن هذا التفتح الأممي على الإسلام، باتت مؤشراته لا تخفى على كل ذي عينين[3]، بل لقد بات الإقبال على الإسلام -وإن كان بعد بسيطا- يؤرّق أعداء الدين.

مدوّنة حقوقية سماويّة

القرآن الكريم “مدوّنة حقوقية سماويّة ترسي الحق الذي لا مكان معه لإجحاف”[4]؛ ومَضْبطةُ قيمٍ وأخلاق تستصفي السلوك، وتلجم الأنانية، وتكسر الغرور[5]، وتعلّم الإنسان كيف يكون متواضعًا ومؤاخيا للطبيعة وما يعمرها من أنواع الأجناس.. إنه كتاب جامع للكتب، مُقِرٌّ بنبوءة الرسل أجمعين[6].

آخى القرآن بين الشعوب، ولحم أواصرهم، إنه كتاب يقدح في أرواح من عشقه فكرة الحرية، ومفهوم العدالة، وروح الأخوة، والرغبة في مساعدة الآخرين، والعيش من أجلهم

لقد “ربّى -إلى جانب أبداننا وأجسادنا- قلوبَنا وأرواحنا وعقولنا وضمائرنا، وهيّأنا لنكون إنسان المستقبل، بعد أن أرانا الذرى الموجودة وراء الشواهق المادّية والمعنوية”[7]. ولن نستكمل جهوزيتنا إلا بالاعتداد به، فنقرؤه ونتفكر فيه ونفيد منه مثل ما أفاد طلاّبه الأوائل[8]، إذ هو “كتاب يدعو إلى العلم والبحث العلمي، وإلى التأمّل، والى النظام في التفكير، وإلى قراءة كتاب الكون وفهْم أسرار الوجود[9]

القرآن: عيْن الإنسان لمشاهدة الخلود

إن “حكمةَ تنْزيل القرآن هي إِنشاء نمط جديد من هذا الإنسان الحالي الموجود، والنفوذ إلى القلوب التي لا يمكن لغيره النفوذ فيها، وإنشاء حاكمية الإيمان فيها، وإظهار وتعيين طرق الخلود والبقاء أمام الإنسان الفاني.. وجعله يستطيع التفرج من نافذةِ قلبه ووجدانه على الخلود، وعلى السعادة الخالدة، وهو لم ينتقل بعد إلى العالم الآخر”[10]

هكذا تحددت نظرة الأستاذ كولن للقرآن، إذ اعتبره أهمّ مقومات بناء التفكير الإيماني الفعّال، وأبرز مرجعية تصقل تفكير كلِّ مَنْ يتفتح عليه ويغرس فيه روح الفطنة والنباهة والإيمان الذي لا تتهوّش معه الحياة ولا تفقد به المعاني الجوهرية دلالتها وقيمها.. ولذا راح كولن يحذّر من مغبة سوء تعاملنا مع القرآن، قراءةً وفهمًا وتطبيقًا؛ إذ لم ينحدر بنا إلى الهاوية إلا ما طرأ على فهمنا لنصوص الشريعة من تهاتف وتسطيح سافرين، حيث انتكست الذهنية الإسلامية وباتت تتلقّى مقررات التنزيل على أنها مجرّد سرديات بلا مقاصد أبدية.

تفاعل كولن مع روح القرآن باستنارة فكرية متجددة، ورأى فيه المحرك الأقدس الذي راعى مقتضيات الإنسان الآنية والمطلقة.

لقد تدارس نصوصه بوصفها مجاليَ قدسية حافزة للتدبّر العقلي، ومادة للتفتيق الفكري، تفتح معانيها وأساليب طرحها منافذَ الذهن، وتُقوِّي ملكات الاستقراء والتأمل. فالأستاذ كولن يؤمن بأن الله قد أوجد من خلال محكم تنزيله مدوّنة كتابية تثميرية، تتغذى بإدلاءاتها الروح، وتَترحَّبُ بمدلولاتها عوالمُ القلبِ، وتشرق بإيحاءاتها ومضمراتها شموسُ الوجدان، وتنمو بإيعازاتها طاقات الإنسان الفكرية، وتَنْشَطُ قابلياتُ الاستنارة العقلية، فتتّسع بذلك مداركُهُ في الاتجاه المنطقي الصحيح الذي يتأهّل به الإنسان للحياة العامرة بالمكارم والخيرات.

——————————————————

[1] فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، صـ:62.

[2] المرجع السابق،صـ60

[3] المرجع نفسه، صـ50

[4] المرجع نفسه، صـ60

[5] المرجع نفسه، صـ61

[6] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[7] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[8] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[9] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[10] فتح الله كولن، أضواء قرآنية في سماء الوجدان، صـ183.

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 70-73.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.