إن التاريخ عند كولن ليس مرآةً ينعكس عليها الواقع المتصرم بتفاصيله وحيثياته المجهرية، ولا هو خشبة تتكرر فوقها حوادث ما جرى بدقائقها وتفاصيلها الذرية، ولكن التاريخ مجال استذكاري، وسِجّل تقييدي يمْثُل على صفحاته ماضيَنا كما صاغه أسلافُنا، ويتشخص في خطوطه العريضة أمسُنا كما لابسه أجدادُنا، فيقرأ فيه الخَلَف العِبَر، ويتلقون الدروس من خلال اتعاظهم بما وقع، والاستفادة من الأحداث التي انقضتْ، فلا يعيدون الأخطاء التي وقع فيها سلفهم، بل يتجنبونها، ويسعون دائمًا لاحتذاء الأفعال والمآثر المشَرِّفة، وذات العائد المفيد لهم ولمَن لهم صلة به على وجه أو آخر.
لم يجعل كولن من التاريخ محور ارتكاز في خطابه الدعوي فقط بل ركز عليه ؛ لأنه رأى أن الاعتبار بدروس التاريخ يُعَدُّ من أهم دعائم العراقة والاستمرار.
لم يكن قارئا فحسب … !
وعلى هذا فإن كولن ليس قارئًا للتاريخ، ومتأملاً لوقائعه ونواميسه وحسب، ولكن هو-بالإضافة إلى ذلك- مفاعل عضوي، متوغل في تفاصيل الواقع الاجتماعي والثقافي والروحي للأمة، وقائد منخرط بلا هوادة في عملية صوغ راهنها ومستقبلها، يصبح ويمسي على همومها، يهيب بالرأي، ويستجيب بالمقترح، ويسعف بالدعاء، ويدعم بالتعبئة والمدد، يقتدح الزند، ويولد الفكرة التي تسد الثغرة، وتملأ الفراغ، وتشد الأزر، وتنتصب إنجازًا يسهم في تسريع الانطلاقة. لقد صار بهذا التجند المحض شحنةً من صميم ذرات التيار، تشق المجرى، وتصنع التاريخ، لا مجرد حجرة مغمورة في الأرض يدحرجها السيل، أو يلفظها على الضفة.
التاريخ أساس الهوية
ولم يجعل كولن من التاريخ محور ارتكاز في خطابه الدعوي فقط، يفتأ يحيل إليه ويحاجج به، كإثبات يقوم في وجه أيديولوجية التغريب وكردِّ فعلٍ عليها، ولكنه -إلى ذلك- ركز على التاريخ؛ لأنه استقرأ في شواهد وتجارب النهضات أن الاعتبار بدروس التاريخ يُعَدُّ من أهم دعائم الاستمرار والعراقة والدوام.
التاريخ عند كولن مجال استذكاري، وسِجّل تقييدي يمْثُل على صفحاته ماضيَنا كما صاغه أسلافُنا، ويتشخص في خطوطه العريضة أمسُنا كما لابسه أجدادُنا.
وإذ وضع التاريخ في طليعة عناصر التأسيس، وفي صدارة المحركات التي تُبْنَى عليها الهويةُ ويُرتسَمُ وجهُ الغد، كان يقوم بتصدٍّ نافذ، ومواجهة حاسمة لأيديولوجية القطيعة والقفز على الحقيقة والانبتات عن الأصل، تلك الأيديولوجية التي تقمصها باندفاع أهوج، تيارُ الردة والتغريب؛ إذ راهن أصحاب هذا التيار على اصطناع مستقبل استنساخي، وبناء هوية تركيبة، قِطَع غيارها تُستورد من هناك، من بلاد الغرب موضوع القدوة وأفق الانبهار. ولا شك أن تلك الرؤية للتاريخ برهان على سعة تمرس كولن بنظريات المعرفة المعاصرة، لاسيما في حقل العلوم الإنسانية، ولقد لمسنا لديه رؤية لقراءة التاريخ، وفهم جدليته، وإدراك فعاليته في رسم سيرة الأمم والجماعات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ1، ٢٠١2، صـ19 وما بعدها.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.