إن كولن يجسّد في سيرته الدعوية تجربة حرائية، فيها بعض ما يتشاكل -اقتداء- مع سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) واعتكافه الأزكى بغار حراء. لقد تأبَّى كولن إلا أن يجعل من صحن المسجد مسكنه وموضع إقامته، بل لقد أبى في مستهل أطوار تدرجه في الدعوة، إلا أن يجعل من نافذة أول مسجد تولى الوعظ فيه، مَقرًّا له، ومثوى يؤول إليه آخر النهار، وبذلك الخيار تكون العلاقة الاقتدائية مع خير الخلائق محمد (صلى الله عليه وسلم) قد أخذت طابعًا عمليًّا؛ إذ إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يتهيأ للاضطلاع بالحدث الدعوي، كان قد اتخذ حراء مسكنًا يغشاه، ومستقرًّا يلازمه، ويتفرغ فيه للتبتل وتزكية النفس.
واضح من كتابات الأستاذ كولن أن هناك عاطفة قوية تربطه بموطن الاشتحان الروحي الذي يمثله كل من غار حراء وكهف الفتية أصحاب الرقيم.
آداب الترقي الروحي
ولا يخفى التشابه أو التقارب بين الموضعين : حراء والنافذة، من حيث الوظيفة والدلالة، فكولن كان يعي أن من آداب الترقي الروحي أن يدشن المرء برنامج العكوف، والاستغراق الروحي، وهو على حال من التريض الجسدي والفكري يزداد معها التيقظ والصحْوُ الوجداني. ومن جهة أخرى نرى أن كولن طفق يتوقف في كتاباته مَلِيًّا عند قصة أهل الكهف كما روى تفاصيلها القرآن، وطفق يستخلص منها شرطًا سلوكيًّا يرى -الأستاذ- أن على كل منخرطٍ في المهمة الدعوية أن يتمرس به . إن تجربة التكهف، أي الأخذ بسلوك العزلة والعكوف في الخلوة، وتقييد النفس والروح ببرنامج مكثّف يقوم على التدبر والتأمل في الملكوت والحياة، هو -فعلاً- استكمال لعُدّة الخروج إلى الدعوة، “على الدعاة والمرشدين أن يشحنوا في البداية شحنات روحية مثل أصحاب الكهف، وأن يمروا بمثل هذه المرحلة”.
لقد تأبَّى كولن إلا أن يجعل من صحن أول مسجد تولى الوعظ فيه مسكنه وموضع إقامته، وأن يجعل من نافذته مَقرًّا له، ومثوى يؤول إليه آخر النهار.
في كنف المسجد نحتمي !
لقد اتخذ كولن من نافذة أول مسجد عُيِّن فيه، حراءه الخاص؛ إذ وجد فيها الصعيد الأمثل للهجرة والاعتصام مما كان يتلاطم الواقع حواليه من عواصف الردة والارتكاس . ولا شك أنه سلوك باعثه العذرية الروحية، والفُتوة، وفورة التوجه الإيماني والقلبي. لقد كانت نافذة المسجد بالنسبة إليه هي سفينة نوح التي اختار أن يلجأ إليها في وقت طمّ فيه المد الإلحادي من حوله، بل لقد كانت نافذة المسجد تمثل له الرحم التي يجد فيها الدفء والمَنَعة، ويسترد صفاء الفطرة الأولى . لقد كان كولن بذلك السلوك وتلك السيرة يتلاقى مع التاريخ، ويعيشه ملابسةً وتقمصًا . لقد كان كولن يجتاز مرحلة تَخَلُّقٍ حاسمة، تستقر بها الرؤية، وتستشرف الأفق الفسيح! ، لقد كان كولن يوعز من خلال صنيعه اللجوئي ذاك، أن حماية الأمة تتحقق في مجاورة المسجد والاستنجاد به، بل كان يوعز بحقيقة مفادها أن الأمة بحاجة إلى ولادة جديدة وانبعاثة سوية، تتحقق لها من ذات المثابة الحضارية والعقدية التي سبق لها أن انطلقت منها، من أعطاف مساجدها ومعتكفاتها.
إن كولن يجسّد في سيرته الدعوية تجربة حرائية، فيها بعض ما يتشاكل -اقتداء- مع سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) واعتكافه الأزكى بغار حراء.
غار حراء وأصحاب الرقيم
وواضح من كتابات الأستاذ كولن أن هناك عاطفة قوية تربطه بموطن الاشتحان الروحي الذي يمثله كل من غار حراء وكهف الفتية أصحاب الرقيم. وواضح كذلك أن ما يميز هذين الصعيدين الملاذين من بُعد اعتباري، إنما اكتسباه من الشعيرة التعبدية والتجددية التي تمت على أرضيتهما، فهذه الصلة الوجدانية التي ترجمت عنها كتابات كولن قد أبانت أن الأهمية التي أخذها كل من المَعْلَمَيْن الروحيين في أعماقه، إنما تأَتَّتْ من كونهما رحابين تتزكى فيهما النفس بما يعيشه المرء في كنفهما من أحوال التحلية والتخلية، أو بما يستغرقه في ظلهما من واردات التأمل والقنوت، ما تتهيأ به الروح للتسامي والعروج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الأولى، ٢٠١2، صـ24.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.