في مسار ليلي حالك، شب “فتح الله كولن” طفلا تربى على بيداغوجية المدافعة الإيمانية، ودرج يافعا يتغذى على قيم التأصل والتصلب والمعاركة الروحية، واستوى شابا يتقحَّم ساحات الدعوة ويبارز في خطوط الاستنقاذ الأمامية. وفي خضم الاجتياح الأيديولوجي اللائكي تعطَّل معيارُ الواقعة الشرعية، وحلّ محله معيار دفع الجائحة المدَنية، لأن الاستهداف لم يَعُدْ يعني اختراقات محصورة ومرصودة في مسائل بعينها، تشكل ما ظل الفقه الإسلامي يصطلح على تسميته بالنازلة أو النوازل.
على المصلح أن يتحول إلى إِشهارية تنوير، تعرف كيف ومتى تعطي الضوء للمارة كي يقطعوا السبيل إلى النجاة بسلامة.
مشعل تنوير
في وضع كهذا كان على المصلح أن يتحول إلى إِشهارية تنوير، تعرف كيف ومتى تعطي الضوء للمارة كي يقطعوا السبيل إلى النجاة بسلامة. وكانت مواجهة المصلحين -وما أقلّهم عدداً وعدة!- للنكبة مركبة، اقتضتهم المنازلة الضارية العمل على أكثر من صعيد، بدءاً باستكمال دور الأهلية في مجال التأطير والاستنقاذ الذي انبروا للنهوض به. فكان عليهم -من ثمّة- أن يثبتوا هم أنفسُهم على الجادة، وأن يتأهلوا للإمساك على الجمر في معركة التمحيص التي كانت تحف بهم وبالإسلام في تركيا الجديدة. فكم زل من قدم تحت وطأة الإغراء أو الإرغام التي عاشها العلماء الأتراك عقب الانقلاب..!
ثم كان عليهم أن يعمقوا زادهم المعرفي من الشريعة ومن العلوم الأصلية، وأن يضيفوا إلى ذلك كفاءة راسخة في مجال الحداثة بتحصيل علوم العصر، ذلك لأن السجال لم يكن يخص أشخاصهم تحديدا، وإنما يخص الأمة التركية وفئاتها وناشئتها التي باتت عزلاء تتلقن فكر الإلحاد في برامج رسمية معتمدة، فكان لا بد على الصفوة من المصلحين أن يتسلّحوا بمعارف العصر، وأن يطّلعوا بعمق على الفلسفات المارقة، وعلى نظريات الجحود التي كانت تمثل جوهر المعرفة التنويرية الرسمية يومذاك. وكل ذلك لِيتسنّى لهم التأهل للمبارزة وحماية الدين واستنقاذ مَن يتمكّنون من التواصل معهم من الناشئة، وليكونوا على كفاءة في التصدّي وتحصين الشباب خاصة بالفكر الإيماني من موقع معرفي وعلمي وثيق.
عملت طليعة المصلحين على التسلّح ببيداغوجية الاستقطاب والتواصل الدينامية المناسبة للتعامل مع شتى الأصناف العمرية والأوساط الاجتماعية.
التفاني في الدعوة
ثم كان عليهم أن يتفانوا في الدعوة وفي تقديم مزيد من التضحيات ومواجهة مزيد من المخاطر والامتحانات، وبذلك عاشوا ملاحقين ومترصَّدين ومعتقلين، بل ولقد فتِئَتْ الأعدادُ منهم تلْقى حتفها على أيدي المغتالين. ورغم تتابع النكبات والخطوب، كانت مردودية ذلك العراك المرير راجحة، إذ خرج الصادقون في الدعوة مظفرين، حيث كفلت لهم صميميتهم المستمية نيل المقبولية لدى الفئات المتزايدة من الشعب التركي، وهو ما تكرس في علاقة تلاحم عضوي مع الجماهير، إذ ترابطت الفئات بالداعية على قاعدة من التواشج والاندماج، ما أحيا من جديد ماضي المشيخة كما طفق يجسدها عبر العهود التحامُ الأقطاب الأشاوس مع الجموع من الأتباع والمحبّين.. وهو ما تحقق للداعية الفذ والمجتهد المسدد، “فتح الله كولن” قائد نهضة الإصلاح والخدمة التي تشهدها تركيا اليوم.
————————
المصدر: سليمان عشراتي: الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ87-89.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.