إن دور البيئة الصالحة في بناء الشخصية السوية المتشبعة بأصالتها، دور أساس في منظور كولن، بل إنها المدرسة الطبيعية التي لا يفلت من تأثيرها أحد، ولقد “ظلت البيئة مصدر القيم الثقافية في كل الحضارات.. وهذه القيم الثقافية التي تسود الحياة الاجتماعية هي البيئة العامة التي تحضن وجدان الأمة، وتمازج تفكيرها، وتغذّيه، وإن علاقة المدرسة بالبيئة علاقة تفاعل عضوي، وبقدر ما تكون المدرسة متوجهة نحو الهدف، ومتسمة بالعمق، تصبح ميناء أو مطارًا أو منطلقًا للأمة؛ بشرط صهر مكتسباتها في بوتقة الثقافة الذاتية”.

 ظلت البيئة مصدر القيم الثقافية في كل الحضارات.. وهذه القيم الثقافية التي تسود الحياة الاجتماعية هي البيئة العامة التي تحضن وجدان الأمة، وتمازج تفكيرها، وتغذيه.

 البناء يولّد المواهب والعبقريات

البناء يساعد على شحذ الاستعدادات الفردية والجماعية،، بل إنه يساعد على اكتشافها، واستنقاذها من الضياع الذي يطبع البيئات المتخلفة: فإن النجاحات الخارقة للعادة، المتحققة أمس واليوم، والتكوينات العالمية الكبرى، مرتبطة -إضافة إلى عبقرية الأفراد ونبوغهم- بالبناء الاجتماعي المولّد للعبقرية، والوسط المناسب لتنشئة المكتشفين، والبيئة العامة الحاضنة للعبقريات. فالدائرة الصالحة أي البيئة الفاعلة هي التي تخلف البيئة الموات، وتصبح أرضية فلح وخصوبة.

إن المدرسة المتعصرنة اليوم، في حاجة إلى المراجعة الكلية، لاسيما على صعيد البرامج والأهداف؛ إذ ليس لها أهداف محددة، فإن وظيفتها هي في أحسن الأحوال إزالة الأمية، لكنها بالمقابل، تُورث أمية أخرى؛ إذ تشغل الناشئة -وخاصة المتسربين منهم- عن البدء مبكرًا في تعلّم الحرفة؛ لأنهم يتمدرسون أولاً، ثم حين لا يُوفَّقون يجدون أنفسهم في حاجة إلى بداية تعليم تأهيلي، من خلال تعلم حرفة أو ممارسة عمل ما.. والحال أنه -وكما أسلفنا- حتى المتخرج بشهادة يجد نفسه مضطرًّا لأن يبدأ التكوين ميدانيًّا.. ولقد زادت الهوة اليوم بين مضامين التعليم الكلاسيكي وبين النظم المعرفية والاستخدامية التي لا تفتأ سبلُها تنفتح باطراد أمام البشرية، نقصد الوسائط الافتراضية، من حاسوب، وإنترنت، ولغات، وعلوم المستقبل، وما إليها.

المدرسة المتعصرنة اليوم، في حاجة لمراجعة كلية، لاسيما على صعيد البرامج والأهداف؛ إذ ليس لها أهداف محددة، فإن وظيفتها هي في أحسن الأحوال إزالة الأمية، لكنها بالمقابل، تُورث أمية أخرى.

 إعادة النظر في وظيفة المدرسة

بات علينا اليوم تجديد تصوراتنا إزاء المدرسة والتمدرس أمرًا ملحًّا. وإذا كان إفلاس مؤسساتنا التعليمية في العصر الوسيط قد سبَّب اندحار حضارتنا الإسلامية، فلا شك أن أبرز العوامل التي فاقمت من الوضع التقهقري يومئذ، هو انعدام الرؤية التربوية، وغياب المشروع المستقبلي الذي يُفترض أن يرسمه كل نظام تعليمي بصير.

لقد استمرت منظومة الزوايا والتكايا والمساجد كما يسجل كولن، في مزاولة تعليم اجتراري مقطوع عن الحياة، بلا هدف، وغير معني بتاتًا بحاجة الفرد والأمة، ولا مهتم بما يتراوحها من ترديات، الأمر الذي كرَّس العقم، وسدَّ الأفق، فلا غرابة، والحال تلك، أن نرى الانحدار ينتهي بالأوساط التعليمية في تلك البيئة إلى حدّ راح فيه رجال الترشيد يقصرون مادة التعليم على تحفيظ الأدعية، والقصد هو مواجهة الانسدادات والضوائق بالضراعة وحدها، غافلين عن وصية المولى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾(الأَنْفَال:60).

لقد أشار الأستاذ كولن إلى هذا القصور الفادح الذي كانت عليه المدارس التقليدية في العصر الوسيط، فسجَّل أن مؤسسات الماضي الثقافية والروحية، ممن كانت تربي مهندسي فكرنا وعُمال روحنا، لم تكن تواجه الحياة بمشاريع تجعل من رهان السيطرة على المستقبل مطمح الأجيال.

ويرى الأستاذ كولن أن الفداحة مستمرة معنا؛ إذ حالنا اليوم بالقياس إلى ما تقتضيه منا متطلبات الجهوزية المستقبلية هو حالهم عينه بالنسبة إلى ما ظلوا يفاعلون به واقعهم: غفلة عن المستقبل، وتردٍّ في السلبية.. فنحن لا نزال سادرين في بلادة عن إنتاج رزنامة مشاريع كبرى، شاملة، وحاسمة، نراهن بتنفيذها على طي صفحة التخلف نهائيًّا، وبلوغ مستوى الانعتاق من الانحطاط.

——————————————–

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ150-152.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.