ليس دافع الدعوة إلى التيسير -على نحو ما تنادي به منهجية “كولن”- هو تنزيل مسطرة الشرع إلى مستوى من التساهل تقتضيه الواقعية التصحيحية كما هو حال بعض الديانات المتعالية عن الواقع (إشكال الزواج والطلاق في المسيحية مثلا). ولكن الدافع إلى ذلك هو الرغبة في الرجوع إلى مسطرة الدين الحق؛ إذ شعار الإسلام كما تنص على ذلك حزمة من الأحاديث الشريفة، المعززة بسيرة المصطفى صلي الله عليه وسلم، هو “يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا”، و “أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”، و” إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ”.

 الجنوح إلى العزائم في العبادة جائز، لأنه عزيمة فردية، لكن الدعوة إليه لن تسلم من مخاطر حمل الناس على ما لا يطاق.

ولعل الرسول عاش الدين بمستويين، مستوى أهل الاصطفاء والعصمة، فكانت عبادته مثالية، كاملة، لا يدانيها أحد.. وعاش من صدد آخر العبادة بمستوى إنساني، بحيث ظلت وصاياه تؤكد الصبغة الواقعية والعملية والاعتدالية التي أراد أن تكون عليها الأمة في استمساكها بالشرع وتطبيقها لمبادئه فروضا وتعاملات: “إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ”.

 التيسير هو روح الدين

من هنا رأينا الداعية “كولن” يؤكد على يسرية الشرع: “التيسير هو روح الدين، فمن أراد جعل الدين صعبا لا يطاق انسحق هو تحت هذا الثقل، بينما الدين المعيش في دائرة الاستقامة سهل ويسير يقول صلي الله عليه وسلم: “ِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ”. ولا شك أن السيرة الشرعية التي يحياها “كولن” في واقعه ومعيشه وعلاقاته، هي من الانضباط الحدي البليغ.. فهو يعيش التبتّل في أزكى صوره، وهو حري بما بات عليه من منزلة ومكاسب قلبية أن يدعو إلى التشدد، لكننا رأيناه يرسم فلسفة روحية تجعل الدين السمح، المزكي، المتوازن، قاعدة للحياة، ومجلى للالتزام الإيماني.

وليس لكونه طليعة في مجال الدعوة إلى عالمية الإسلام، يكون اختار شعار اليسر والاعتدال كسباً لمسلمين جدد.. كلا، فإن رؤيته الدعوية تضع من خطتها أن تكون سلوكيات المسلم بذاتها دعوة، ويكون مستواه المدني والعلمي والأخلاقي دعوة، وأن تضحى ردة فعله إزاء المحيط الذي هو فيه، والأحداث التي تطرأ على المجتمع الذي يستقر به، دعوة.. فالقدوة محكٌّ مناسب للفت الناس إلى حقيقة الشريعة الإسلامية، ولم يهيّئ الله هذه الشريعة لأن تكون رحمة للعالمين إلا لأنها كاملة الأركان، لا تحتاج إلا إلى الجماعة التي تتقمصها وتخرجها للناس في صورة سلوكيات وتعاملات، حتى تلقى القبول والانتشار تلقائيًّا.

  النموذج السلوكي الأكمل، يجد في الأغلب طريقه إلى القلوب دونما حاجة إلى دعاية أو إشهار.

الدين الخاتم

إن صلاحية الإسلام تتمحص اليوم بشكل خطير وسافر ودقيق، وسيتصاعد التحدي للإسلام غدا أكثر وأكثر بما يطرأ على الحياة من تجديدات تمس في جلها الثابت من القيم، والراسخ من المعتقدات، والوطيد من المسلمات. إن الإعلام الذي تديره وتحتكره قوى عالمية وتستلب به وعي المجتمعات والشعوب، باتَ هو المعلِّم والموجه والسلطة، بل وبات هو الأسرة ورابط العُشرة.. فشخوص المسلْسلات وأفلام الكرْتون مثلا، هي شخوص حميمة، ولصيقة بمواجدنا، وأكثر قابلية لاستدرار مشاعرنا من كثير من الشخوص الواقعية التي نتواصل معها بالدم والمساكنة.

إن ثقافة وفكر وأخلاق العالم السمعي البصري هي التي باتت تنْفذ إلى بواطن الشعور واللاشعور لدَينا.. من هنا تزعزعت المنظومات القيمية التي ظلت المجتمعات تتوارثها، وبات تأثير تلك المنظومات العتيقة متراجعا، بعد أن حلت محلها منظومات افتراضية يسكها ويصبها يوميا في دواخلنا السرد السمعي البصري.

————————

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ93-96.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.