لما كان “كولن” إنساني الرؤية، ذا فلسفة دعوية كونية، فقد أرسى مسطرة منهجه على شعار اليسر والتيسير الذي يراه جوهر العقيدة الإسلامية، ومميزها، وطابعها الأصيل الذي إذا ما حادت عنه، تعطلت الدعوة، وتأجل موعد تلاقي الأمم مع الدين الذي شاءه الله أن يكون دين البشرية قاطبة. وكان عليه العمل على إعادة توطين الإسلام في بلاده من جديد، بعد أن جهدت قوى الردة في إطفاء مصابيح الدين في المجتمع وبين الأوساط، واختلقت نخبا وطبقات أهلية متفرنجة، مجافية للدين تماماً.

بقي الإيمان قوة كامنة يتعهدها كولن والمصلحون، كل في جبهته وبما تُتِيحه له ظروفه.. ورغم المحن فقد لبثوا يراهنون على انبعاثه لا محالة، ورجعته بكل تأكيد.

 من جهوده الدعوية

لم تكن قوى التغريب تتوفر على الاستقلال الذهني الذي يؤهّلها للمواجهة الفكرية، إنما كان كل عدتهم أنهم يردّدون -ببَغائيًّا- أحكاما ومقولات حاقدة على الدين، تلقنوها -في الأغلب بالسماع والاحتذاء الأعمى- عن الغرب الذي ناهضت فلسفاته المادية الشرائع السماوية، لعلل تاريخية معروفة.

وإن ازدواج معاناة “كولن” في عراكه مع الفاشيين، أنه كان يواجه قوى الاستلاب التي لم تكن تتوفر على وجاهة الحجة وقوة الإقناع والسجال الفكري الموضوعي، إلا شعارات أيديولوجية سخيفة تبنَّتْها عقيدةً ظنّت أن الاعتداد بها سيحقق للإنسان التركي الجنة الأرضية. لقد لبثت الفلسفة الجحودية تمثل مصدر ثقافة النخب المستلبة المتسلطة على الحكم، تلك النخب التي لقفت عن الغرب روحيته الحاقدة على الإسلام حصرا، فجعلت في صدارة أهدافها اضطهاد الدعاة وإخراسهم، ومحاربة قيم الأصالة، وتعميم ثقافة أجنبية في البيئة والمجتمع التُّرْكيّين.

أذّن “كولن” في المؤمنين الأتراك، فانبعثت كتائب التثمير إلى الخدمة، وباشروا الدعوة على صعيد فقه التعمير كما أرسى مسطرته وفلسفته.

أفقه الإنساني

لم يكن “كولن” يترصد سياسة بلاده فحسب، ولم يضع في اعتباره أحوال السياسة التي تديرها أقلّية من السلطوية التركية وصنائعها من طوائف اللائكيّين المتشدّدين.. تلك السياسة التي جعلت محق كل مَنْشَطٍ ديني أهلي هدفها الأول.. بل ترصد “كُولن” خريطة الأيديولوجيات والروابط الجيوسياسية التي قسمت العالم إلى معسكرات، وفرضت وصاياها على البسيطة، وامتدت بتحالفاتها عبر الأقطار والقارات، لتقوي من النظم المستلبة المتحالفة، وتوفر لها الحماية وأسباب القوة للاستمرار، وتمكِّنهم من القدرة على بطش المعارضة الداخلية.. وكانت تفاقمات الأيديولوجيات الداخلية والخارجية لا تزيده إلا إيمانا بقرب أوان الانفراج، فكان ذلك يقوي لديه أكثر فأكثر من حمية المرابطة ومواصلة السعي.

لقد ظل الإيمان يُمثِّل مصدر الخطر والصدد الذي يؤرق نظام الأقلّية السلطوية في تركيا. من هنا كان حجم تلك الشراسة التي ظل الفاشيون يلاحقون بها رموز الصمود، ولقد كان كولن طليعة أولئك الرموز المستهدفين الذين نالهم ما نالهم من ألوان الشر على أيدي هؤلاء، ولقد أيقنت تلك الفئة المتشددة مدى المخاطر التي بات نشاطُه يمثلها لمصالحهم الذاتية، فقطعوا بالحكم بتصفيته الجسدية.

أرسى كولن مسطرة منهجه على شعار اليسر والتيسير الذي يراه جوهر العقيدة الإسلامية، ومميزها، وطابعها الأصيل الذي لم تحد عنه.

ولم يخلف الله وعْده المؤمنين، إذ انهارت الشيوعية، وها هي الرأسمالية اليوم تمضي في حال من العرج والترنح، وسيكون مصيرها لا محالة مصير الشيوعية. وانقشع الوضع بعد انهيار الشيوعية، وأذّن “كولن” في المؤمنين الأتراك، فانبعثت كتائب التثمير إلى الخدمة، وباشروا الدعوة على صعيد فقه التعمير كما أرسى مسطرته وفلسفته.

————————

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ99-101.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.