زحف الغرب واحتل الأوطان وأورثنا طبيعة سلبية قطعَتْنا عن إرثنا ونظمنا، وغرست فينا قابلية استنساخ قيمه واحتذائه في عوائده، فأضحت النخب مستلبة، قصاراها أن تسدد في رهاناتها على مقاساته وتوجهاته، يحملها على ذلك الاستنساخ ما تراه عليه من تطور، فيتهيأ لها أنها بذلك التشبُّه السطحي ستحقق النهضة، ناسية أن النظم والثقافات، وإن توسعت من حيث أصداؤها وآثارها وانتشارها، إلا أن اغتراسها لا يكون أصيلا في تربة خارج تربتها الأم.

وإن الديمقراطية التي قضى بها الغرب أطوارًا من التفاهم والسلم الداخلي والإنجازات التداولية، نراها اليوم تتكشف هناك في موطنها بالغرب ذاته، عن مطاعن وإعتلالات عضوية فادحة؛ إذ إن لعبة الأحزاب في بلاد الغرب لا تَسْلَم من الانسياق لقوى خفية تتمثل في لوبيات تتحكم في حركة المجتمع وتدير لعبة التداول وترجح الكفة في المقام الأول، ليس في اتجاه ما يصلح أحوال الشعوب، وإنما لصالح تلك اللوبيات ذاتها، لكن بمخادعة تمويهية توهم الشعوب وتصور لها أن السجال الحزبي، هو عنوان الحرية والتنافس النـزيه. إن في الديمقراطية حسابات تضبطها وتتحكم فيها قوى المال والإعلام والفن وقوى تجارية شتى.. فهذه القوى العالمية هي التي تصنع الأيديولوجيات، وإن قبضتها في هذا المجال لواضحة.

 الديمقراطية التي قضى بها الغرب أطوارًا من التفاهم والسلم الداخلي والإنجازات التداولية، نراها اليوم تتكشف هناك في موطنها بالغرب ذاته، عن مطاعن واعتلالات عضوية فادحة.

 مثالب التتبع الأعمى للغرب حذو القذة بالقذة:

ستمضي علينا عقود ونحن سادرون في لعبة تعلم ديمقراطية الغرب، حتى إذا حذقناها، وجدنا الغرب في أطوار أخرى، سنحاول أيضا اصطناعها تشبها به، وهكذا، بحيث ستمضي المراحل وهَمُّنا هو تلقّي المدنية والنظم والقيم من الآخر، لا يؤثر فينا ما نراه عليه من ترنح، إذ إن مدنيته الماضية على طريق التحلل من قيم الحق، انتهت إلى مرحلة التراجع، وهو يسعى اليوم إلى أن يجدد من حيويتها، لكن حتمية انطواء الكتاب، يجعله يعجز، ما لم يغير من روح هذه المدنية نحو الوجهة التي تتصالح فيها مع المثل الإنسانية، وتتخلى عن الرعونة والتربب والضلال.

الأمة المسلمة مطالبة بتأصيل نهضة عالمية ثانية، وترسي لها نظما نابعة من روح شريعتها.. فمبْدأ الإيمان بالله وخشيته، ركْن مركزي في أي مسار لفتح حقيقي ينعطف بالإنسانية نحو السعادة المنشودة؛ بل إن خشية الله هي الركيزة التي تستتب بها سائر التوازنات التي تكفل الخير للإنسانية، وتضمن الكمال والعدل والأخوة لبَني البشر.

 حان دورنا في الانطلاق الحضاري:

لا ريب أن كُولَن يستشرف هذه الآفاق التي باتت مفتوحة حيالنا، والتي نَعْشَى أن نراها نحن الذين ترسَّبَ في أعماقنا اليأسُ من النهوض.. فكُولَن يؤمن بأن الأمّة المحمدية قد حان دورها في الانطلاق، وأن قانون التداول على البناء الحضاري الكوني، قد آذننا تارة أخرى، وهو يحدونا اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى أن ننبري لإقامة النهضة العالمية الثانية.. هذه النهضة التي لا مناص من أن نظل ماسكين بزمامها على الطريق القويم، بحكم الموثق وبالنظر إلى أهلية وعالمية عقيدة الإسلام التي شرّفنا بها، والتي ستظل عامل الانبعاثات الحضارية التقويمية على مر العصور، وستبقى مصدر الوثبات التي نستقل بها القطار كلما عثر بنا القدم، فبفضل هذه العقيدة لن يقعد بنا أي تخلف أو انحطاط -مهما طال- عن الانتفاض وتجديد العزيمة، فنحن أشبه بمن ملك عنصر النار، لن يعدم توليد الطاقة أبداً.

 وحتى يدور المحرك ويتسارع الزحف، لا بدّ من أن تتضافر جهود الأمة وتتشابك الأيدي والقلوب وتركز على هدف الانبعاث الذي سيخلصنا جميعا من الخذلان.

من واجب النخب العربية تعزيز التقارب بين أقطار الأمة المسلمة. وإزاء تركيا بتوجهها الجديد، والميمون، يجب العمل على تقوية التقارب، وتحقيق الاندماج. ولن يضيرنا التقارب مع تركيا حتى ولو نجحت في الالتحاق بالحظيرة الأوروبية، ذلك لأن أي تحصيل ارتقائي يصيب جناحا من الأمّة، ينعكس على باقي الأمة.

———————————–

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 162-164.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.