ومما نسجله في هذا الصدد أن نظرة كولن لهذه الحضارة المنشودة، لا تعتدّ في المقام الأول بالجوانب المادية والتجهيزية حصرًا.. تلك الجوانب التي تضعها عقلية الابتزاز والصفقات والربحية في طليعة اعتباراتها وحساباتها، بل إنه يركز على الجوانب الروحية، وعلى الركائز المعنوية التي يراها هي الضامن الأهم للتأسيس والإنجاز.

حسابات خيالية ننفقها كل سنة على مشتريات وتجهيزات بدعوى تحقيق الإقلاع، دون جدوى. إنما هي صبيانيتنا، وانبهارنا بالثروة المجانية التي كفلها لنا البترول، واستنامتنا لمخادعات وتنويمات الرأسمالية التي عوَّلنا عليها في استيراد الاستشارة والخبرة، والتجهيز والتعليم وفي كل المناحي المدنية الأخرى. فالبداهة تجعل النبيه يدرك أن من كانت حرفته النجارة لا يمكنه أن يتنازل عنها لغيره، وإلا أغلق باب رزقه وفرَّط في شرط تفوقه، وكذا من كانت مهنته الصناعة، لا يمكنه أن يتيح لسواه أن يتلقن أسرارها؛ ضنًّا بخبرته التي هي مصدر ظهوره وأساس معاشه.

 كولن والبعد الروحي

من هنا رأينا كولن يرجح في منهجه التمثلي لبناء الحضارة: البعد الروحي، ويجعل البعد المادي قرينًا له أو تابعًا؛ لأن اشتحان روحية المجتمع وقادته بالإيمان، واتضاح الهدف أمامهم، يجعل الجهد يتكثف باتجاه تهييء الجهوزية المادية، إما بانتقاء الوسائل والعدة من الآخرين (مرحليًّا)، وإما بالابتكار والتدبير الذاتي.

كان يرى عن كثب دُولاً بلغت من العُدة التصنيعية ما بلغت، آذنها الانهيار وباتت أملاكها وأساطيلها، بل ومقدراتها من العلماء والباحثين وأهل الفن والمهارات، تركةً تتوزعها الأمم، وبضاعة زهيدة السعر لا تجد من يعرض فيها الثمن.

رأينا كولن يرجح في منهجه التمثلي لبناء الحضارة: البعد الروحي، ويجعل البعد المادي قرينًا له أو تابعًا؛ لأن اشتحان روحية المجتمع وقادته بالإيمان، واتضاح الهدف أمامهم.

 

أممٌ تعالت في الجحود، وداست على الروح، وآمنت بأن الإنسان قيمة شيئية تحكمه الانفعالية الشرطية، فيفعل أو لا يفعل، حسب الطلب، أمم اعتدَّت بالقوة المادية وحدها، وجعلت السبق للمادة على الروح، وتحسبت للمستقبل بقانون الحتمية الذي أناطت به كل فتح، وزعمت أنه القانون الذي يستمد وقوده من غبن الكادحين وصراعهم من أجل اللقمة، فيدأب الزمن على الحراك، يبني النهضات، ويقيم الصروح، من غير ما تدخل لقدرٍ؛ إذ لا قَدَر هناك -بحسبها- ولا اعتقاد في غيب أو دين (الدين أفيون الشعوب). تلك الدول لم تفدها عُدَّتها وصناعتها واحتياطها المادي في شيء، بل آذنتها مشيئة الله، فتزلزلت وتهاوت وتفككت تحت مرأى ومسمع العالم.

 انطلاق من السنن الكونية

انطلق كولن في استقراءاته للوضع الكوني، من حتمية يعتد بها المؤمنون، هي سنن الله التي قطعت بهلاك المتجبرين ما إن ينتهوا إلى الخط الأحمر الذي حدَّده الله، والذي لا مجال لتجاوزه (كالأجل، لا يتقدم ولا يتأخر). لذا لبث (كولن) يلحّ على وجوب الرهان على الجانب الروحي في الإنسان وفي المجتمع والمدنية؛ إذ إن الإسمنت المسلح الذي لا تنال منه الزعازع ولا الزلازل هو الإيمان، وهو سَنُّ الروح بِمِسَنِّ الإخلاص، وتجهيز القلب بالعشق.

كانت آية الإيمان العملي متجذرة في أعماقه: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(البَقَرَة:3)، فكانت دلالتها منطَلقًا له في تَمَثُّل ما ينبغي أن يكون عليه الصرح الحضاري المتين، والكيفية التي يُقام بها، والأسس التي ينهض عليها، والعُدة والوسائل التي يكتمل بها “الإيمان بالخيرية والمسؤولية الإحسانية، وإيصال التعمير إلى الآفاق، والتعويل على أفضال الله في ما وهب للإنسان من رزق، هو مستخلَف فيه”.

 سائر كُتب الأستاذ تندرج ضمن التوجه التعميري الذي نرى اليوم فرق رجال الخدمة ينهضون بشيء منه.

ويؤكد كولن أن الإسلام يحفّز المسلمين على إقامة المدنية التي تستند على دعائم الروح، والتي تسري الأخلاق السماوية في شرايينها.. المدنية التي تسمو بالكرامة الإنسانية، وتضمن الوقاية للفرد حتى لا يغدو عبدًا لجسده.

—————————————-

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 194-197.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.