إن من ينظر إلى الكثير من حركات الصحوة والتجديد لمعاودة النهوض بالأمة، يجد أن بعض هذه الحركات، في الكثير من جهودها انفعالية مليئة بالعواطف والأمـاني والنيات الحسنة، لكنها تفتقد إلى الكثير من الفاعلية، ذلك لأنـها -في معظمها- غير متجددة بالأفكار والرؤى والخطط وغير معنيَّة بالمراجعة والنقد والمحاسبة. وهنا تلوح تجربة الأستاذ فتح الله كولن في الأفق الإسلامي، كتجربة جمعت بين النظرية والتطبيق، أو بين الانفعال والفاعلية.

كان بديع الزمان النورسي يرى أن منبع جميع الشرور: هو الجهل والفقر والتفرُّق، وقضى عمره كلّه في محاولة القضاء على هذه الآفات الثلاث.

وعلى دربه سار تلميذُه: فتح الله كولن، إذ رأى أنه ما لم تُجًهَّز الجماهير بالعلم والمعرفة، وما لم يتعود المجتمع على التفكير المنظم، وما لم تُجابَه تيارات الأفكار المنحرفة، فمن العبث الأمل في خلاص هذه الأمة.

إن الأفكار التي بُني عليها الفكر الإصلاحي في تجربة الأستاذ فتح الله كولن اعتمدت على أسس معرفية تربوية، عمادها أن النهضة المجتمعية الحقيقية لا يمكن لها أن تتمكن من النفوس، إلا إذا قامت على قواعد أساسية متينة، تتبنى:

الإصلاح التربوي التعليمي: لمحاربة الجهل وتنوير الجيل الصاعد معرفيًّا.

الإصلاح الديني الاجتماعي: بنشر سبل المحبة ونزع فتيل الفرقة والاختلاف.

هذا الوضوح في الرؤية لدى أبناء الحركة الإصلاحية التربوية للخدمة، ورسوخ هذه القناعة لدى مُلهِمها الأستاذ فتح الله كولن، تجلَّى في النزول من الأفق النظري للميدان التطبيقي، منذ الستّينات من القرن الماضي، وبإمكانات متواضعة، لدعم إنجاح مشروع نهضوي تعليمي قِيَمي أفرغوا فيه جميع طاقاتهم عبر سنوات وعلى امتداد مئات دول العالم، في سبيل بناء أفق معرفي رائد للجيل الصاعد، وإعداده معرفيًّا وتربويًّا، لتحمل مسؤولية الإصلاح الاجتماعي المنشود.

ولذا فإن أهم ما يميز تجربة الأستاذ كولن هو: تحويل الفكر إلى واقع عملي أي جعل الفكر نموذجًا، بتحويل الفكر إلى نموذج واقعي.

يتحدَّث الأستاذ فتح الله كولن معبرًا عن طبيعة الآمال والطموحات التي كانت تشغل باله في شبابه المبكر، فيقول: “عندما كنت في الثانية أو الثالثة عشر من عمري وكنت حينئذ أدرس في تركيا، كنت أحمل كتابًا في يد وخريطة العالم في اليد الأخرى سائلاً ربي: كيف يُمكننا يا رب أن نصبح عالمًا يربطه الأمل والحب والعلم وقد حُلَّت مشكلاتُه الاجتماعية؟”

كانت تلك الخواطر تنضج في خاطره يومًا بعد يوم وتتبلور فكرةً جامعةً ومشروعًا شاملاً قابلاً للتطبيق. لكن أهم ما يميز تلك الخواطر هو ثقة صاحبها بتحقيقها، فهو يقول: “بذرة صغيرة تنشئ شجرة باسقة. من ماء مهين نشأ هذا الإنسان العظيم، ومن قطرات الماء هدَرَت البحار وتصاخبت الأمواج، فإياك أن تستهين بالصغير فإنك لا تدري أي كبير بالغد سيكون…”

تقوم حركة الخدمة على فكرة تعرف في أدبيات الحركة بـ “الخدمة الإيمانية”، أي: خدمة الإيمان والقرآن، ومادامت الحركة قائمة على الفكرة وليس على التنظيم، فإنها ملكٌ لكل من يتبنى فكرتها دون قيد أو شرط، وبالتالي فالباب مفتوح وليس عليه حارسٌ أو بوَّاب، وأفراد الأمة جميعهم مدعُوُّون للولوج منه، دون أن يتقيدوا بلافتةٍ، أو شعارٍ، أو شخص، أو انتماء.

فـ: “ما دامت الخدمة ملكًا عموميًّا يسلكه كلّ من امتلك الأهلية الرسالية والمعرفية، فليس لأحد أن يدعي أنّه بوابَه أو مالكه، لهذا يُنتظر من الأمة أن تسلك مسلك الخدمة من خلال إقبال أفراد الأمة على بذل الخدمة لأجل نهضتها، أو على الأقل تأييد كل راغب أو باذل لأجل خدمتها والرقي بها إلى مصاف الدول والأمم الراقية، تيسيرًا لخدمة الإنسانية في تنوّعها، لهذا انتهى الأستاذ إلى وصف الطريق الذي يسلكه بأنّه مسلك تأييد خدمة الأمة، قال الأستاذ: “هو طريق تأييد كل من يقدم خدمة للأمة ويسعى لخيرها ومساندته ومساعدته”.

ومن هنا جاءت فكرة “الهجرة” والتي أعتبرها أحد أهم الأفكار العبقرية التي تميّز بها فكر الأستاذ كولن، وأبرز معالم “التجديد” في الفكر الإسلامي المعاصر.

والهجرة مفهوم عظيم ومعنى نبوي جليل، لكنه تحول إلى مفهوم تقليدي فأصبح قاصرًا على معنى تاريخي محدّد، أو ضرورة يلجأ إليها الفارُّون بدينهم من الفتن، فإذا بها تتحوّل بفعل دعوة الأستاذ كولن وبفعل الخدمة ذاتها إلى معنى متجدد، فأصبحت الهجرة “قَرارًا” لا “فِرارًا”، أصبحت تعني التغرُّب لخدمة الناس في بلدان أخرى، وأضحت هذه هي السمة الأبرز من الناحية المرئية في حركة الخدمة.

الهجرة بداية الانطلاق نحو الآفاق

مما لا شكّ فيه أن البدايات الأولى لـ “الخدمة” كانت تعتمد بشكلٍ أساسي على الجهد الحركي والدعوي الفردي للأستاذ فتح الله كولن، وهي المرحلة التي بدأ فيها تأسيس “بيوت الطلبة” في مدينة “إزمير”، وكانت هذه الدور تؤوي الطلبة البعيدين عن مدينة إزمير -مكان التأسيس- وتُوفِّر لهم جوّ المذاكرة والدراسة والتحضير للامتحانات، فكان أن لقيتْ هذه الخطوة نجاحًا كبيرًا، فأقبل عددٌ غير قليل من التجار على إنشاء بيوت أخرى للطلبة، فتكاثرت تلك البيوت بتكاثُر عدد ساكنيها من الطلبة، وكان ذلك في أوائل السبعينات. ويمكن أن نطلق على هذه المرحلة: “مرحلة التكوين”

مع نجاح تجربة “الدُّور”، واستعداد المتطوعين للحركة على بذل المزيد من العمل والجهد جاءت فكرة إنشاء مدارس جديدة، وتم افتتاح الثلاث مدارس الأولى في عام 1982 في مدن مختلفة، ومما ساهم في انتشار هذه المدارس واكتسابها السمعة الطيبة في المجتمع التركي، ما لمسه أولياء الأمور من تغيُّرٍ ملحوظ في السلوك الاجتماعي لأبنائهم، فضلاً عن التفوق الدراسي، وما عاينوه من التفاني في العمل من المعلمين والقائمين على أمر هذه المدارس.

يقول الأستاذ أنس أركنه عن هذه المرحلة: “وفي التسعينات اشتركت المدارس -الابتدائية والثانوية- التي أنشأتها حركة المتطوعين في أنحاء تركيا في المسابقات العلمية العالمية، حيث أثبتت جدارتها في مدة قصيرة بالنتائج الجيدة التي حصلت عليها، والنجاحات الرائعة التي سجّلتها، فكان هذا دليلاً على أن هذه المدارس أُرسِيت على قواعد علمية رصينة، وبتعبيرٍ آخر كان هذا إشارة إلى مدى نجاح مشروع التربية والتعليم الذي بدأه الأستاذ فتح الله كولن، وَوَضَع على عاتقه مهمة إنجازه”.

ثم جاءت “فكرة الهجرة” أو “مرحلة الانتشار”، فقد شهدت نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات توسُّع “الخدمة” لتعبر الحدود الوطنية وتشمل دول آسيا الوسطى التي لها نفس الخلفية الثقافية التركية، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكُّكُه إلى دويلات، مما أدى إلى استقلال الدول الإسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي، ومنها ما يطلق عليه “جمهوريات الأتراك” وهى: كازاخستان وقيرغيزستان وتركمانستان وأوزبكستان.

وبتأثيرٍ من الأستاذ فتح الله كولن، ومن خلال مجموعة خطب شهيرة له حثَّ رجال الأعمال، وأبناء الخدمة، والشباب المسلم أن يهاجروا إلى هذه الجمهوريات التي تحتاج إلى من يُربِّي أبناءها على الإسلام من جديد، بعد الإلحاد والشيوعية اللّذَين نشرهما الاتحاد السوفيتي في تلك الجمهوريات، ليس فقط بالمدارس، بل بالمدارس، والمستشفيات، ودور الرعاية، وغيرها.

يقول الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله بأسلوبه الأدبي: “كان فتح الله عنـــدما يلقي كلمـاتــه المـؤثــرة على طـلابــه المخلصين، من رجـــال الأعمال وغيرهم، تنتصب صروحٌ لمدارس عليا أو جامعات، أو مستشفيات من الطراز الراقي، ومن ثَمَّ لم تلبث دعوة فتح الله إلا نحو بضع وعشرين سنة، حتى كانت محاطة بمتاريس من أكبر مؤسسات الاقتصاد، وأقوى أجهزة الإعلام، والكثير من الرجال المخلصين لدعوتهم، ينتصبون بأكتافهم العالية في كل قطاع حيوي، أعمدة متينة ترفع صرح الأمة في الزمان الجديد”.

وهكذا، حولت حركة الخدمة، اهتمامها أيضًا إلى بلدان أخرى في أنحاء العالم من خلال المدارس، وجاءت أنشطة الحوار العالمية، خاصةً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ومحاولة البعض ربط الإرهاب بالدين الإسلامي.

وقد اتَّسمت مشاريع الخدمة بالطابع الإنساني لأولئك الذين يعانون في الدول الأشد فقرًا من خلال إنشاء منظمات مثل: “هل من مغيث؟” “Kimse Yok Mu?” وبدأت أنشطة الإغاثة في جميع أنحاء العالم، وأضحت هذه المنظمات قادرة -بما تحمله من مصداقية وحسن تخطيط وإدارة- على إغاثة مناطق الجوع والفقر، وكذلك الوصول إلى المناطق المنكوبة التي ضربتها الزلازل والأعاصير، وفي هذا السبيل بُنيت المستشفيات، وتطوع مئات الأطباء لمعالجة المرضى في بلدان إفريقيا السوداء.

يقول الدكتور ألب أصلان دوغان: “وكان لمنظمة الإغاثة Kimse Yok Mu، التي تأسست بتشجيع من كولن، دور فعاَّل في تقديم المساعدات لضحايا الكوارث في جميع أنحاء العالم مثل ضحايا تسونامي في جنوب شرق آسيا، والفيضانات في بنغلاديش، والزلازل في باكستان وبيرو، والعنف العرقي والسياسي في دارفور” وحضرت هذه الجمعية العالمية في إغاثة المسلمين في بلدان كثيرة، كالسودان، وإندونيسيا، وأفغانستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان، وغيرها، إضافة إلى إغاثتها لغير المسلمين، كما في زلزال اليابان وعواصف الفليبين.

يمكن أن نضيف إلى ما سبق من جهود تمَّت من خلال الحركة: الانفتاح على العالم الإسلامي، ولا أعني فقط الانفتاح من خلال أنشطة الخدمة من حيث المشاريع التربوية والإغاثية، ولكن أيضًا البدء في حركة الترجمة لأفكار ومؤلفات الأستاذ فتح الله كولن وتأسيس مجلة ناطقة باللغة العربية “مجلة حراء”، واستكتاب العديد من الأقلام الإسلامية البارزة على صفحاتها.

فلسفة الهجرة (التغرب من أجل الإنسانية)

يأخذ مفهوم “الهجرة” شكلاً عمليًّا ذا بُعدٍ إيماني عند “حركة الخدمة”، بل يمكن القول إن هذه السمة العملية التي تعني: التغرُّب لخدمة الناس في بلدانٍ أخرى، هي السمة الأبرز من الناحية المرئية، في حركة الخدمة.

ويحتل مفهوم “الهجرة” من أجل خدمة “الإنسانية” مكانًا بارزًا في خطاب فتح الله كولن لأبناء الخدمة ومحبِّيها، بل إنه يتناوله من زاوية أن الهجرة من أجل الخدمة “رحلةٌ مقدَّسة”.

فهو يرى أن الهجرة مسألة عظيمة تنطوي فيها معانٍ كبيرة، فكما تعني هذه الكلمة: الهجرة من بلد إلى آخر، كذلك تعني الهجرة من مبدأ ومن عقيدة إلى مبدأ وعقيدة أخرى، وتعني أيضًا هجرة الإنسان من نفسه إلى نفسه.

ويقول موضحًا مدى أهمية الهجرة لرجل الدعوة: “الهجرة أساسٌ مهم في كل دعوة كبيرة، ولا بد من تثبيت النقطة الآتية: لا يوجد رجل دعوة كبرى، ولا رجل فكر كبير، ولا رجل تحمل عبء وظيفة عظيمة -وأنا أعني ما أقول- لم يهاجر. لقد ترك كلُّ رجلِ دعوةٍ البلدَ الذي وُلد فيه وذهب من أجل دعوته إلى بلدٍ آخر”.

وقد ضرب مثالاً لهذا سيدنا إبراهيم  وأطلق عليه: النبي السائح في الأرض لتبليغ كلمة الله إلى كل أذُن، وبالسيد المسيح  حيث إن: أحد معاني “المسيح” هو السائح في الأرض، وهو من صيغة الفاعل أي الكثير السياحة، وبسيدنا موسى  الذي: شبَّ في قصر فرعون، ومع أنه تعود على حياة القصور الناعمة، إلا أنه كان أيضًا رجل هجرة.

وهكذا يؤكد كولن أنه: “لو بحثنا ودقّقنا في حياة الأنبياء العظام لرأينا الهجرة سمة مشتركة بينهم، ولا شك أن أكبر مهاجرٍ ضِمن هؤلاء المهاجرين المبارَكين هو رسولنا  لأن الهجرة -مثلها في ذلك مثل جميع الأمور- وصلت عنده إلى الذروة”.

لا هجرة بعد الفتح

صحيحٌ أن الهجرة بالمعنى التاريخي في السيرة النبوية -والتي تعني الهجرة من مكة إلى المدينة- لم يُكلَّف بها المسلمون في العصور اللاحقة، فقد روى الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عائشة ومن حديث ابن عباس ، يقول : (لا هجرةَ بعد الفتحِ، ولكن جهَادٌ ونَّيةٌ وإذا استُنفِرتُم فانفِرُوا).

يقول الإمام النووي في شرحه للحديث: “قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأولوا هذا الحديث تأويلين: أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام، فلا تُتَصوَّر منها الهجرة، والثاني وهو الأصح أن معناه: أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازًا ظاهرًا انقطعت بفتح مكة، ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة، لأن الإسلام قوِي وعزَّ بعد فتح مكة عزًّا ظاهرًا بخلاف ما قبله”.

لكن كولن يوجِّه رجال الخدمة إلى هجرةٍ من نوعٍ آخر، فهي ليست الهجرة بمعنى الفرار بالدين من الفتن، ولكن بمعنى: التغرب وترك الأوطان لنشر الإسلام، وخدمة الناس في مكانٍ من أرض الله الواسعة.

صحيحٌ أنه لا هجرة إلى المدينة المنورة، لكنه يدعوهم لأن تصير كلُّ مدينةٍ يهاجرون إليها “منورةً” بتعاليم الإسلام، يقول: “صحيح أنه لا توجد الآن” مدينة منورة”، يُهاجَر إليها، ولكن ستكون هناك مدنٌ تحاول تقليد مثال “المدينة”، وبتعبيرٍ آخر لكي نستطيع المثول بين يدي صاحب المدينة  علينا أن نُنشِئ مُدُنًا عديدة، لذا لا نستطيع أن نستخف بموقف الذين رحلوا إلى أرجاء الأرض لنشر الإسلام وهاجروا في هذا السبيل، ذلك لأنهم لم يفعلوا هذا لسببٍ ماديّ أو لمصلحةٍ شخصية، لقد كان هدفهم هو نشر الإسلام والحصول على رضا الله تعالى”.

الهجرة: عولمة القيم النبيلة

إن الأستاذ فتح الله كولن صاحب فكر عالمي ينافس العولمة الغربية التي تقوم على الأثَرة والاستغلال، واعتبار الإنسان مجرد سلعة ووسيلة، تلك العولمة التي تقوم على أساس المنفعة المادية وحدها، وبسبب ما يعانيه البشر من ويلات وخاصة المسلمين، فقد استشعر الأستاذ كولن المسؤولية، وأعدَّ تلاميذه للمساهمة في تربية العقول، وإصلاح ذات البين، وإغاثة الملهوفين، ومساعدة المحتاجين.

“ورغم تغرُّب أبناء الخدمة عن بلدهم في مجاهل آسيا وأدغال إفريقيا، إلا أنهم لا يشعرون بالغربة فقد علَّمهم أستاذهم أن الغريب ليس الذي ابتعد عن وطنه وبيته وأصدقائه وأحبّائه، بل هو الذي لا يفهم الناسُ مبادئه العالية وتضحياته الغالية، وقد قرر كُولَن بهذا الصدد أن “من كانت هِمَّتُه أُمَّتَه فهو وحده أُمّة”، ولذلك لم يجد عشرات الآلاف من “وُرُود وأزهار” تركيا غضاضةً في الانتقال إلى بلدان مليئة بالأعاصير وبالأشواك من مختلف الأصناف”.

المهاجرون: أبطال المحبة ومهندسو الروح

في حوارٍ أجرته جريدة “الشرق الأوسط” مع الأستاذ فتح الله كولن في 24 مارس 2014 سُئِل: هل تنظرون إلى ملايين الأتباع ومئات المدارس التي أنشأوها في جميع أنحاء العالم كحركة واحدة؟

فأجاب الأستاذ فتح الله كولن: “لا أرى من المناسب تسمية هؤلاء بـ “الأتباع”، سواء لي أو لأي شخص آخر. لذلك، فقد أكدت مرارًا أنه يؤلمني كثيرا نسبة الناس إلى شخصي الضعيف وإلحاقهم بي تحت عناوين مختلفة، كما أريد أن أؤكد أن هؤلاء الناس قد التقوا بشكل طوعي حول مشاريع وجدوها مفيدة لكل الناس. ومع أن الحركة تستهدي بقيم الإسلام، فإن مشاريعها التي يعكف عليها المتطوعون العاملون في إطارها متماشية مع القيم الإنسانية الهادفة إلى تعزيز الحريات الفردية وحقوق الإنسان والتعايش السلمي بين جميع الفئات، ومن ثم وَجَدَت ترحيبًا في 160 دولة حول العالم، ولقِيَت قبولاً صريحًا أو ضمنيًّا مباشرًا أو غير مباشر من جنسيات ودول وأديان مختلفة”.

وهو يؤكد أن هؤلاء المتطوعين لا يشكلون بنية متجانسة، سياسيًّا أو عِرقيًّا، وأنهم التقَوا على قيم إنسانية مشتركة، من منطلق إسلامي خالص.

وقد اختصر كولن هذه القيم الإنسانية السامية المشتركة: كالحريات، وحقوق الإنسان، واحترام المعتقدات، وتقبل الآخر، والانفتاح على الحوار.

وتنزيه الدين عن الأغراض السياسية الحزبية الضيقة، واحترام القانون، ورفض استغلال إمكانات الدولة استغلالاً سيئًا، وضرورة المحافظة على المسار الديمقراطي، ورفض استخدام السلطة لإكراه الأفراد والمجتمعات على معتقدات معينة. والثقة بالمجتمع المدني، وتوظيف التعليم لإحلال ثقافة السلام في المجتمعات. وابتغاء مرضاة الله في كل قول وفعل، ومحبة الخلق من أجل الخالق، وتعزيز منظومة القيم الأخلاقية لدى الأفراد بغض النظر عن قيمهم الدينية أو غير الدينية.

هؤلاء الناس الذين تجمعهم القيم السابقة مع تنوعهم يتمتعون بوحدة روحية، ووعي جماعي، بحيث لا يمكن لأي جهة خارجية التلاعب بهم بهدف خرق القيم الآنفة الذكر.

الأرواح التي وصلت إلى الحق بواسطة الهجرة

في كتابٍ له بعنوان “شدُّ الرِّحال إلى غايةٍ سامية”، يشير فتح الله كولن إلى الهدف الأسمى من الهجرة، وهو: إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض، ابتغاء وجهه سبحانه، كما فعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.

يقول: “الحقيقة أن أولئك الناس الذين تركوا منازلَهم ودورَهم وأوطانَهم، وشدُّوا الرحال بهدف تبليغ رسالة الإسلام إلى كل أنحاء العالم هم في سبيلهم للحصول على رضا الحق تعالى بواسطة إعلاء كلمة الله. إن نجاح هؤلاء في المناطق الجغرافية المتباينة يُعتبر مؤشرًا على التأييد الإلهي، بالرغم من أنهم لم يحصلوا على دورات في فن التعايش مع أصحاب الثقافات والآراء المختلفة في عصر العولمة، وبهذا الاعتبار يمكن القول بأن هذه الخدمات المنجَزة وافقت المراد الإلهي؛ هؤلاء الذين ساحوا في الطرق في سبيل فكرة مثالية سامية بتواضعٍ وخجلٍ ونكرانٍ للذات، استنادًا إلى أسس: العجز، والفقر، والشكر، والتفكر، والشفقة”.

وعلى أثر هذا فإن أبناء الخدمة اليوم منتشرون في أكثر بلدان العالم، سواء البلدان المجاورة لتركيا جغرافيًّا، أم البعيدة عنها، البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، يقيمون صروح العلم، يشيِّدون المدارس، ويبنون صروح الحوار بين مختلف الثقافات، يواجهون بصمت محاولات التنصير المستمرة في إفريقيا السوداء وغيرها من الدول الفقيرة، ليس بالخطب الرنانة، ولا بالهجوم اللاذع، بل بالعمل الدؤوب دون كلل أو ملل.

وقود الهجرة: التفاني في الخدمة ونكران الذات

الأستاذ كولن يكتفي بتعريف تلاميذه بأنهم خدّام لدينهم ووطنهم وأمّتهم وإخوانهم في الإنسانية، ولهذا عُرفت جهودهم بـ “حركة الخدمة”، وهو أكثر الأسماء تعبيرًا عن مضمونه الحقيقي. ورغم بساطة “الاسم” إلا أنه يحمل في طيَّاته معاني كبيرة، على خلاف ما هو شائعٌ في عصرنا هذا، فـ”الأسماء” عادة ما تكون كبيرة، لكن “الأفعال” صغيرة.

وهذا العنوان (الخدمة) بقدر ما فيه من معاني التواضع، فإنّه يدلّ على الجدّية الكاملة، فالسنبلة الممتلئة لا تشمخ بأنفها إلى السماء وإنما تنحني تواضعًا بعكس السنبلة الفارغة، والإناء الفارغ أعلى صوتًا من الإناء الممتلئ. وواضحٌ أن سمتي نكران الذات والتفاني في الخدمة، هما من المعاني التي استفادها كولن من اتصاله الوثيق بالصوفية، واستمدت الحركة منها الزاد الروحي.

فقد: “وصل التفاني في “الخدمة” إلى حد “الفناء” فيها، لأنها كحركة أنكرت ذاتها، واحتقرت ما تقدّمه لأمّتها، بسبب تركيزها الدائم على ما يجب أن يكون وليس على ما قد كان، أي إنهم لا يستحضرون ما فعلوا، ولكن ما يجب أن يفعلوا مما تحتاج إليه مجتمعاتهم لكي تسعد في دنياها وتفوز في أخراها، وكأنه بهذا يطبق ما قاله أبو سليمان الداراني: “مَن رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة“. فكأن كُولَن أقوى مَن استوعب هذه العبارة الصوفية وجسَّدها في حياته”.

فعند تفسيره لقوله تعالى: “فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ” (الشرح: 7)، يقول كولن: “تقدم هذه الآية الكريمة للمسلم فلسفة حركية مهمة ودستورًا للحياة، أجل يجب أن يكون المؤمن في حركةٍ دائبة في كل حين، وإذا قمنا بتقييم هذه المسألة في إطار الخدمة الإيمانية، فإننا نرى انعكاس هذا الدستور القرآني في حياتنا دون أن نشعر. وفي السابق قام بعض الأغنياء بالتبرع للطلاب الأذكياء من الفقراء وإسكانهم خدمةً للأمة، وبعد مدة شعروا أنهم قد أدّوا مهمتَهم وركنُوا إلى الدَّعة وإلى مشاغل الحياة فإذا بأبواب خدماتٍ جديدةٍ وواسعة تنفتح أمامهم وتدعوهم لتذوُّق أذواق خدماتٍ جديدة، كانت القلوب المخلصة تتساءل بقلق: أيمكن أن تنتهي هذه الأنواع من الخدمات الإيمانية؟ ألا توجد هناك ساحات أخرى وساحات أوسع؟، فإذا بساحات خدمات أخرى وفي مناطق جغرافية أوسع تنفتح أمامهم، وإذا بهم يتذوَّقون لذة أداء هذه الخدمات في سبيل الله، ويتجرَّعون كؤوسها مُترَعةً”.

وبروح التفاني في العمل، والفناء في ذات الله، تقدمت “الخدمة” خطواتٍ هائلةً في كل ميدان، فلقد تفوَّق أهل الخدمة في الفاعلية التي عُرفت عنهم واشتهروا بها، وذلك بسبب التوسع الأفقي والعمق الرأسي في هذه الخدمات، حيث خاضوا كل مجالات الخدمة، وجمعوا في كل مجال منها بين الإخلاص الدعوي والإتقان المهني، ولذلك تسابق الناس على الاستفادة من خدماتهم مع أن عددًا من هذه الخدمات تأخذ رسومًا مقابلها، كالخدمات التعليمية والطبية، وذلك لحضور المعنى الإيماني والروحي والذي لا يفصل أي أمر دنيوي عن الآخرة، ولوجود الرسالة التي لا تُخرِج أي خدمة من دائرة العبودية لله تعالى.

وإن الأستاذ فتح الله كولن ليُرشدهم ويوجههم على الدوام أن يجمعوا بين روح التفاني مع عدم رؤية العمل، بل إنه يدعوهم إلى مراقبة حديث النفس.

فحديث النفس مثل: أنا فعلتُ كذا، وقمتُ بكذا، ليُقَوِّض ركنًا من القاعدة التي نرفعها من أجل غايةٍ عظمى في المستقبل وقد يحملنا على الأنانية والغرور، أجل، لأن نكون أفرادًا عاديين في هذا الأمر لهو أثمنُ شيء عندنا، فخيرٌ لك وأقوَم أن تكون جنديًّا بسيطًا بباب الله دائمًا.

بل إنه يتحدث عن الإمعان في ترك حظوظ النفس وهو: محو الذات أمام الحق سبحانه، ويجعل هذا المحو متناسبا تناسُبًا طرديًّا مع تحقُّق النجاح، وزيادة معدَّلات الإنجاز فيقول: “كلما عظم النجاحُ الذي تم على يديك، بالغْ في نكران ذاتك، وأوغِلْ في محو نفسك، وتذلّلْ أمام الله، وانكسر بين يديه، وأمعِنْ في العبودية له، ذلك أحرى بك كي لا تنسحق تحت أثقال أنانيتك، كان النبي  يبكي صباح مساء متضرعًا ويقول: “يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”. فإن اتخذتَ هذا الدعاء وِردًا لك، لا يفارق لسانَك ولا قلبَك، فقد وُقِيتَ من الانسحاق تحت حوافر النفس الجموح”.

ومع هذه الدعوة إلى “الفناء” في الخدمة، فهو لا يفتأ يدعو إلى التفاني في العمل والأداء، والاستمرار في العمل للدخول من عملٍ دعويّ إلى عملٍ دعوي آخر، فلا مجال للركون إلى الراحة.

وفي درسٍ متلفز له، من ترجمة موقع مجلة حراء يقول: “لا تأتوني بشخصٍ فعل هذا الأمر العظيم، وأسس هذا الصرح العظيم، بل ائتوني بهذا البطل الذي رغم أنه أسَّس “مئة” مدرسة، لكنه لا يتذكر ما فعل، ومتى فعل. ائتوني بذلك الأسد الذي رغم أنه أخذ بيد الكثيرين ممن ضلُّوا طريقهم، فساقهم إلى طريق الإنسانية الحقَّة، وارتقى بهم إلى القيم الإنسانية الكبرى، لكنك إن سألته عن هذا قال: لا أعرف، لا أتذكرَ! ائتوني بمن إذا فتح “إسطنبول” قال: لا أدري كيف حدث هذا، ليس لي من الأمر شيء! لا تأتوني بالمعجَب بعمله الذي إذا عمل عملا وزنُه مثقال ذرة، يصوِّره كالجبل”.

الهجرة: فتحٌ وجهاد

الجهاد بمعناه الواسع الشامل يُعدُّ ركيزةً أساسية تنطلق من خلالها تجربةُ الأستاذ كولن نحو بناء مجتمعٍ سديدٍ وأمةٍ راشدة، فمن خلاله يوجِّه الطاقات والقوى النفسية إلى الإبداع الحضاري، وإقامة المشاريع التربوية، وسدّ الثغرات في كل مجال، فهو يؤكد أن “الجهاد” واجب كل مؤمن، وأنه لا عذر لأحدٍ في تركه، فـ”الجهاد هو عملية وصول الإنسان إلى ذاته، أو إيصال الآخرين إلى ذواتهم، فهو في أحد جوانبه بمثابة الغاية من خلق الإنسان، ولذا فهو يحمل أهمية عظيمة، وله عند الله قيمة مقدَّسة”.

فالرجل مهمومٌ بأمته، مأخوذٌ بدعوته، نذَر حياته لنهضة أمته وإحيائها، فهو يبعث الهمم، ويوقظ الضمائر، ويحيي الأرواح بهذا الدين ولهذا الدين.

انظر إليه كيف يرى الحديث الشريف الآتي: عندما سأل الصحابةُ الكرامُ رضوان الله عليهم الرسول  عن الخيل قال: “الخَيلُ لِثلاثَةٍ: لِرجُلٍ أَجرٌ، ولِرجلٍ سِترٌ، وعلى رجل وِزرٌ، فأمّا الذي له أجرٌ فرَجلٌ ربَطها في سبيل الله، فأطالَ في مَرْجٍ أو رَوْضَةٍ، فما أصابتْ في طِيَلِها ذلك مِن المَرجِ أو الرَّوضَة كانتْ له حسناتٌ، ولو أنّها قطَعتْ طِيَلَها، فاسْتَنَّتْ شرَفا أو شَرَفَينِ، كانتْ أَروَاثُها وآثارُها حسَناتٍ له، ولو أنّها مَرّتْ بنَهرٍ فشَرِبتْ منه ولم يُرِدْ أنْ يَسْقيَها كان ذلك حسَناتٍ له. وأمّا الرّجُلُ الذي هي عليه وِزرٌ فهو رجُلٌ رَبَطَها فَخْرًا ورِياء ونِواءً لأهل الإسلام فهي وِزرٌ على ذلك” (متفق عليه).

يقول: “وقد ذُكر الخيل في الحديث لأنها أَسرع واسطة للنقل والحرب لعصر معين، واليوم قد تكون سيارة وزرًا على صاحبها، حيث يستعملها في السفاهة والآثام، وربما وسيلة للعداء للإسلام. وسيارة تكون سترًا لصاحبها حيث يستعملها في أمور مشروعة، وربما واسطة لرزقه ولا ينسى حق الله فيه، وسيارة أخرى نُذرت في سبيل الله، يتنقل بها صاحبها من قرية إلى أخرى ويصطحب فيها الدعاة والوعَّاظ إلى مواضع المحتاجين إليهم، فكل قطرةِ وقودٍ تحرقها هذه السيارة، وكل قرش يصرف عليها، وحتى الغازات العادمة الخارجة منها، والأصوات الصادرة منها، والطين الذي الْتصق بعجَلاتها.. كل ذلك يُكتب حسنات في سجل حسنات صاحبها، ولسان حاله يقول: إن الغاية من شرائي هذه السيارة هي نشر الحقائق. وغنيٌ عن التعريف أن هذا مقدِّمة للأعمال الجليلة التي تتحقق بإذنه تعالى في المستقبل”.

الجهاد هو بذل الجهد لتحقيق غايةٍ سامية، والأستاذ كولن هو داعيةٌ من طرازٍ فريد أسَّسَ تجربته الدعوية على أساسٍ من التضحية والفداء، عاش حياةً من البذل والعطاء، فهو ينفث في روح الشباب المجاهد حقًا أنه لا انسجام بين الدّعة والراحة وبين الجهاد في سبيل الله.

يقول: “فالذي لا يستطيع ترك راحته ولا يُضحِّي بحظوظه الشخصية وأذواقه الذاتية، لا يُنتظر منه مهمة جليلة كالجهاد، بل من العبث الانتظار. ذلك لأن المهام الجليلة لا ينهض بها إلاّ من يُضحي بمطامعه الشخصية وأذواقه المادية والمعنوية”.

الهجرة: احتضان الإنسانية

من الصفات التي يحددها كولن لورثة الأرض في كتابه الرائع “ونحن نقيم صرح الروح”: العشق.

والعشق وفق المفهوم الذي يطرحه كولن متأثرًا بتعبيرات مولانا جلال الدين الرومي (الصوفي الشهير): “يُعدُّ أهم إكسير للحياة في الانبعاث من جديد. إنّ من يُعَمِّر ويجهِّز قلبه بالإيمان بالله وبمعرفته، يحسُّ حسب درجته بمحبة عميقة وعشق أصيل لكل البشر، بل لكل الوجود… فيعيش عمره كله وسط حالات المد والجزر للعشق والمواجد والأذواق الروحانية التي تحتضن الوجود كله جميعًا، ونحن بحاجة في الحاضر إلى أن تفيض القلوب عشقًا، وأن تتعبأ شوقًا، لتحقيق انبعاث عظيم“.

العشق إذًا وفق “الرومي” و”كولن” هو (احتضان الإنسانية)، وحب كل الناس من زاوية أنهم “خلق الله”، فهو حبُّ المخلوقات من أجل الخالق سبحانه، ويسأل أحدهم جلال الدين الرومي: ما العشق؟، فيكون جوابه: “كن أنا تُدرك”، والحال أنه لا يمكن تعلمه من قراءة الكتب والدفاتر، فرؤية الجمرة في الموقد والعسل في القنِّينة ليست علما، فتعلَّم الحُرقة ممن احترق، واعشق إن كنت تريد معرفة العشق”.

وهنا نلاحظ أن أهم سمات التصوف عند كل من الرومي وكولن أنه مضادٌّ تماما لتصوف الزهد والانسحاب، بل يمكن القول بلا تردد أنه تصوف المواجهة والصراع.

لكن من أهم أدوات هذه المواجهة وهذا الصراع عندهم: “الحنوّ على البشر، والنظر إليهم بعين الإشفاق، بل وأحيانا الفهم إلى ألوان ضعفهم، فهو عِرفانٌ ينزل إلى خضم الحياة ينازلها ويقف أمامها وجها لوجه”.

وهذا التلاحم بين حب الله وحب خلقه يثمر حركةً نحو خدمة الخلق ابتغاء مرضاة الله تعالى يقول كولن: “فما من حركةٍ يمكن أن تثمر تبقى بمعزل عن العشق… وخصوصًا إن كانت الحركة أو الحملة ذات امتداداتٍ إلى العقبى. إن العشق الإلهي الذي يمكن أن نعرّفه في إطار تعيين موقعنا من الله سبحانه بصفته الخالقَ المتعالي وصفتنا العبدَ العاجز الضعيف؛ واستشعارِ نشوة الخلق باعتبار وجودنا ظلاً لضياء وجوده “هو”؛ والإيمان بأن نيل مرضاته غاية الخلق ومقصده، والسعي لتصيّدها بلا توان أو وهن، هو مصدر للقوة مكنون بالسر، ولا ينبغي أن يُهمِل ورثة الأرض هذا المصدر، بل ينبغي أن يَحْيَوه جيّاشًا وفوّارًا”.

الهدف السامي من الهجرة (رضا الله)

إن الغاية الكبرى من وراء كل سعي في إحياء الأمة وبناء المجتمع هي: رضا الله، فسواء بعد ذلك إن تحققت نتيجة السعي أم لم تتحقق فالغاية موجودة ومتحققة.

“وحسب المنظور الإسلامي، يُعَدُّ المقصود حاصلاً بنوال الهدف البديهي لكل حركة أو حملة، وهو رضا الله تعالى. فسواء بعد ذلك تحققت نتيجة الخدمات المقدمة باسم أمتنا بارتقائها إلى المكان اللائق بها في التوازن الدولي، أم لم تتحقق؛ فإن المؤمن يسعى لنوال رضاه تعالى في كل خدمة إيمانية وكل فعالية دعوية. فبهذه النظرة يتحول غيرها من الأهداف إلى أهداف إضافية واعتبارية، ومحض وسائل تؤدي إلى الهدف الحقيقي”.

وحين يتضح عند الداعية أو رجل الخدمة الإيمانية هذا الهدفَ السامي، ومراحله وطبيعته، فإن نار الشوق تمُور في وجدانه، منطلِقًا إلى غايته لا يلوي على شيء.

“تجده وقد شرع أجنحته وحلَّق مثل الطائر حينًا، وحطَّ على الأرض وسار ماشيًا حينًا آخر؛ فهو ميمِّمُ وجهه نحوه سبحانه يهرول إليه دون توقف وقد احتضن كل شيء بمحبة غامرة، في كل منزل يحط رحاله فيه، يشعر بظلالٍ جديدةٍ للوصال تظلله فيعيش بهجة “ليلة عُرْس” سعيدة وفي كل منحنى يطفئ نار شوق، ويلتهب في الوقت نفسه بنار شوقٍ أخرى، فيبدأ بالاحتراق من جديد، ومن يدري كم مرة في اليوم يجد نفسه مغمورًا بنسمات الأنس، وكم مرة يحزن ويتألم للوحشة والوحدة التي يعاني منها البؤساء الذين حُرِموا من الإحساس بهذه المواهب السَنية والإشراقات البهية”.

ألا ما أروعه من هدف، وما أسماها من غاية، تلك التي تجعل المسلم في إشراقٍ واحتراقٍ كل يوم، بل في كل آنٍ، لأنه ركَّز همته، وجمع طاقته في هذا الهدف، فصار كشعاع الليزر الذي يفعل الأعاجيب من حزمة ضوءٍ مركِّزة، فيقطع الحديد، ويصل إلى الفضاء، فكذلك من جمع شتات قلبه نحو هذه الغاية، يفتح الله به فضاءاتٍ جديدةً كل يوم.

حركة نماذجها من نفسها

يذكر د. أرجون جابان أن “الخدمة” حركة نماذجها من نفسها، بمعنى أن نموذج الخدمة الذي قدمته حركة المتطوعين بالاستفادة من فكر وفلسفة الخدمة لدى الأستاذ فتح الله؛ لا يرتبط بأي طريقة أو حزب، بل استفاد من الأفكار المتعددة، وتأسى بالصحابة، وأن تخرج كل خدمة نموذجها من نفسها.

وهذا ما يستطيع الناظر لأول وهلة أن يكتشفه عند أول احتكاك بأنشطة الخدمة في الأقطار المختلفة.

وعلى المستوى الشخصي ورغم محدودية التجربة بالنسبة لي فقد ظللتُ قرابة 4 سنوات أقرأ ما كتبه الأستاذ فتح الله كولن، وما كُتِب عن الأستاذ وعن الخدمة، وظَلِلْتُ أكتب حتى انتهيت من الرسالة، ولم أكن قد عاينتُ ما كتبت، حتى كانت زيارتي إلى نيجيريا عام 2017، فرأيتُ هناك ما تضاءلت بجانبه كتاباتُ الكاتبين ومدح المادحين؛ رأيتُ مهاجري الخدمة يجوبون آفاق البلاد طولاً وعرضًا في ظروف صعبة وبلاد وعرة، يُنشِئون المؤسسات التعليمية والتثقيفية،
لا يحول بينهم وبين رسالتهم اختلاف اللغة ولا تباين الثقافة ولا صعوبة العيش في أماكن نائية. رأيتُ مدارس على أعلى مستوى من التقنية الحديثة ومن أساليب التربية ومن جودة التعليم. ذهبنا ذات مرة إلى مدرسة تسمى “التلال الزمردية”، فإذا بها تقام على أرض زراعية في وسط قرية من قرى إحدى الولايات النيجيرية، وفي طريقنا رأيت أطفالاً في كتاتيب مبانيها متهالكة لدرجة تجعلك ترى من بداخلها، ورأيتهم يكتبون على ما يشبه الألواح الخشبية قديمًا. قرية فقيرة معدمة وأناس بسطاء، كيف جاء أبناء الخدمة إلى هنا؟! ما الذي أغراهم بالوصول إلى هذه الأماكن القاحلة؟! في مكانٍ كهذا وجدتُ مدرسة التلال الزمردية شاهدة على عظمة الفكرة وروعة التطبيق، وحين قابلتُ الطلاب من أبناء نيجيريا وجلست بينهم لم أتمالك حينها دموعي من البكاء، فقد كان ما رأيت مدهشًا ومثيرًا أكثر مما كنت أتوقع.

في الحقيقة لم تكن مدارس الخدمة على انتشارها وجودتها، ولا المستشفى النظامية على روعتها وفخامتها، ولا جامعة النيل على سعتها وتعدُّد مجالاتها، هي أكثر هذه المشاهدات تأثيرًا في نفسي وانطباعًا في مشاعري ووجداني.

أجل، لم تبهرني مؤسسات الخدمة على ما فيها من عناصر الإبهار بقدر ما أبهرني ذلكم العنصر البشري الذي أوجد هذه المؤسسات من الأساس، وبثَّ فيها من روحه، وعمَّرها بِنَفَسه الإيمانيّ، إنسان الخدمة وبطل التضحية ومهندس الروح ونموذج الفداء هو الذي أسَرَني.

لستُ أنسى -ما حييتُ- ذلك الرجل الكريم الذي كان رفيق رحلتنا ومرشدها وموجِّهنا فيها منذ أن وطئت أقدامُنا أرض نيجيريا إلى أن غادرناها إلى بلادنا، كان أكبرنا سنًّا، لكنه كان أعلانا همَّة وأقوانا عزيمةً وأكثرنا حيويَّةً وانطلاقًا، فنفخ فينا من روح عزيمته، وجدَّد فينا النشاط بهمته، وأحيا فينا الأمل بحيويته، فانبعثت في النفوس همَّةٌ كانت راقدة، ونشطت من عِقالها حيويةٌ كانت راكدة، فإذا بنا نُنجِز في يومٍ واحد ما لا يُتصوَّر أن يُنجَز في أيام متواليات.

أحيانا ينعقد لسانُك، ويجفُّ مداد قلمك، حين يكون جَيَشَانُ مشاعرك أكبر من كل تعبير، وأعمق من كل تفسير، لقد كان أخونا الفاضل هذا بالنسبة لي أصدق بيانٍ للخدمة، وأعمق تفسير لها.

إن نسيتُ فلا أنسى أنه -وهو الغريب في هذه الأرض، القادمُ إليها من بلادٍ نائية- استطاع بهمته العالية، وفعاليته الفائقة وخفَّة ظله المعهودة أن يجمع حول فكرة الخدمة (خدمة الإسلام والإنسانية) هذا العدد من الباحثين المتميزين والأكاديميين البارزين، والشباب الواعدين من الإخوة النيجيريين ومن غيرهم من أهل إفريقيا، ناهيك عن التواصل مع قادة الفكر والرأي الرسميين وغير الرسميين.

حين رأيت ذلكم الفارس النبيل والرجل الشهم تلوح على قسمات وجهه نضرة الرضا، وسيماء المحبة لم أكن أتخيل قط أن صاحب الوجه البشوش والذهن المتّقد صاحب همّ كبير، وأن بعض أهله عالقون في تركيا لا يستطيع حتى مجرد الاطمئنان عليهم -هذا ما علمته من بعض المرافقين لأنه لم يتكلم عن نفسه أو معاناته قط-، ذلك الذي يحمل حقيبة سفره على كاهليه، مهاجرًا إلى ربه، شعاره: “وعجلتُ إليك ربِّ لترضَى”، يحمل عصاه في يده مرتحلاً بين البلاد، غارسًا في كل بلدٍ ينزل فيه بذرةً طيبة ونبتةً مباركة، حتى إذا ما آتت الثمرة أُكُلها، وأينعت ثمارها واستوت على عودها، ارتحل إلى أرضٍ أخرى قاحلة، ليغرس فيها بذورًا جديدة، ويستنبت فسائل الخير، وينشر الزهور والرياحين في كل مكان، يفعل هذا والشوق يكوي قلبه، والعشق يملأ جوانحه، ولسان حاله يردد:

يَقُولونَ لي ما أنتَ في كلّ بَلدَةٍ      وما تَبتَغي؟ ما أبتَغي جَلّ أن يُسْمى

وحين علمتُ بوفاة هذا البطل الهمام (الأستاذ حسين بيدار) متأثرًا بفيروس “كورونا”، هناك في تلك الأراضي البعيدة، فهمتُ حينها -ربما للمرة الأولى- قول الله تعالى: “وَمَن يَخْرُجْ مِن بيته مُهَاجِرًا إِلَى ٱللهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى ألله” (النساء: 100).

وكأن الأستاذ كولن لا يرسل إخوانه وتلاميذه لكي يعودوا إليه منتصرين مزهوّين بأعمال جليلة، بل لكي يفنوا ذواتهم هناك حتى يقضوا نحبهم، وتُدفن معهم أعمالهم النبيلة تمامًا كما تُدفَن البذرة الأصيلة في التراب لتزهر عما قليل وتثمر فيأكل الناس من خيرها وينعموا في ظلالها.

صحيحٌ أن الفكرة التي تُقدِّمها الخدمة للإنسانية فكرةٌ معقولةٌ، والأفكار المعقولة بطبيعتها جديرة بالبقاء حريَّةٌ بالانتشار، بيد أن الأفكار الجيدة تحتاج إلى رجالٍ يُحسنون حملها، ويتفنَّنون في عرضها ويجمعون الناس عليها، وهذا ما رأيتُه في هذا الأستاذ في تواضعٍ جمّ وأدبٍ راقٍ وتفانٍ في الخدمة ونكرانٍ للذات.

ليست القضية في شخص بعينه وإنما في نموذج إنساني يخدم البشرية من منطلق إسلامي وإنساني، نموذج يزاوج في إبداعٍ بين الفكر والحركة، وفي عمقٍ بين التصوف والسلوك، وفي بساطةٍ بين الجمال الفني والمعنى الرِّسالي.

أوليس دور الباحث أن يُقدَّم نماذج قابلة للتعميم ليستفيد الناس منها، وينسجوا على منوالها؟ وعلى حد قول الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله- “فكلُّ باحث يجتهد في تفسير ظاهرة، يقدم تفسيره ويقول في تواضع: هذا هو اجتهادي وأرجو أن تختبروا صحة ما توصَّلتُ إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

– ملحق مجلة حراء، فتح الله كولن، أشواق أمة، واستنهاض حضارة، عدد خاص، صـ 5

– المرجع السابق، صـ 7.

– مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي: خبرات مقارنة مع حركة فتح الله كولن التركية (مؤتمر دولي نظّمته جامعة الدول العربية 2009م بالقاهرة، الطبعة الأولى، دار النيل، من كلمة د. عمار جيدل، صـ 452.

– فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، أنس أركنه، دار النيل 2010 صـ 42.

– كان تفكك الاتحاد السوفييتي رسميا في 25 ديسمبر 1991، إلى 15 دولة مستقلة.

– عودة الفرسان: سيرة محمد فتح الله كولن، ط1 دار النيل 2010، د. فريد الأنصاري، صـ 309.

– المصدر: الموقع الرسمي لـ “حركة كولن” على شبكة الإنترنت www.gulenmovement.us.

– نقلاً عن موقع: تحالف القيم المشتركة The Alliance for Shared Values.

– انظر: عبقرية فتح الله كولن بين شواطئ الخدمة وقوارب الخدمة، ط 1 دار النيل 2012 د. فؤاد البنا، صـ 150 – 155 بتصرف واختصار.

– الرد على شبهات العصر: سلسلة أسئلة العصر المحيِّرة، فتح الله كولن، دار النيل 2015 صـ 268

– المرجع السابق، صـ 269.

– شرح صحيح مسلم، الإمام يحي بن شرف النووي، تحقيق، د. وهبة الزحيلي، دار السلام، 1996م.

– الاستقامة في العمل والدعوة، فتح الله كولن، ط1 دار النيل 2015، صـ 271.

– انظر: عبقرية فتح الله كولن بين شواطئ الخدمة وقوارب الخدمة، د. فؤاد البنا، صـ145, 146، بتصرف واختصار.

– نُشِر هذا الحوار في كل من: جريدة الشرق الأوسط:(24-25/3/2014)، موقع الملف التركي:(26/3/2014)، ونُشر مع مجموعة من الحوارات الأخرى في كتاب “كلمات شاهدة “، ط1، دار النيل. القاهرة 2015.

– حوار جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ 24/3/2014.

– شدُّ الرِّحال إلى غايةٍ سامية، فتح الله كولن، ط1، دار النيل 2014 صـ 172.

– عبقرية فتح الله كولن بين شواطئ الخدمة وقوارب الخدمة باختصار، د. فؤاد البنا، صـ 131.

– فتح الله كولن: أضواء قرآنية في سماء الوجدان، ط6، دار النيل، 2013 صـ 350.

– الموشور، فتح الله كولن، ط1، دار النيل 2015، صـ32.

– مقال “نكران الذات والمدد الرباني”: المقال الرئيسي، مجلة حراء، العدد 24، 2011.

– موقع مجلة حراء www.hiramagazine.com.

– الاستقامة في العمل والدعوة، فتح الله كولن، ط1، دار النيل 2015، صـ 176.

– روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، فتح الله كولن، ط6، دار النيل 2015 صـ 70.

– روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، فتح الله كولن، صـ 110.

– يوضح كولن المقصود بـ ” العشق”، قائلا:” هو الرغبة التي لا تقاوم في سبيل الوصول إلى الحقيقة والكشف عنها” (المصدر: لمسات على الطريق، فتح الله كولن، صـ 154).

– المرجع السابق، صـ 35.

– يعنى أن هذا مما يتذوقه الإنسان ولا يستطيع التعبير عنه بالألفاظ، فلإدراكه يجب أن تشعر بما يشعر به.

– مولانا جلال الدين الرومي، د. جيهان أوقويجو، ط1، دار النيل 2014 صـ 204.

– من مقدمة: المثنوي لجلال الدين الرومي، د، إبراهيم الدسوقي شتا، صـ 8، ط1 المجلس الأعلى للثقافة، ج3، القاهرة، 1997.

– ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ط6، دار النيل 2012 صـ 36.

– ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ط3، دار النيل 2013، صـ 46.

– من تعبيرات جلال الدين الرومي يعبر بها عن فرحة الوصال بالموت ولقاء الله تعالى.

– من مقال “سمات المؤمن الحق”، مجلة حراء، العدد 44، 2014.

– أطروحة ماجستير بعنوان: “تجربة الشيخ فتح الله كولن الدعوية، دراسةُ نموذجٍ لنهضة المجتمع والأمة من خلال العمل الدعوي” جامعة الأزهر. كلية أصول الدين بالقاهرة، قسم الدعوة والثقافة الإسلامية.