مع أننا نحاول في الحقيقة ضمن دائرة معينة وضمن مقياس ما، القيام بشعائر الاحتفال بمولده بتوزيع بعض الحلويات وماء الورد، وأحياناً بجلب بعض المغنين أو قراء المدائح النبوية لإثبات ارتباطنا به… ولكن كل هذه المحاولات لا ترتقي ولا تتناسب مع عظمته. بل لم تصـل حتى إلى الاحترام والاهتمام الموجه إلى عظماء في التاريخ لا يستطيعون إلا أن يقفوا باحترام أمام سـيد الأنبياء والمرسلين. فمثلا لا نشاهد أي فورة فرح أو مظاهر بهجة كالتي نشاهدها في مناسبات عيد ميلاد المسيح عليه السلام وفي احتفالات رأس السنة الميلادية.
والمقترحات التي يمكن تقديمها هنا ليست بطبيعة الحال من التكاليف الشرعية، فلا يمكن لأي أحد ادعاء هذا. ولكني أتساءل ألا يمكن أن نجعل هذه الاحتفالات -باسم رسالته الهادية النورانية- أكثر عمقا وغنى وجدية؟
لماذا لا يستطيع المسلمون الاحتفال في ربيع الأول كما يجب بمولد سلطان الأنبياء الذي هو ميلاد هذا العالم وربيعه، ويـوم خلاص الإنسـانية نفسها.
يتم الاحتفال بالأيام العائدة إلى السـيد المسيح عليه السلام في جميع البلدان تقريبا، المسيحية منها وغير المسـيحية، بمظاهر كبيرة من الفرح والحبور والبهجة. وتستمر هذه الاحتفالات أسابيع، بل أشهرا، تجري فيها حوارات وكلام في هذا الموضوع. وفي كل أسبوع يتم تبادل التهاني والهدايا باسمه، ويكون هذا هو الشغل الشاغل لدوائر البريد في تلك الأيام، وتدق الهواتف على الدوام من أجله، وترتفع سماعات الهواتف لـه، وتتزين كل الأرجاء بالشـموع، وتغرق الأسـواق والمحلات التجاريـة بالأضـواء، وترتفع الضحكات. تنقلب البيوت إلى خلية نحل تئز بالمشاعر نحوه، وتئن المعابد بأناشيده، ويمر كل يوم ضمن احتفالات ساحرة تدير الرؤوس.
صحيح أن العديد من الناس في هذه الكرنافالات التي يختلط فيها الحابل بالنابل لا يعرفون ما يفعلون ولا يعرفون لماذا يفعلون، ويكون الكثير من تصرفاتهم تصرفات تهريجية ودون أي ضوابط. ولكن مع هذا تَشم في تلك الأيام نوعا من الوجد الديني، وقطاعات كبيرة من الناس تعرف ماذا تفعل.
منذ عصور ونحن عاجزون عن الاحتفال بيوم وأسبوع وشهر ولادة هذا الرسول الكريم ﷺ الذي تدين له الإنسانية جمعاء، بما يتناسب مع قامته السامقة.
على أي حال من الأحوال فإن الأيام والليالي المرتبطة بالمسيح عليه السلام قد امتزجت في فكر الإنسـانية إلى درجة أن الجميع -أدركوا ذلك أو لم يدركوه- يجدون أنفسهم في خضم هذه الاحتفالات الغريبة. وسواء أكانت الاحتفالات عبـادة أو لهوا أو تهريجا، فهم يجدون أنفسهم يشاركون المسيحيين المشاعر نفسـها، ويقومون ويقعدون مع هذه المشاعر، حتى إنهم يقومون بقطع أشـجار الصنوبـر وبذبـح الديك الرومي، وبشـرب الشمبانيا، فيسكرون حتى الثمالة، ويخرجون إلى الشارع سكارى لا يدرون ما يفعلون.
طبعا نحن لا نرضى ولا يوجد هناك شخص واحد يرضى أو يقبل تحول مناسبة المولد السعيد والمبارك والمبجل، ولا تحول الدين الإسلامي إلى مثل هذه الكرنافالات. كما لا يملك أحد القدرة على القيام بمثل هذا التحويل. ولكن كلما شـاهدنا كيف أن دنيا يسودها الكذب والريـاء استطاعت استغفال الإنسانية كلها وأخذتها في شباكها… كلما شاهدنا هذا نحاسب أنفسنا ونتسائل بحزن: “لماذا لا يستطيع العالم الإسلامي الاحتفال في ربيع الأول كما يجب بمولد سلطان الأنبياء الذي هو في الوقت نفسه ميلاد هذا العالم وربيعه، ويـوم خلاص الإنسـانية نفسها… الاحتفال بنفس المشاعر الجياشة”.
يجب ترتيب ندوات على غرار “ندوة الرسالة الخالدة” على أن تعقد هذه الندوة كل سنة في بلد مختلف.
لا يجب أن يتبادر إلى الأذهان مما ذكرنا أعلاه أننا نريد المسّ بمقام سيدنا المسيح u وبمنـزلته، أو بمقام أتباعه وحوارييه. فالاحترام والتوقير الذي نحمله نحن المسلمين تجاه هذا الرسـول الكريم لا حد لـه. كما نؤمن بأن الرسالة التي أتى بها تشكل الآن ركنا مهما من أركان المدنية الغربية الحالية. فالمؤرخون وعلماء فلسفة الحضارات يذكرون بأنه لولا رسالة المسيح u وما حملته من روح ومعنى لما ظهرت المدنية الغربية. لأن هذه المدنية تعتمد على أركان أو على أسس ثلاثة هي: الفكر اليونـاني (الفكر الرياضي)، والقانون الروماني، ثم الركن الثالث المهم وهو الدين المسيحي. ويجب هنا أن نسجل بأنه لولا فخر الكائنات محمد r ورسالته الهادية المنيرة لما كانت هناك حضارة تحت اسم الحضارة الإسلامية. ولولا الحضـارة الإسلامية لما كانت هناك الحضارة الغربية.
أجل!.. فلو لم يكن هناك الديـن الإسلامي بسماحته المعروفة ودفئه وتقديره للعلم والفكر وحضّه عليهما… ولولا شروقه على سـفوح الغرب بألوانه السماوية… ولولا قيام العلماء المسلمين والمفكرين الأتراك منذ القرن العاشر بنقل الثقافة اليونانية – اللاتينية إلى أوروبا وتعريفها للأوروبين لبقي الغرب حتى الآن في ظلام القرون الوسطى. وكما هو معروف فإن علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والهندسة والطب وغيرها من العلوم كلها من منشأ شـرقي، ومنصهرة في البوتقة الإسـلامية. وعلى الرغم من وجود فئة مسـتغربة تتصور أن الغرب وحده هـو مصدر كل شيء متعلق بالمدنية، وهي لا تقبل سوى هذه النظرة، فإن الغرب اضطر لكي يأخذ موضعه الحالي من المدنية إلى الانتظار سـتة عصور بعد بعثة المسيح u… انتظر والتقى بالإسلام. وسواء أسْتطاع الغرب تقييم هذا اللقاء كما ينبغي أم لم يستطع، فهذه مسألة أخرى، ولكنه تأثر به دون أي شك، واستفاد منه كثيرا، وخطط مستقبله على ضوئه.
على الرغم من عدم قيـام الغرب بتبني الضوابط التي تشكل أسس الحضارة الإسلامية إلا أنه أخذ الشيء الكثير من الإسـلام واستفاد منه. ولعب ما أخذه عن الإسـلام، وما تداعى إليه منه، دورا كبيرا في تشكيل العقل والفكر الغربي الحديث. لذا نستطيع أن نقول مع الشاعر محمد عاكف:
الدنيا مدينة له فيما تملكه،
المجتمع والفرد مدين له،
البشرية بأسرها مدينة لذلك المعصوم،
يا رب!.. ثبتنا على هذه الكلمة يوم الحشر…
على الرغم من عدم قيـام الغرب بتبني الضوابط التي تشكل أسس الحضارة الإسلامية إلا أنه أخذ الشيء الكثير من الإسـلام واستفاد منه.
منذ عصور ونحن عاجزون عن الاحتفال بيوم وأسبوع وشهر ولادة هذا الرسول الكريم ﷺ الذي تدين له الإنسانية جمعاء، بما يتناسب مع قامته السامقة الرفيعة، بل لا يتم الاحتفال به بنسبة ما تتم من الاحتفالات لعظماء التاريخ الذين لا يستطيعون بلوغ كعبهﷺ . فلو رتبت الاحتفالات بمولده أياما وسنوات وعصورا لما تم الإيفاء بحقه. ولو أنشدنـا عشرات وآلاف القصائد والأناشيد كل ليلة لما أوفيناه حقه. ولكن انطلاقا من المثل الشعبي القائل: “السلطنة تليق بالسلطان، والتسول يليق بالمتسولين” نقول: “بدلا من عدم عمل أي شيء، فمن الأفضل عمل ما يمكننا عمله في الأقل”. لذا يجب ترتيب ندوات على غرار “ندوة الرسالة الخالدة” على أن تعقد هذه الندوة كل سنة في بلد مختلف، وتخصيص فترة معينة من الزمن لها. وإذا كان من الممكن تخصيص العام القادم كـ(عام محمد ﷺ) مع شعورنا بالخجل والحياء من بخلنا وعدم وفائنا المتجلي بتخصيص عام واحد فقط له.
المصدر: فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
ملحوظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.