إن الحركة أبعد ما تكون عن الطريقة الصوفية التي تستوجب شيخا وطريقة ومريدين وحلقات للذكر.. والأستاذ فتح الله كولن أبعد ما يكون عن ادعاء الولاية الصوفية، فهو -وكما كان الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي- حريص على ربط الناس بروح الفكر. فقد ربط الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الناس بالقرآن الكريم من خلال رسائل النور، ووجه اهتمام الناس ومحبّتهم إلى رسائل النور وليس إلى شخصه، وحتى عندما مات قُدّر لقبره ألا يعرف مكانه إلى اليوم. والأمر نفسه يسير عليه الأستاذ فتح الله كولن، فهو يحرص على أن يربط محبّيه وعموم أفراد المجتمع التركي وعموم أفراد المجتمع الإنساني بالقيم النبيلة القائمة على البذل والعطاء وعلى المحبة وعلى الخدمة. وهي قيم متكاملة في القرآن الكريم وفي سيرة الرسول وفي سيرة صحابته الكرام رضوان الله عليهم. ولهذا اعتُبر التاريخُ وأبطاله الوسيلةَ الفعالة في بناء الإنسان الكامل في مشروع الأستاذ فتح الله الإصلاحي.
يؤكد أنس أركنة أن الحركة بعيدة عن أن تكون حركة صوفية، وبالأحرى أن تكون طريقة صوفية تتمركز حول شيخها وتدخل معه في علاقة شيخ بمريده.
يرى محمد شَتِين أن الطريقة تقتضي قيام الشيخ بتعيين خلفه ووجود تراتبية ما، وهو أمر غير موجود في الخدمة. وإذا كانت الطرق الصوفية وخاصة الطرق المعروفة لها سلسلة شيوخ حتى تنتهي إلى شيخ مؤسس للطريقة، ويحفظ المريدون في الغالب أذكارا وأورادا يرددونها بإذن الشيخ، لا شيء مما ذُكر موجود في حركة الخدمة. لأن المنخرطين من المتطوعين في الخدمة يرتبطون بالأستاذ بعلاقة احترام وتقدير. فهم يحترمون الأستاذ فتح الله لأنه عالم ورجل صدق ضحّى بحياته من أجل أن يؤسس عالما واسعا يسوده التسامح والارتباط بالله، وتنتفي فيه الخلافات والصراعات، ولذلك كانت الخدمة بعيدة عن جو التكية وتقاليدها.
عمل كولن على إبعاد أنظار الجماهير عن كل ما هو أيديولوجي، لأن غرضه لم يكن هو تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية.
لم تعمل الخدمة منذ بداياتها على تمييز نفسها بأسلوب معين في العبادة ولا في اللباس. وبقي الأستاذ فتح الله يلح على ضرورة أن يظل فرسان الخدمة أفرادا من المجتمع. بمعنى أن الانخراط في الخدمة وفي العمل التطوعي لا يعني انسلاخ الناس عن المجتمع الذي ينتمون إليه، وقطع كل علاقة مع أفراده ومؤسساته. وما يؤكد هذه الأبعاد هو حرص الأستاذ فتح الله على حصر العلاقة في الأبعاد التطوعية بغضّ النظر عن طبيعة التوجه الفكري والعقدي للمنخرط. ولذلك وجد في طائفة العلويّين على سبيل المثال من يؤمنون بأفكار الأستاذ فتح الله ويتحركون في إطار رؤيته بما يخدم مصالح الفئة الاجتماعية التي ينتمون إليها.
نظرا لإلحاح موضوع هوية الحركة على الباحثين والمهتمّين، ونظرا كذلك إلى الجوانب المتعلقة بما له ارتباط بالخدمة في علاقتها بالواقع الذي تتحرك فيه، فإن قضية الهوية ملحة جدا ولا تكاد تخلو دراسة تتناول “حركة الخدمة” من وقفات تعريفية. ومرد ذلك هو إلحاح القضية على الدارسين. فالأستاذ محمد أنس أركنة الباحث المتخصص في علم الاجتماع يؤكّد أن الحركة قد تمكّنت من بناء شخصيتها الخاصة إذ يقول: “إن حركة فتح الله كولن شكّلت منهجها وطريقتها المستقلّة في نشاطها الديني والاجتماعي. والملامح الثقافية التي شكلتها هذه الجماعة ملامح أصيلة نابعة من نفسها مع كونها مرتبطة بالتراث”.
يرى محمد شَتِين أن الطريقة تقتضي قيام الشيخ بتعيين خلفه ووجود تراتبية ما، وهو أمر غير موجود في الخدمة.
بيّنا في مكان سابق في هذا المبحث أن الحركة مرتبطة ارتباطا قويا بروح الإسلام. فقد عمل فتح الله على مدى سنين طويلة على ترسيخ القيم الإسلامية السامية وعلى تزكية الأنفس بربطها بحقيقة الدين وصفائه الإسلامي، وعمل في الوقت نفسه على إبعاد أنظار الجماهير عن كل ما هو أيديولوجي، لأن غرضه لم يكن هو تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية، لأنه كان -وما يزال- يعارض بكل قوة تحويل الدين والإسلام على الخصوص إلى أيديولوجية، ولذلك يرى الأستاذ محمد أنس أركنة أنه من الخطأ النظر إلى حركة الخدمة أو دعوة الأستاذ فتح الله كولن على أنها حركة تتحرّك ضمن أيديولوجية إسلامية تقليدية. يقول مبرزا موقف الأستاذ فتح الله بخصوص هذه النقطة: “لنؤكّد أولا بوضوح أن حركة فتح الله كولن لا تملك بنية أيديولوجية، ولم تسْع إلى تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية. فقد عارض تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية، أو تفسيره على هذا النحو. لذا كان من الخطأ النظر إلى حركته كحركة دينية تتحرك ضمن أيديولوجية إسلامية تقليدية”.
يؤكد محمد أنس أَرْكَنَة أن الإسلام الأيدولوجي كان ردة فعل تجاه أيدولوجيا الاستشراق التي عملت على اعتبار “جميع الثقافات والحضارات خارج الحضارة الغربية نوعا من الوحشية والتخلف. وهذه الثقافة السياسية -التي تعودنا عليها منذ عصرين- كانت عملية تمييز سطحية بين الغرب و”الآخرين”. وقد استند الاستشراق مدة عصرين إلى هذه الأيديولوجية في علاقته مع أقطار العالم. إن الاستشراق ليس سوى أيديولوجية سعت منذ القرن التاسع عشر حتى الآن إلى تسهيل التوسع السياسي والعسكري والاقتصادي للغرب، وتأمين التحول الثقافي الذي يستلزمه هذا التوسع. أي إن الاستشراق كان قد عمل آثار هذا الاستعمار العالمي في جيناته، وهكذا ولدت في العالم الإسلامي الأيديولوجية الإسلامية التقليدية مقابل هذا الاستعمار والاستغلال”.
كان كولن حريصا ألا يميل بالخدمة أن تكون جماعة بالمعنى المعروف وألا يميل بها حتى تصير طريقة صوفية تواكلية.
ومن هنا يمكن القول إن أنس أركنة يلمّح إلى أن الخدمة لا تدخل في هذه الدائرة من جهة أنها ليست ردة فعل وأنها لا تنظر للغرب نظرة عداء، بالإضافة إلى بعدها الإنساني العالمي، كل ذلك يجعل الحركة بعيدة عن الأيديولوجية السياسية التي تميز حركات الإسلام السياسي. ولذلك فالأستاذ أنس يذهب إلى مَوْضَعة فتح الله ورؤيته الفكرية وحركة الخدمة في إطار التحول الذي يعرفه العالم المعاصر، من خلال ما يمكن أن نطلق عليه ما بعد الأيديولوجيا الأمبريالية والاستعمار ومركزية الثقافية الغربية، أو ما بعد أيديولوجيا الاستشراق بالنسبة للعالم الإسلامي.. وذلك من خلال توجه التفكير إلى أيديولوجية أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية وأكثر ارتباطا بالقيم، بمعنى أن فكر الخدمة منسجم في هذا المنطلق مع ما يروج إليه في كافة المنتديات الدولية، ولذلك فالخدمة ليس لها حاجة في توظيف قيم الإسلام التي تنطلق منها في إطار أيديولوجية، يقول:”لا شك أن الوضع العالمي الحالي مختلف عن الوضع والظروف السياسية التي ولّدت الاستشراق وولّدت الأيديولوجية الإسلامية التقليدية. فقد انفصل الوضع العالمي عن الأسس الأيديولوجية التي ارتبط بها الاستشراق الكلاسيكي، واتجه نحو وضعٍ أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية إلى قيم عالمية مشتركة. لذا فمن الخطأ الوقوع في خوف وقلق مما يجري حاليًّا في العالم الإسلامي واعتباره نتيجة للمغالبة السياسية ثم تهديدا للعلاقات الدولية، ولاسيما حركة فتح الله كولن، لأن الآلية الأساسية في هذه الحركة هي ماهيتها الدينية والثقافية والاجتماعية البعيدة عن الصبغة السياسية والأيديولوجية. وقد بقي الأستاذ فتح الله كولن طوال حياته بعيدا عن الفعاليات السياسية وعن الأهداف السياسية، ولم يقدم الإسلام في أي وقت من الأوقات كأيديولوجية سياسية، بل رأى أن هذا الأسلوب من التبليغ والدعوة، سيلحق ضررا بالدعوة الإسلامية، وكرر شرح موقفه هذا مرارا وتكرارا سواء في خطبته للجماهير أو مقالاته”.
يؤكد تلامذة كولن والمقرّبون منه جميعًا وتتطابق أحكامهم وأوصافهم حول مثالية تشبع أستاذهم بالقيم والأخلاق الإسلامية وزهده في الدنيا وارتباطه بالله.
وانطلاقا مما تقدم يمكن القول إن مشروع الخدمة ليست حركة دينية مثل الحركات الدينية الأخرى التي تنظر إلى الحداثة نظرة رفض وعدم قبول، هذا في الوقت الذي نجد فيه الأستاذ فتح الله ينظر إلى الحداثة من الزاوية الإيجابية. بل نلاحظ سعيا إلى نوع من المصالحة مع الفكر الحداثي مع تكييفه وفق المنظومة الإسلامية التي لم يتوقف طيلة حياته على الإلحاح على ضرورتها في كل سعي إلى النهضة والانبعاث وفي كل مشروع إصلاحي.
لم تعمل الخدمة منذ بداياتها على تمييز نفسها بأسلوب معين في العبادة ولا في اللباس.
قد تبدو حركة الخدمة وخطاب الأستاذ فتح الله ميالين إلى نوع من حياة الزهد والتصوف، وقد كتب الأستاذ فتح الله الكثير في التصوف، لكنه في إطار الخدمة كان حريصا على ألا يميل بها جهة أن تكون جماعة بالمعنى المعروف وألا يميل بها حتى تصير طريقة صوفية تواكلية. وقد يبدو الأستاذ فتح الله في مختلف مظاهر حياته رجلا زاهدا في الدنيا وناسكا بسبب الخلوة التي ألزم نفسه بها، لكنه لم يفرض مطلقا على محبّيه وتلامذته أن يكونوا مثله أو أن يعتزلوا المجتمع في زوايا وتكايا، بل على العكس من ذلك ظل دائما يحث الناس على أن يكونوا أفرادا من الناس وأن ينخرطوا في الحياة والمجتمع ويساهموا في إصلاحه وتغييره دون أن يتكلموا عن الإصلاح والتغيير. يقول أنس أركنة: “مع وجود بعض أوجه التشابه بين الآليات الرئيسية لحركة فتح الله كولن والطرق الصوفية التقليدية في استعمال بعض المفاهيم المتعلقة بالتربية الروحية والحياة القلبية، إلا أنها تختلف عنها في مجال تشكيل حركة مدنية مؤثرة، وفي طرز التثقيف، وفي منهجية سلوكيات الحركة. إن حركة فتح الله كولن حركة مجهزة بآليات الحركات المدنية، وفيها الكثير من المفاهيم التصوفية: الفكرية منها والعملية، مثل التواضع والتضحية والإخلاص، ونذر النفس للخدمة، والتوجه نحو الحق تعالى، والعيش لإسعاد الآخرين، وتقديم الخدمات دون مقابل، والتوجه نحو الحياة الروحية المعنوية والقلبية، ولكنها لا تجعل الإنسان يتقوقع على نفسه، بل يتوجه إلى الآخرين وإلى المجتمع أيضا”.
يؤكد أنس أركنة أن الحركة بعيدة عن أن تكون حركة صوفية، وبالأحرى أن تكون طريقة صوفية تتمركز حول شيخها وتدخل معه في علاقة شيخ بمريده، أي أن تتلقى من شيخها كل عناصر تَرقّيها من أذكار وغيرها من المظاهر التي تميز الطرق الصوفية كالتوجه “نحو العالم الداخلي الخاص والخفي للإنسان، وتحاول إضعاف علاقة سالكيها مع الشؤون الدنيوية ومع الحياة الاجتماعية ودفعهم إلى الحياة الروحية وتجاربها المختلفة وتحمّل المعاناة في هذه السبيل”.
يحرص كولن على ربط محبّيه وعموم أفراد المجتمع التركي وعموم أفراد المجتمع الإنساني بالقيم النبيلة القائمة على البذل والعطاء وعلى المحبة وعلى الخدمة.
يؤكد أفراد الخدمة وخاصة النخبة من الرجال الذين تربّوا في كنف الأستاذ فتح الله كولن وتلقّوا عنه مباشرة المعرفة والسلوك، أن الأستاذ فتح الله قدوة لهم في كل أمر. وأول ما يقف عليه المتابع والباحث في حديث هؤلاء التلاميذ عن أستاذهم هو ذلك التطابق الذي يجدونه في أستاذهم بين ما يقوله وما يفعله، فقوله وفعله شيء واحد ووجهان لعملة واحدة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
يؤكد تلامذة فتح الله كولن والمقرّبون منه جميعًا وتتطابق أحكامهم وأوصافهم حول مثالية تشبع أستاذهم بالقيم والأخلاق الإسلامية وزهده في الدنيا وارتباطه بالله، وتعلّقه بشخص رسول الله، بل يؤكدون بأن تقدير الأستاذ لشخص الرسول واحترامه وحبه له ليس له مثيل، ويتجلى ذلك في حرصه على إحياء سنّته بتطبيقها على نفسه قبل الغير.
الأستاذ فتح الله كولن أبعد ما يكون عن ادعاء الولاية الصوفية.
هذه المظاهر ومظاهر أخرى عرفانية تؤكد بأن الأستاذ فتح الله يعيش في أبعاد روحانية واسعة، لكن دون قطع علاقته بالواقع، فذهنه يقظ يتابع كل شيء من مجريات وأحداث، ويجهد نفسه في إيجاد حلول لها في ضوء اقتناعاته العقدية والفكرية والثقافية، وفي إطار التوازنات الدولية، وفي إطار يراعي روح العصر ولا يصطدم معه؛ بل هو حريص على أن تكون الخدمة هي التعبير الأرقى عن قدرة الإنسان المسلم على التكيف مع المحيط المحلي والعالمي في إطار إيجابي من خلال القفز على كل التناقضات التي يفرزها، والتركيز على العناصر الإيجابية والعمل على توظيف كل ذلك توظيفا سليما.
وأتصور بأن تعامله مع الحداثة ونظرته إليها يتم من زاوية إيجابية بعد إخضاع معطياتها للمنظور الإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد جكيب، أشواف النهضة والانبعاث فراغات في مشروع محمد فتح الله كولن. بتصرف.