يمكن تعريف التصوف أو الصوفية بسهولة بأنها البعد الروحيّ لأسلوب الحياة الإسلامي، أو بتعبير كولن «الحياة الروحية للإسلام»، فالصوفيّة خلافًا للإسلام السياسي تؤكِّد على الجانب الروحيّ في الإسلام، وتهتمّ أصلًا بإثراء العالم الداخليّ للبشر في رحلتهم نحو الحقيقة المطلقة، وينضوي الناس فيها عادة تحت مظلة روحية تجمع أبناء المشرَب الواحد، وليس بالضرورة أن تكون المظلة طريقةً من الطرق الصوفية.
ونشير هنا إلى أن الإنسان يمكن أن يتغير حقًّا، ويسمو روحيًّا بتهذيب وتوجيه المربّين العارفين بالله، لكنَّ مشاركته لهم في مجالس دينية أو إفادته من سَيْرهم وسلوكهم في رحلته الروحيَّة نحو الحقيقة المطلقة ليس معناه أنه لا بد من شيخ يكون مريدًا له أو طريقة صوفية يتبعها، فلبُّ المسألة أن يفيد المرء أعظم إفادة من السلوكيات أو التجمعات في ظل الوجود الروحي للأولياء أو المربّين ممن لهم خبرة في التزكية عرفوها وهم في طريقهم إلى الله، وعبر الرومي عن ذلك ببراعة في قصيدة له:
قلباه اسكن بقرب مَن عنده للقلب طِبّ
وبظل أشجار أُثقلت بنَضر الزَّهر فحسبُ[1]
ويقول كولن: “أعلى مراتب الولاية أن تتحلى بخلّة مخلصة مع الله”[2]، ويشعر أولياء الله الصالحون بهذه الخلة بحسب قدْرهم وقدرتهم، فهم وإن كانوا على صلة عميقة بالروحانيات وحظوا بقرب خاص من الله إلا أن ما يمكنهم الوصول إليه من الكمال له حدّ يتفق مع قدرتهم؛ وللولي فضائل معينة تميزه ويفوق فيها الآخرين:
“أولياء الله وأصفياؤه وإن كان كل واحد منهم إنسان القلب والروح؛ فإنهم يُذكرون بألقاب متنوعة مثل: الأبرار والمقربين والأبدال والأوتاد والنجباء والنقباء والأغواث والأقطاب؛ بالنظر إلى طباعهم وأمزجتهم ومزياتهم ومذاقاتهم ودرجة رقيهم وواجباتهم ومهامهم. وأيًّا كانت ألقابهم ودرجاتهم فهم جميعًا يشتركون بحسب استعدادات كلٍّ منهم في الخصال الحميدة مثل: الصدق والأمانة والتقوى والورع والزهد والرضا والمحبة والحلم والمسالمة والتواضع والتفاني والتوبة والإنابة والأوبة والخشية والمخافة. وكلهم تقريبا يتحركون في إطار هذه الأسس الإسلامية عدا أهل الشطحات”[3].
وكان كولن حذرًا جدًّا مِن سلوك مَن يهتم بالعبادات أكثر مما ينبغي على حساب مبادئ الإسلام العالمية الأوسع والأشمل، ومن مواقف متصوّفة لم يلتزموا بتكاليف الإسلام فضلّوا وأضلّوا، إلا أن كولن لم ينكر قط دور الطرق الصوفية وأهميتها في العالم الإسلامي، وخاصة في مراحل صعود الحضارات وأفولها:
“ورغم أن في كل عصر من العصور متعصبين من الصوفية ومتشبثين بظاهر الأحكام الشرعية من الفقهاء والمحدّثين والمفسرين إلّا أن أرباب الصراط المستقيم هم الأكثرية دائمًا بالنسبة لهؤلاء الذين أفرطوا وفرَّطوا”[4].
ولم تَعُد الدوائر القيادية في مجتمعات وديانات كثيرة اليوم تَعُدّ الفكر الإسلامي السائد يقدِّم أسلوب حياة أو نظامًا لبناء الأمة والدولة؛ دعِ المآزق السياسية والاقتصادية تجدْ من السهل شرح وتفسير قضايا الإسلام الأساسية، لكن ما أصعب وضع تلك القضايا في سياق قوميّ أو اقتصادي معين وتطبيقها على صور الواقع العملي في الحياة!
واختلف المسلمون في شأن الطرق الصوفية المتعددة في ضوء الفقه وقواعده ومقاصده وأصوله، فالصوفية في كتابات المسلمين قديمًا وحديثًا بين الإيجاب والسلب، واختلف العلماء مع الاتجاهات المتشددة اختلافًا هائلًا في قضايا الطرق الصوفية، بل بعض الفقهاء لا يرونها من الإسلام.
أراد كولن أن يحرر قرّاءه من أي تحيز أو خلط مسبق في أمر الصوفية الممثلة لروح الإسلام وعلاقتها بالمذاهب المختلفة، وله سلسلة في التصوف «التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح» استوعبت ما هو نظري وتطبيقي في الروحانيات على مدى التاريخ الإسلامي ومدارسِ المذاهب العقائدية، وتُعدّ من الأعمال المهمة في دراسة البعد الروحي للفكر والحياة في الإسلام، وتفتح أفقًا جديدًا، وتقدّم هدفًا يتعين بلوغه، وتبيّن وسائل التغلب على النزعة الحيوانية وترك التعلّق بالمادّة لبلوغ مقامات في حياة القلب والروح؛ وهي وإن بينت بوضوح أصول الحياة الروحية الإسلامية وجوانبها المختلفة إلا أنها لا تشير إلى أن كولن يؤيد طريقة صوفية بعينها، ولا أنه يدعو إلى طريقة جديدة بأي شكل أو وسيلة، وغاية ما فيها أنها تقدّم للمعاصرين شرحًا واضحًا لمجموعة كبيرة من قضايا التصوف.
قد يقال: لماذا أفاض كولن في تناول مصطلحات الصوفية ومظاهرها المختلفة في التطبيق الجماعي والتقوى الفردية؟ يجيب كولن عن هذا إجابة واضحة:
“إن دين الإسلام يركز طبعًا على العالم الروحيّ، ويَعدّ تزكية النفس من مبادئه الأساسية، فللزهد والتقوى والرحمة والإخلاص أهمية كبرى فيه؛ والمنهج الذي عُني بتلك الأمور على مرّ تاريخ الإسلام هو التصوف”[5].
ويؤكّد كولن في كتابه هذا على الحياة الروحية للإسلام في ضوء مجموعة مصطلحاتٍ بحيث يمكنك أن ترى في الصوفية الوجه الروحيّ للإسلام أو الحياة الروحية ذاتها، لا أنها علم نظريّ له مصطلحاته[6].
ويقدِّم كولن المصطلحات الصوفية في إطار المقاييس الإسلامية وأبديّةِ الحياة الروحية وعمقها الهائل، يقول علي أونال:
“يرسم الكتاب بأجزائه الأربعة حدود الطريق الروحي وينير كلَّ مرحلة ومحطة بكشافات ساطعة، فضلًا عن أنه قبل انطلاق تلك الرحلة الروحية يكسر الحدود والقيود المفروضة؛ لتنهض الحياة الروحية أو الصوفية على أساس المبادئ الإسلامية أيْ خطوة خطوة مع حدود الفقه الإسلامي دون ابتداع أو انزلاق في بدعة”[7].
وعُني كتاب «التلال الزمردية» بالجانب العملي من التصوف لا بأشكاله المؤسسية أو التنظيمية، فهو بهذا دليلٌ تفصيليٌّ لهذه الفكرة الأساسية: «الحياة الروحية الإسلامية جوهر الإسلام لا نظريًّا بل كما عاشها الصحابة رضي الله عنهم، فيقدِّم هذه الحياةَ تجربةً عميقةً بيَّنَها وحدّدها الإسلام لكلٍّ من القلب والعقل والجسد، ويبحث كيفية تشكلها وتطورها عبر التاريخ، فهو ينقل للأجيال القادمة تراث الصوفية بأبعادها كلها أو الحياة الروحية للإسلام بصورتها الكاملة طريقًا صحيحًا آمنًا محصنًا ضد أي انحراف»[8].
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] جلال الدين الرومي: الديوان الكبير، رقم الغزل: 563.
[2] فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-3، «الخُلّة»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 268-275.
[3] فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-3، «الولي وأولياء الله»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 72.
[4] فتح الله كولن: التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح-1، ص 22.
[5] http://fgulen.com/en/press/interviews-claims-and-answers/25016-claims-and-answers
[6] Ali Ünal, «Foreword,» Key Concepts in the Practice of Sufism: Emerald Hills of the Heart, Vol. 3, M. Fethullah Gülen, New Jersey: Tughra Books, 2009, p. ix.
[7] Ali Ünal, Ibid., Vol. 3, p. x.
[8] Ali Ünal, Ibid., Vol. 3, p. xii.
المصدر: ميمول أحسن خان، فتح الله كولن الرؤية والتأثير تجربة رائدة في المجتمع المدني، دار النيل للطباعة والنشر.