على الحائط قبالته تماماً خارطة كبيرة… أدام النظر فيها وكأنه يريد أن يحدثها أو أن يستمع إلى حديثها.. الخارطة تتكلم.. تتحدث.. تقص قصصاً.. وتقول أشياء كثيرة لمن يريد أن يصغي وأن يتعلم.. إنه يصغي الآن ويتأمّل.. يتنقل بين أرجائها… يطَّوفُ بين بلدانها وأقطارها… وفجأة توقف نظره عند عوالم “آسيا الوسطى”… هذه العوالم السحرية التي يكتنفها الغموض… والتي تعجّ بشعوب وأقوام وتاريخ موار بالأحداث.. إنها تكاد تشكل قارة بذاتها… بأراضيها الشاسعة… وبمناخاتها وأجوائها المتقلبة… وبهذا الكمّ الهائل من الأقوام والقبائل التي كانت تقذف بهم في كل مرة إلى شتى أقطار المعمورة… توقف لحظات.. ثم سارع يستذكر معلوماته المدرسية عن هذه “الآسيوية الوسطية” كما يسمونها… ازدحمت في وجدانه الذكريات… ورجع بخياله إلى تلك السهوب التي تمتد إلى حيث يمتد بصر الخيال… وتمنى لو يفتح عينيه ذات صباح ليجد نفسه في بلد من بلدانها.

وغدا الحلم حقيقة… والخيال واقعاً… فقد وقع عليه الاختيار للذهاب إلى “قزقستان” والعمل في إحدى المدارس التركية.. وحين وصلها وحطّ رحاله فيها شعر وكأنه ينزل في بلد يعرفه حتى من قبل أن يولد… فهو ابن هذه الأرض التي تعرفه كما يعرفها.. فآباؤه الأولون من هذا المكان انطلقوا… وأجداده الأبطال الأشداء المغامرون من هذه الأرض انطلقت خيولهم لتنداح إلى شتى أقطار المعمورة… وها هو اليوم مبعوث إلى هذه الديار لكي يوفي ما في عنقه من دين لهؤلاء الآباء والأجداد من خلال أحفادهم الجالسين على مقاعد الدراسة في هذه المدرسة.

ومن الغريب أنه وقبل أن يرحل إلى قزقستان ببضعة أشهر، قرأ في كتاب، عن شخص وفيّ مخلص، اسمه ياسين.. أحبه حباً جماً عن بعد. ولم يفارق خياله ولم يغب عن باله أبداً. فحكى عنه أينما ذهب وأينما جلس.. وأصبح مدار حديثه مع معارفه وأصدقائه.

“يا رب إن آباء هؤلاء الشباب وأمهاتهم اعتمدوا علينا ووثقوا بنا فلا تخيب ظنهم بنا يا مغيث ويا أرحم الراحمين..”

وعندما قدم قزقستان سارع إلى السؤال عن ياسين وأراد التعرف عليه. فصعدوا به إلى ربوة مطلة على “ألماتا” حيث ياسين، وراحوا يقصون عليه قصته الحزينة:

كان طالبا في الثانوية عندما فُتحت المدارس التركية في أوطان ما وراء النهر آسيا الوسطى. كان مولعا بهذه الأراضي. يهوى الذهاب إليها من صميم قلبه. وعندما سنحت له الفرصة بادر إليها ولم يتردد ولو للحظة واحدة.. جمع عالمه في حقيبة سفره، وسار على درب ديار أحمد اليسوي..

راح يعمل دليلا ومرشدا في ثانوية “عتراو” التركية – القزقستانية من جانب، ويتابع دراسته الجامعية من جانب آخر.. أصبحت المدرسة والطلاب حياة ياسين وآماله.. فهما جليسه عند غربته، وأنيسه عند وحشته.. بذل قصارى جهده لتوثيق الأخوة الأبدية، ولبناء المستقبل المضيء بين أبناء البلدين الشقيقين.. بدا طلابه في نظره كأنهم الأمل والحياة وسر البقاء.. ضمهم إلى صدره ضم الأم ولدها.. وأحبهم بكل قلبه وكيانه.. قدّم لهم كل ما لديه من علم نافع وأخلاق نيرة.. وسرعان ما أصبح ياسين، حبيب الطلاب وأخاهم الكبير الذي يُقتدى به.. وسيصبح فيما بعد بطلا وأسطورة يستوطن قلوبَ الكثيرين من أبناء وآباء وأمهات بلدة “عتراو”..

تشير الرزنامه إلى شهر آب عام 1994 في مدينة “عتراو”.. ياسين وطلابه في نزهة على ضفة نهر “أق جاييق”… كلهم يعبث ويلعب بمرح وفرح.. لا أحد يدري مصيرَ قُدْوَتهم وأستاذهم “ياسين”.. أُفلتت الكرة من بين اللاعبين وسقطت في النهر.. سارع الطالب “نورسلطان” لإمساكها قبل أن تجرها المياه إلى بعيد.. شقّ بيديه طريقه إليها وحاول إمساكها، وفجأة أحاطت به دوامة من دوامات النهر فراح يغطس ويتخبط ويصرخ ويستغيث.. “النجدة!.. أنقذوني..” فهرع الأستاذ ياسين نحوه وألقى بنفسه إلى جوف النهر.. راح يجدّف بيديه بكل ما فيه من طاقة وقوة.. حتى وصل إلى “نورسلطان” فحضنه ثم راح يسبح بسرعة نحو الضفة.. وراح ينادي ربه من صميم القلب: “يا رب إن آباء هؤلاء الشباب وأمهاتهم اعتمدوا علينا ووثقوا بنا فلا تخيب ظنهم بنا يا مغيث ويا أرحم الراحمين..” كان يحب طلابه كثيراً ولا يريد أن يصاب أي واحد منهم بمكروه.. وصل إلى الضفة بصعوبة وعناء شديد، لكنه شعر بإعياء شديد وما عاد يستطيع تحريك أي عضو من أعضائه.. أمسك الطلاب بنورسلطان وأخرجوه من الماء.. انشغلوا به وغاب أستاذهم عن بالهم فترة قصيرة.. سمع “ياسين” أن الطالب لا زال على قيد الحياة فحمد الله من الأعماق، ثم همّ بالخروج من الماء ولكن دوامة أخرى من دوامات النهر سحبته إليها دون أن يستطيع مقاومتها من شدة ما كان يعانيه من تعب وإعياء وأخذته إلى البعيد… وسرعان ما راحت الأمواج تتقاذفه وتبعده عن الضفة حتى غاب عن الأنظار…

آثر تلميذه على نفسه، أنقذ طالبه وأسلم نفسه إلى المياه الجارفة.. وسار إلى ربه بنفس مطمئنة. إذ لم يأت إلى هذه البلاد إلا لخدمة الإنسانية ونثر بذور قيم رسالته السمحاء.. لم يأت إلى هذه البلاد إلا لكسب مرضاة ربه سبحانه.. وها هو ينال المنال ويلقى مولاه وهو يخدم أبناء هذه الأوطان..

كان مدير مدرسة ياسين قد قدم إلى تركيا قبل وقوع الحادثة بعدة أيام، إذ كانت زوجته قد أشرفت على الإنجاب.. وفي لحظة الولادة وصله نبأ وفاة ياسين.. ياسين الذي عاهد ربه بأن لا يتوقف عن خدمة الدين والإنسانية حتى يتفطر قلبه… احتضن المدير طفله وعيونه مبتلة بالدموع وهمس في أذنه: “ياسين.. ياسين أنت”.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) الترجمة عن التركية: نور الدين صواش. وهي قصة حقيقية وقعت في قزقستان

Leave a Reply

Your email address will not be published.