الملخص

تحتوي الخدمة ممثلة في أفكار الأستاذ فتح الله كولن على توازن كبير بين ما هو فكري وروحي وعملي تطبيقي، جعلها أكثر تميزًا وقبولاً لدى عديد من الناس. ويعود الأساس الذي استمد منه الأستاذ هذا التوازن إلى الكتاب والسنة النبعان الصافيان اللذان لا ينضبان. إن أهم ما يميز الخدمة عن غيرها أن هذا التوازن لم يكن على مستوى الفكر والنظرية؛ بل تحول إلى أعمال تطبيقية نراها واقعًا حيًّا وملموسًا ممثلة في مؤسسات تعليمية وصحية وإعلامية واجتماعية وخدمية. لقد عمل الأستاذ فتح الله كولن على إرجاع المعنى الروحي للحياة بعدما فقدت المعنى، وأصبح كل شيء ماديًّا لا قيمة له إلا بالمادة؛ وكان ذلك من خلال تطبيق الخلطة الربانية النبوية والتفنن في تنزيلها تلاوة وتزكية وتعليمًا. حول هذه الأفكار وغيرها كتحديد القصد من مفهوم ورثة الأرض وصفاتهم، وماهية حركة الخدمة، وماذا يمثل فتح الله كولن في نظر المفكرين والباحثين، أجرى نوزاد صواش هذا الحوار الماتع الثري مع الأكاديمي المغربي والمفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور عبد المجيد بوشيكة، والباحث والكاتب المصري الأستاذ صابر عبد الفتاح.

الحوار

نوزاد صواش:  أستاذَيَّ العزيزين الأستاذ الدكتور عبد المجيد بوشبكة والأستاذ صابر عبد الفتاح، هل وجدتم في فكر الخدمة خلطة متوازنة بين ما هو فكري وروحي وعملي تطبيقي؟ ما الذي شدَّكم إلى فكر الخدمة؟ وما الذي وجدتموه فيها وفقدتموه في غيرها؟

صابر عبد الفتاح:  لدى الأخوة في الخدمة تعبير تمثيلي أبدأ به كلامي، وهو: “كن كالفرجار، قدم ثابتة في المركز، والأخرى تحلق إلى أقصى مدى”، وهو يشير إلى التوازن الذي تتسم به الخدمة. حيث تنطلق من ثوابت مرجعية تستند إلى الكتاب والسنة، وفي الوقت نفسه لها مَقْدِرة فائقة على تنزيل هذه النصوص القرآنية وفق القراءة المعاصرة للكتاب والسنة في الواقع. فالتوازن الدقيق بين السنن الكونية والسنن الشرعية سمة أساسية تكاد تتفرد بها الخدمة عمن سواها. ويبدو هذا جليًّا في حديث الأستاذ عن التقوى في مؤلفه الماتع التلال الزمردية، فقد تحدث كثير من العلماء عن التقوى وذكروا لها تعريفات ومفاهيم مختلفة، وكلها تؤدي غرضًا في حثِّ الإنسان على التمسك بهذا المفهوم الإيماني القويم، لكن الأستاذ حينما تعرض لهذا المفهوم ذكر أن من أبرز معانيه هو التوازن الدقيق والمراعاة والتوفيق بين السنن الكونية والسنن الشرعية، وأعتقد أنه بُعدٌ مختلف للتقوى، لعلي لم أسمع به عند أحد آخر. فالتوازن بين هذين الخطين بصورة دقيقة ليس من السهولة بمكان؛ كثير من الناس بدأوا هذا التوازن وحاولوا أن يسيروا فيه، ولكن توازنهم اختل عند اصطدامهم بأول عثرة في هذا الطريق، لقد غفلوا عن هذا المبدأ مبدأ التوازن مما سبَّب نوعًا من أنواع الصدام مع المجتمع. فتولد عن ذلك أمراض اجتماعية لا زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم، ومنها الإقصاء من طرف، والانعزال من الطرف الآخر والتقوقع داخل إطار معين وسب ولعن الآخر، ودخلنا في دائرة مفرغة من الفعل ورد الفعل دون أن ننجز شيئًا، أو نحقق أي غاية. وصارت الفرقة والاختلاف والاستقطاب المجتمعي سمة تميز عالمنا في القرون الأخيرة.

لكن لم تعدم الأمة مصلحيها ومجدديها فكانت الأزمات حينما تحلك وتشتد يرسل الله U لهذه الأمة من ورثة الأنبياء من يجدد لها أمر دينها من أمثال أساتذتنا بديع الزمان النورسي وفتح الله كولن في تركيا وغيرهم في مختلف البلاد، ممن عملوا على ترميم هذا الصدع، وبذلوا جهدهم ليجمعوا شتات الأمة على أمر رشد. ثم تأتي مجموعة أخرى متهورة وتفجر هذا الترميم من جديد ويكون هناك عود على بدأ. لكن مما يحسب للخدمة ثباتها وتوازنها على هذا الخط الدقيق الذي سنته لنفسها؛ لا يحرفها عنه المغريات المتعددة، ولا الابتلاءات المثبطة.

نوزاد صواش: هذا التوازن الذي نتحدث عنه موجود في الكتاب والسنة، هو ليس اكتشافًا لشيء جديد، لكن ربما هو إعادة فهم لشيء موجود أو غائب أعادت الخدمة إحياءه من جديد. أليس كذلك؟

صابر عبد الفتاح: هذا صحيح، لكن الواقع الذي عايشناه لفترة ليست قصيرة من الزمان، وتراها تختفي ثم تعود لتطل برأسها مرة أخرى، هو غياب ذلك التوازن في الجانبين، فجانب يرى -مثلا- أن  دراسة العلوم الطبيعية تؤدي بالناس إلى الانحراف وإلى الإلحاد، وبالتالي  ينبغي عزل الناشئة عن هذاالنوع من التعليم، ومن ثمَّ نشأ لدينا جيل منخرط في دراسة العلوم الشرعية ومنكبٌّ على الدراسات الدينية، ولكنه يعيش في عزلة شعورية ومعنوية عن محيطه الذي يحيا فيه، لا يخالط إلا من كان على نفس شاكلته ولا يجد لديه حاجة في هذه المخالطة أصلاً. وجانب آخر رأى أن من موجبات التطور ألا يكون للدين دخل في حياتنا، ومن ثم فلا تطور للأمة ولا تقدم لها -في رأيه- دون الفصل التام بين الدين والعلم. أما الأستاذ كولن ومن قبله الأستاذ النورسي فقد حسموا هذه المسألة حسمًا تامًّا إذ يرى الأستاذ كولن أن الذين يدعون إلى إخلاء الروح من العلوم الطبيعية لا يقل ضررهم عن الذين يدعون إلى إبعاد العلوم الطبيعية عن الناس بدعوى أنها تؤدي إلى الإلحاد.

وهذا الاتجاه لم يتفرد به الأستاذان بل ربما نجد من سبقهما في هذا الاتجاه، لكن الجديد الذي أشرتَ إليه في السؤال والذي أضافته الخدمة إلى واقع الفكر الإسلامي، هو تطبيق هذا التوازن على أرض الواقع في صورة مؤسسات بشرية ومادية، فلم يعد هذا التوازن محصورًا في إطار الفكر فحسب أو تنظيرًا في صورة كتابات وأدبيات، وإنما تحول إلى واقع وتحولت هذه الأفكار إلى مؤسسات نراها الآن.

نوزاد صواش:  دكتور بوشبكة مسألة وفكرة التوازن أظنها قد حسمت إلى حد بعيد لدى النخب في العالم الإسلامي في المساحة الفكرية، لكن ربما المشكلة الآن في المساحة العملية، يعني عندما تقرأ مالك بن نبي، أو عندما تقرأ لأحد من المفكرين الكبار تجد هذه الفكرة موجودة بقوة؛ لكن قبل قليل ذكر الأستاذ صابر أن الأستاذ يأتي فيقيم توازنًا وتأتي مجموعة أخرى فتخلّ بهذه الموازنة، المسألة إذن تربية الناس على هذه الخلطة أليس كذلك؟ والسؤال الآن ماذا يوجد في هذه الخلطة؟ ثم هذه الخلطة كيف ينزلها الأستاذ إلى الواقع؟

عبد المجيد بوشبكة: في الحقيقة من الصعب أن نتحدث عن هذه الخلطة في بضع ثوان. فالموضوع أكبر من أن يشرح ويفسر في جُمل، وسأكون صريحًا إذا قلت إنني لازلت أتلمس ملامح هذه الخلطة إلى اليوم، فنحن ندَّعي أحيانًا ويظهر لنا أننا فهمنا الخدمة واستوعبناها، لكن يوما بعد يوم يبدو لنا بأن هناك دقائق وتفاصيل تحتاج إلى مزيد من الإمعان، فهنالك العديد من الجُمل والمقالات في بعض كتابات الأستاذ كولن وأقواله تبين أن هناك أمورًا كثيرة لا زالت في جعبة هذا الرجل، ولم يفصح عنها بعد. لذلك فما نراه في حقيقة الأمر ليس إلاّ معالم لهذه الخلطة. ما فعله فتح الله كولن هو أنه استطاع أن يجمع ما تفرق عند الناس، لذلك نجح في تقديري في هذا الأمر، ولذلك هناك مقولة مشهورة نقرأها كثيرًا ونسمعها، وأرى أنها متحققة في الرجل، وهي أن أعلامنا من السلف كنا نقول عنهم: كانوا رهبانًا بالليل فرسانًا بالنهار. فكثير من أعلام أمتنا عاشوا الرهبنة أو عاشوا الفروسية، لكن اليوم نحتاج إلى موازنة حقيقية في هذا الأمر. بمعنى آخر نحتاج إلى شيء من زاد الروح وشيء من المادة، فالتفريق بينهما أو تغليب أحدهما على الآخر هو إفساد للخلطة كلها. الأستاذ يتحدث عن هذا لكن بلغة أخرى، يتحدث عن أبناء العصر والبشرية جمعاء اليوم فيما يسمى بالأمن الروحي.

إن مسألة الأمن الروحي اليوم، أصبحت مطلبًا عالميًا، ولعله لما وفدت أو غزت مجتمعاتنا أو أمتنا الثقافة المادية، وخاصمْنا الدينَ والروح ندم الناس اليوم وكأنهم ندموا على ذلك الزمن وعلى تلك الفعلة، واليوم نراهم يبحثون عن الروح من جديد، وراحوا يهيمون على وجوههم في أصقاع العالم منهم من يذهب عند الطرقيين والزوايا، عندنا في المغرب مهرجان روحي كبير مهرجان فاس للموسيقى الروحية، حينما ترصد من حضر وعدد الحضور ودولهم ومستوياتهم الثقافية تتعجب! نرى في شرق المغرب أيضًا عند الشيخ حمزة حفظه الله وهو شيخ صوفي، الذين يحضرون عنده من كل الأصناف والألوان والمستويات وأعدادهم تُغري بالتوقف، لماذا يأتي هؤلاء كلهم هائمين على وجوههم؟ إنهم يبحثون عن المعنى، يبحثون عن غذاء للروح؛ لقد ضج الناس بالبحث عن الروح لكن كلٌّ يتلمسها بطريقته.

خلطة الأستاذ قدمت هذه الوصفة لكن بالمقادير المطلوبة، جعلت الروح في كل شيء فما من شيء إلا وتجد فيه هذه اللمحة. ولذلك فإن عمل الأستاذ هو إرجاع المعنى للحياة، بعدما فقدت المعنى وأصبح كل شيء ماديًا لا قيمة له إلا بالمادة، وطغى ما يسمى بالصراع والقوة. الكل يبحث عن القوة، والقوة إذا حصلت تدفع إلى الصراع، فذهبت الرحمة بين الناس، وذهب التعاون وكل هذا بسبب فقد هذه الروحانيات والمعنى.

نوزاد صواش: تحدثتم عن العلاقة بين العلم والإيمان وبين الجانب الروحي والمادي، موضوع الهجرة مثلاً، هل هو جزء من هذه الخلطة، كيف فهم الأستاذ الهجرة؟ وكيف فعّلها؟

عبد المجيد بوشبكة: إذا سمحتم لي في هذه القضية قبل أن نمر إلى الهجرة أستحضر هنا قولاً مفيدًا ومهمًّا جدًا لأخي وأستاذي فريد الأنصاري رحمة الله عليه، فقد قال كلامًا نفيسًا حينما تَعرَّف على الأستاذ وتعرَّف على الخدمة وهو يتحدث عن قول الله U: )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(الجمعة:2) يقول الأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله: هذه المهمة الشريفة وهي مهمة الأنبياء والرسل عليهم السلام قام بها كثير من الناس، لكن لم يكن لها الأثر المطلوب من التعليم والتزكية والتربية.

فهذه الخلطة النبوية هي الأصل وهي النموذج والقاعدة، يقول الأنصاري في خلاصة كلامه: إنه وجد مواصفات دقيقة لتطبيق هذه الخلطة النبوية بل الربانية القرآنية في واقع أهل الخدمة، بل ووجد الأستاذ متفننًا مبدعًا في تنزيلها، فتلاوته للقرآن بالطريقة التي يتلوها، وما نتج عنها من تفاعل ومن ثمار قوية تجعلنا نشهد بأنها فعلاً هي التلاوة المقصودة. والتعليم الذي فهمه ومارسه ويطبقه في المدارس، وما نراه من نتائج استتبعته تبين من خلاله أنه هو التعليم المطلوب والمقصود في الآية. ثم التزكية وهي القضية والشق الثاني والمهم من الخلطة وهو روح الخلطة، هذه التزكية التي ذهب فيها الناس ونحوا فيها مناحي عدة لكنهم لم يوفقوا بالشكل المطلوب، الأستاذ استطاع أيضًا أن ينزلها تنزيلاً بحيث خالطت كل شيء، لذلك خلطته هذه التي يتحدث عنها في هذا المشروع الكبير بدءًا من الإنفاق مرورًا بالهجرة إلى مجالات أخرى متعددة سنرى بأن الأستاذ بعث فيها روحًا جديدة وأدخل فيها معنى جديدًا والجميع يغترف من نفس المنبع، فنرى الناس هائمين على وجوههم ما بين مهاجر ومنفق من الكبار والصغار حتى من الطلبة الصغار الذين يذهبون إلى أقاصي الدنيا، أنا أقول لهم لماذا أتيتم هنا؟ أنتم لديكم في بلدكم من المدارس والجامعات ما يشرف، فلماذا أنتم في إفريقيا أو أدغال كثير من أصقاع العالم؟ فيجيبك بكل بساطة وبكل براعة نحن مهاجرون، فنخجل نحن من أنفسنا، ونقول ما هذه الروح التي بُثت في هؤلاء القوم؟ كيف هؤلاء الصغار الذين يحملون هذه الأهداف الكبيرة ويضعون عنهم مُتَع الدنيا التي يرتع فيها أمثالهم؟ هؤلاء يتحدثون عن أهداف كبرى؛ عن هجرة وعن إنفاق وعن عمل في سبيل الله، من بثَّ فيهم هذه الروح؟ من استطاع أن يشعل هذه الجذوة من جديد في قلوب الناس؟

نوزاد صواش: ذكرت إشعال الجذوة يا أستاذي، في النهاية ما يفعله الأستاذ هو كلمات يقولها، الجميع يقول كلمات، فما الفرق الذي تحدثه كلمات الأستاذ؟

عبد المجيد بوشبكة: كلماتُ الأستاذ حية ليست ميتة. كلنا يقول نفس الكلمات، كثير من الناس اليوم يقولها وقالها كثيرون قبلهم، اليوم الأستاذ يقول نفس الكلام الذي نقوله، وهو نفسه الكلام الذي جاء في القرآن الكريم، والذي تلفظ به رسولنا الكريم e، فلماذا هو حي عنده ميت عندنا؟ من قذف فيه هذه الروح؟ كيف استطاع الأستاذ أن يحيي هذه الكلمات ويجعلها حارقة يرمي بها في الناس ويتحركون ويهرولون نحو أهدافهم؟ هنا مربط الفرس! نقول هناك شيء ما في هذه الخلطة، هناك روح ما، من أين جاءت؟ هذا السؤال الذي ينبغي أن نبحث عنه. الأستاذ لم يقل شيئًا جديدًا في حقيقة الأمر ما قاله الأستاذ هو ما قاله الناس وغيره من المصلحين. لكن لماذا قول الأستاذ أنتج فعلاً وحركة وعمرانًا وباقي الأقوال لم تنتج شيئًا بل كثير منها أنتج صراعًا وتخلفًا ودمارًا.

لقد حمل فتح الله كولن همَّ الإنسانية وعاش كـأنه مسؤول عن كل المظالم التي تعيشها البشرية؛ لذا سعى جاهدًا أن يقدم ما يزيل البؤس والشقاء عن الإنسان، فقدم مشروعًا مختلفًا عن كل المشاريع المطروحة، ووجهُ الاختلافِ أنه مشروع ذو روح، وهذه الروح هي التي جعلت الناس يقتنعون بهذه الخدمة، ويحبونها حبًا جمًّا، حتى إنك تجد عشرات الناس من مختلف الألوان والأطياف والسياسات والأحزاب والجماعات والمجموعات، تجتمع في طاولة واحدة حول مشروع الخدمة. كيف استطاع الأستاذ أن يهيمن على كل هذه العقول وهذه القلوب ويجعلها تجلس إلى طاولة واحدة بعدما تنافرت إلى زمن طويل وفي جغرافية متسعة؟ وكيف يستطيع كذلك تلاميذه الصغار أن يجمعوا هؤلاء الكبار المختلفين المفترقين الذين لا يجتمعون؟ يجمِّعونهم حول هذا المشروع حول هذه الفكرة، هذا في تقديري يستحق الدرس والتوقف.

نوزاد صواش: هل تريد أن تقول: إن الأستاذ فتح الله كولن فهم كلمة السر التي تفتح القلوب، وكيفية تأثير تلك الكلمة؟

صابر عبد الفتاح: في الحقيقة كلمة السر ليست سرًّا، بمعنى أن الجميع يعلمها، لكن قليل من يستطيع أن يستخدمها ليفتح بها القلوب، كلمة السر هي حرارة الصدق التي يستشعرها المتلقي عندما يستمع إلى كلمات الأستاذ، فتلامس شغاف قلبه، لأنها من القلب خرجت فجدير بها أن تصل إلى القلب وتستقر في سويدائه، كلمة السر هي وقوف الأستاذ كولن أمام كلماته، صحيح أن المصطلحات الكبرى في الخدمة التي تحدثنا عنها والتي دعا الأستاذ إليها والتي أعاد إليها الروح من جديد هي أصلاً مصطلحات إيمانية قرآنية نبوية، لكنك تجد الأستاذ أول الواقفين مع هذه الكلمات، ينزلها من عهد النبوة إلى واقعنا حية تتجسد على الأرض، ويخرجها من صفحات الكتب وبطون المراجع لتتجول على قدمين بين أظهرنا، لذلك سَرَتْ في الأمة مسرى العافية في السقيم، ودبت في جسدها الخامد دبيب الروح في هذا الجسد.

خذ عندك مثلا قيمة الإنفاق التي يدعو الأستاذ  إليها الأصناف (التجار) المنفقين في سبيل الله، تجد الأستاذ أول الواقفين مع هذه القيمة، ينفق من ماله الخاص حتى ينفد، ورغم حقوق الملكية التي يتمتع بها من دروسه وكتبه فإنه لا يملك حجرًا على حجر على حد تعبيره، كل ما يعود عليه من ريعٍ من هذه الحقوق كلها وقف لله تعالى، وبمثل هذا استولت كلماته على القلوب، يروي لنا أحد تلاميذه ما سمعه من بعض التجار المنفقين في سبيل الله عندما سُئلوا عن سر هذا السخاء في الإنفاق قالوا: رأينا أستاذنا لا يملك شيئًا فاستحيينا من أملاكنا؛ فأنفقنا أموالنا مرات ومرات.

نوزاد صواش: هل تريد أن تضيف شيئًا هنا أستاذي؟

عبد المجيد بوشبكة: نعم، لقد أيقظ الأستاذ وأشعل كل المصطلحات حتى المصطلحات الميتة؛ كنا نقرأ مصطلح “الهجرة” ولا زال كثير منا يقرؤها ويعتبرها طقسًا من الطقوس، ويتبرك بها ويعتبرها تاريخًا انتهى “ولا هجرة بعد الفتح”؛ لكن الأستاذ الآن جعلنا وجعل الناس يعيشون هجرة حقيقية اليوم. حينما نرى الأخ الكبير من رجال التعليم يحمل حقيبته ولا يدري أين يتجه، فإذ بالطائرة تحطُّ به في أقاصي الدنيا وتسأله حينها لماذا أنت هنا؟ يقول مهاجر، كيف مهاجر؟ ماذا تفعل؟ أريد أن أبني مدرسة، كيف تبني مدرسة؟ كلام لا يقبله العقل لكنه واقع.

الوقت لا يسمح لأتحدث عن قصائد كثيرة في هذا الباب، لكن هؤلاء القوم يأتون بهذه النيات بهذا الحب بهذا الصدق ويخبروننا بأنهم في النهاية بنوا مدرسة، بل مدارس. لم تكن معهم ولا ليرة واحدة، لكنهم بنوا مدارس في كثير من بلدان العالم. هذا الإيمان الذي وصل إلى هذا المستوى وهذا الحب بداعي الهجرة في سبيل الله U والذي جعل كثيرًا من رجال الأعمال يتحركون في كل مكان. ما من مدرسة من مدارس الخدمة في الدنيا إلا ونرى رجال الأعمال يحومون حولها كما يحوم الفراش حول النور، وكما تحوم النحلة حول الزهور، فيأتون بكل مَن في طريقهم يأتون بكل شيء، من أجل الدعم.

نوزاد صواش: كيف ينبغي أن نفهم إنسانية الخدمة، وكيف تسعى لنفع كل البشر؟

صابر عبد الفتاح: هذا أفق آخر للخدمة، وبعدٌ من أهم أبعادها يجب الوقوف عنده وتأمله طويلاً، وهو الأفق الإنساني الرحب في فكر الخدمة، الأفق الذي يُخرج المسلمين في واقع اليوم من قوقعتهم التي تشرنقوا فيها إلى آفاق الدنيا كلِّها، والأستاذ بهذا الفكر يعيد التجلي إلى رحمانية الرسالة التي أرسل بها خير الخلق e في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107)، ومن روعة التعبير في الآية القرآنية صياغة المعنى في أسلوب الحصر المؤكَّد بالنفي والاستثناء، والعموم المفهوم من قوله تعالى “للعالمين”؛ فلم يقل مثلا :”إلا رحمة للمؤمنين” أو”إلا رحمة للمسلمين”. فالرحمة شاملة للعالمين بغض النظر عن أي شيء، وهذا ما يتجلى في البعد الإنساني الذي تحمله الخدمة وتقدمه للناس كافة.

نوزاد صواش: أستاذي العزيزين في أدبيات الأستاذ كولن حديث عن ورثة الأرض الوارد ذكرهم في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء:105)”، فماذا يقصد بهذا؟

صابر عبد الفتاح: مفهوم ورثة الأرض من المفاهيم المفتاحية عند الأستاذ فتح الله كولن، فقد اعتنى به الأستاذ كثيرًا، وأفرد له بعض المقالات في كتابه القيم “ونحن نقيم صرح الروح”، تحدث عنهم تارة بالإجمال وتارة أخرى بالتفصيل، ذكر صفاتهم ومؤهلاتهم التي تؤهلهم لهذه الوراثة، وهذا التفصيل الذي ذكره الأستاذ متحدثًا عن صفات هؤلاء الورثة يذكرني بأسلوب القرآن في الحديث عن صفات “عباد الرحمن”، فالقرآن يتحدث عن صفاتهم وكأنه يخبر عنهم وفي ذات الوقت يجعل هذه الصفات أفقًا عمليًّا إرشاديًّا لمن يريد أن يكون من عباد الرحمن. كذلك الأستاذ كولن متأثرًا بهذا الأسلوب القرآني يعدّد صفات هؤلاء الورثة لكي يقول للجيل الذي يربيه وللأجيال كافة: إذا كنتم تريدون أن تكتسبوا صلاحية التمثيل الحقيقي لهذه الوراثة فعليكم بهذه الصفات؛ تمثلوها واسترشدوا بها واعملوا بموجبها وساعتها ستتحقق لكم الوراثة الحقيقية التي وعدكم الله بها.

عبد المجيد بوشبكة: لقد ورثنا هذا الإرث ولكننا ضيعناه، ونحن مطالبون أن نسترجع ما ضيعناه. لقد قصرنا أو قصر غيرنا فلماذا تم التقصير؟ وما سبب الضياع؟ الأستاذ يبكي في كثير من كلامه على ضياع الإرث، ويئن ويتأوه، فمواصفات الذين ضيعوا والذين يسترجعون ويرثون وهو الصلاح، هو هدف للأستاذ من ضمن أهداف هذا المشروع، مشروع الخدمة.

نوزاد صواش: قابلتم الإخوة التجار ورجال الأعمال والداعمين لمشاريع الخدمة من كل النوعيات والفئات، كلٌّ يسهم حسب استطاعته، وأثنيتم عليهم وعلى صلاحهم وعلى فهمهم، فهل يمكن أن يكون لهؤلاء نصيب في صفات ورثة الأرض؟ لأنهم لا يجدون لذة أمتع من لذة إنفاقهم في سبيل الله.

عبد المجيد بوشبكة: نعم لقد قابلت عددًا كبيرًا من هؤلاء أثناء تجوالنا في أماكن كثيرة عندما كنا نطلع على مؤسسات الخدمة، وحصل لي الشرف أن زارني بعضٌ من هؤلاء الإخوة في المغرب، تغدينا معًا،  ثم ذكر لي مرافقهم أنهم رجال أعمال من أعيان إسطنبول، من رجال المال الكبار، وقد كانوا كبار السن أيضًا، رجال محترمون، فرحت بهم كثيرًا ثم قلت لهم: نسمع عن الإنفاق عندكم وتتحدثون عنه ولكن لا ندري كيف تنفقون؟ وما الذي يدفعكم إلى هذا السخاء في البذل والإنفاق؟ فأجابني رجل منهم قائلًا: أستاذ، نحن لم نكن نفهم معنى الإنفاق في قول الله U (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(سبأ:39) حتى التقينا بالأستاذ فتح الله كولن وسمعناه يشرح هذه الآية لنا، وبعد هذا الشرح من الأستاذ قررنا أن ننفق أموالنا كلها في سبيل الله، وبالفعل أنفقناها كلها، والذي شجعنا على ذلك أننا رأينا الأستاذ نفسه لا يملك شيئًا، فسألنا أنفسنا لماذا لا ننفق مثله؟ ما الذي يضيرنا إن أنفقنا مقتدين به لا سيما أن الله  وعدنا بأنه يخلف علينا. تابع الرجل: أنفقنا يا أستاذي فأرجع الله لنا كل شيء وزيادة. ننفق وهو  يخلف علينا، قال ونصرُّ على الإنفاق، فتذوقنا حلاوة الإنفاق. هذه الحلاوة التي لم يتذوقها كثير من المسلمين اليوم. قال الرجل: إلا واحدًا منا، وأشار إلى واحد منهم قائلاً: قد ابتلاه الله، فهزَّ هذا الرجل رأسه موافقًا له على كلامه قائلًا: لعله ابتلاء وامتحان من الله لذنب عصيته به، ثم ضحكوا. فقلت هذا الجو وهذه الروح وهذا الانبعاث في القلوب كما في الأفعال والأعمال أمر محير، يحتاج إلى رجلٍ من نوع خاص يوقده، رجلٍ ليس كسائر الرجال. لذلك أقول: هذا الرجل ورث سرًا من أسرار النبوة، هذا الرجل العبقري المبدع، رجل من أهل الله U.

نوزاد صواش: هل يقتصر دور الأستاذ فتح الله كولن على الكلمة فقط؟ أم أن محبيه وجدوا فيه صفات أخرى جذبتهم إلى امتثال أفكاره؟

صابر عبد الفتاح: يرد إلى خاطري الآن كلامٌ كان يُتمثَّل به في معرض الاستمساك بالكلمة والموت من أجلها وهو: “تظل كلماتُنا عرائسَ من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة”، لكني أجدني الآن أختلف مع هذا القول بسبب الأستاذ، وبسبب ما رأيته من أخلاق أبناء الخدمة الذين يقتدون بالأستاذ، فكلمات الأستاذ تُولد حية وتظلُّ حية، ينميها بدموعه وإخلاصه، ويغذيها بتطبيقها على نفسه أولاً، لذا لا تحتاج إلى موت أحدٍ في سبيلها حتى تحيا، بل تحتاج أن تحيا بها ولها. وهو ما يحدث بالفعل لدى الأستاذ والخدمة، فالأستاذ وقَّاف عند كل كلمة، وعند كل مفهوم، وعند كل مصطلح يدعو إليه؛ إذا تحدث عن التبليغ والإرشاد تراه قد تجول واعظًا في مدن تركيا كلها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، لم يقتصر وعظه وتبليغه على المساجد ودور العبادة فحسب، بل زار المقاهي والنوادي والمنتديات الاجتماعية، مردِّدًا بينه وبين نفسه: إذا لم يأت الشباب وبعض الفئات إلى المساجد فلنذهب نحن إليهم. وإذا تحدث عن الإنفاق والتضحية وبذل الجهد في تربية الشباب فستعرف أنه كان يصحب الشباب ويذهب بهم إلى هضاب الأناضول، يقيم لهم المخيمات ويحفر الأرض، ويدك أوتاد الخيام بنفسه، ويشعل النار ويصلح المولدات الكهربائية إذا تعطلت، بل يصنع لهم في بعض الأحايين طعامهم بنفسه، حتى يُذكَر أنه كان يحفر وبعض الطلاب واقفون حوله، وأحدهم يشير عليه بالمكان المناسب للحفر! لقد روى كلماته بدموعه، وغذَّاها بالصلة بالله U وبمحبة المصطفى e حتى صارت شجرة كبيرة طيبة الثمار، باسقة الأغصان، وارفة  الظلال، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

نوزاد صواش: إذن، هي الحياة في سبيل الكلمة ورعايتها وتجسيدها على أرض الواقع يا أستاذي؟

عبد المجيد بوشبكة: صحيح، ولعل هذا هو أحد أسرار هذا الرجل وخصوصيته التي تفرَّد بها عن غيره، فلو استطعتَ فعل هذا يا أستاذ نوزاد واستطعتُ أنا والآخرون لما كانت هناك مشاكل في هذه الحياة. ويحضرني في هذا المقام، ما سمعته من أحد تلامذة الأستاذ كولن نفسه وهو الأستاذ جمال ترك حفظه الله، فقد حكى لنا كلمة عجيبة، وهي تبين وتدلُّ على مدى تمثل الأستاذ لهذه الحقائق، فالأستاذ ليس رجلاً عاديًا، فهو يتمثل هذه القضايا والحقائق والمبادئ تمثُّلاً عجيبًا بشكل نموذجي. أستاذ جمال وأنا أحادثه في هذه القضية قال لي: إن الأستاذ كان مقبِلاً على خطبة أو درس ذات مرة فوجدته وكأنه يتوجع، بتعبير الأستاذ جمال: وكأنه يعيش آلام المخاض!، قال: فسألته عن حالته تلك، فأجابني جوابًا غريبًا قال: يا جمال الكلمة شهادة، الكلمة شهادة، إذا كنت تهم بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأحسست بأنك غير صادق وقلت أشهد فاسكت فلا تتمها فأنت كاذب. الرجل حينما تصل به حساسية النطق والتمثُّل للقضايا وللمبادئ إلى هذا المستوى وهذه الدرجة فهذا رجل غير عادي. إذا كان يَعتبر الكلمة شهادة، ولا ينطق بها إلا إذا كان صادقًا فيها متمثِّلاً لها فأقدر بأن كل كتاباته لا تصدر إلا على أنها شهادات له. وكل كتاباته مفعمة بهذه الروح وبهذا التأثير وبهذه الحرارة، وبهذه القوة، وبهذا الهم لأنها شهادة من طرف هذا الرجل.

صابر عبد الفتاح: وهناك شيء آخر أستاذيَّ العزيزين أحب أن أضيفه إلى ما سبق، وهو فكرة الهم أو المسؤولية، الأستاذ كولن -كما ذكر أستاذي الدكتور عبد المجيد قبل قليل- يحمل همَّ الإنسانية ويعيش كـأنه مسؤول عن كل المظالم التي تعيشها البشرية؛ ولذلك يحدثونك عنه أنه دائم الأرق، متواصل الأحزان، و”مثله يأرق” على حد تعبير المتنبي شاعر العربية الأكبر، لكن الفكرة أيضًا أنه مع رعايته لكل هذه الأفكار سلوكًا وقدوة وتطبيقًا، فقد وضع هذا الهمّ في نفوس محبيه جميعًا، وشغلهم بهذا الهمَّ عن همومهم الشخصية أو الحياتية، ومن ثَمَّ وجدوا في الأستاذ كولن نموذجًا لكل الشخصيات التي يدعوهم أن يتمثلوا بها، نموذجًا للمهاجر، ونموذجًا للمعلم، ونموذجًا للمنفق بلا تردد، يعني وجدوه مُركبًّا من جميع الشخصيات الإيمانية التي دعاهم إليها، بالإضافة إلى أنه أورث هذا الهمَّ وتلك المسؤولية لطلابه ومحبيه الذين تربوا في مدرسته، كلٌّ حسب طاقته؛ صحيح قد لا يكونون سواءً في الهمِّ والمسؤولية، لكنهم جميعًا مسؤولون، جميعًا مهمومون بهمٍّ واحد، وهو هم خدمة هذا الدين. فتجد أنك عندما تلتقي بأي أخ من الإخوة في أي موقع من المواقع سواء كان تاجرًا أو معلمًا أو صحافيًا أو إعلاميًا أو مدرسًا أو إلخ، تجده مجنونًا بالخدمة؛ لا يكتفي المعلم بوظيفته التي يؤديها على أكمل وجه، بل يتعقب الطالب بعد المدرسة، يسأل عنه ويرعاه كأنه ولده، ولا يكتفي التاجر بإنفاقه فحسب بل يتحمل مسؤوليته وواجبه تجاه الدعوة، فيسافر إلى بلاد بعيدة، تاركًا أهله وذويه في عيد الأضحى وغيرها من المناسبات ليفرح الفقراء وذوي الحاجة ويشاركهم إلى جانب المشاركة المادية مشاركةً وجدانية، وكذا كل واحد منهم حسب موقعه ومسؤوليته.

نوزاد صواش: أستاذي كنت تتحدث عن كتاب “النور الخالد” وأن فيه نصوصًا تقريرية، ما المقصود من ذلك؟

عبد المجيد بوشبكة: نعم، لقد وقعت لي قصة غريبة مع طلابي وأنا أدرسهم مقرر الجامعة، فكنت أقرأ للطلبة شيئًا ثم تأتي المحاضرة التالية، فأقول للطلبة، من يُذكِّرنا بالخلاصات الماضية فنجد الطلبة متضاربين حائرين، قالوا يا أستاذنا: نحن وضعنا خلاصات، ولكننا إذا أعدنا قراءة هذه الصفحات وهذه العناوين من جديد فإننا نفهم أشياء جديدة كل مرة، فلا ندري كيف نتعامل مع الكتاب؟ فضحكت وقلت لهم: والله يا أبنائي أنا أعيش نفس الهم، فكلما قرأت كلام الأستاذ أفهم شيئًا، وعندما أعيد القراءة أفهم أشياء أخرى جديدة، وكلما حاولت تلخيصه لم أستطع، كلما حاولت أن أحذف جملة أو كلمة، أجد بأن أسلوب الأستاذ أسلوبٌ قرآنيٌ إلى حدٍ بعيد، بحيث إنك لا تجد فيه إطنابًا وحشوًا في الكلام، كلما أردت أن تزيل جملة أو كلمة قد تترك فراغًا أو بترًا في المعنى المقصود، ومن ثمَّ فالسيرة النبوية بعيون الأستاذ فتح الله كولن في النور الخالد إضافة جديدة لن تجد لها مثيلاً في أيٍّ من كتب السيرة النبوية الأخرى، ولذلك أقول: من لم يقرأ السيرة النبوية في كتب أخرى لن يعرف قيمة هذا الذي قاله الأستاذ والذي كتبه.

إن السيرة النبوية عند الأستاذ فتح الله كولن سيرة من نوع خاص؛ امتزج فيها الموضوعي بالذاتي، امتزج فيها موضوع السيرة النبوية بذاتية الأستاذ الشغوف بهذه السيرة إلى حد بعيد، وكأني أراه يتحدث عن تقرير، وعن سيرة ذاتية لما يعيشه ويعايشه مع أبنائه ومع خدمته، لأن كل اللحظات التي أراه يتمثل فيها يتحدث فيها عن قضايا كـأنه يسرد ما عاشه وما يعانيه، حينما يتحدث عن كيفية تعامل الرسول e مع هؤلاء الرجال من الصحب الكرام، كيف يتعامل مع النوابغ منهم؟ كيف يُعيِّنهم؟ كيف يختارهم؟ كيف أنه حساس لتخصصات الرجال، ويضع كل واحد في مكانه. إنني أدعو الإخوة أن يقرؤوا ما قاله الأستاذ في هذا الصدد، وأن يستمعوا إلى طلابه وأبنائه، وكيفية اختيار الأستاذ كولن لطلابه. كيف ينجحون نجاحًا باهرًا في هذه المهام التي يعينهم فيها دون سابق إنذار. بمعنى أن الرجل يتمثل السيرة النبوية ويتقمصها إلى حدٍّ بعيد، لذلك حديثه عن النبي e والكل يلاحظ ذلك ويشاهده يكون بلا توقف، فما تحدث الأستاذ كولن ذات مرة عن النبي e دون أن يتأوه ويبكي لما تعانيه الأمة من ضياع.

نوزاد صواش: إذا سمحتم لي باختصار، إذا أردنا أن نصف الأستاذ كولن من هو؟ وما الخدمة؟ أستاذ صابر نبدأ بك ونختم بالدكتور بوشبكة.

صابر عبد الفتاح: الخدمة هي طريق من طرق الوصول إلى الله U، وسبيلٌ لإيصال الناس إلى ربهم، من خلال تذليل العقبات التي تعترض سبيلهم.

الخدمة حولت أحلامنا التي في مخيلتنا إلى واقع ملموس نشاهده، ونماذج نفتخر بها ونباهي بها الناس. الخدمة أثبتت أنه لا عذر لقاعد، ولا عذر لمن يتقاعس بأي حجة من الحجج، بحجة أن الأعداء يتآمرون علينا، وأنهم يريدون إفشالنا، وا وا وا إلخ. هناك مجالات كثيرة جدًّا تستطيع أن تقدم فيها شيئًا لله U وطرق كثيرة تستطيع أن تبلغ بها دين الله ، وأن تزيل العقبات من أمام الناس للوصول إليه U. الخدمة أثبتت أن مشاكل المسلمين وهموم المسلمين أمور لا تستعصي على الحل. الخدمة دعوة إلى التفاؤل. الخدمة دعوة تتجلي فيها رحمة رسول الله e للإنسانية جمعاء. الخدمة تحتضن الناس جميعًا، وتقول لهم إن الإسلام جاء ليحتضن الناس جميعًا. أما الأستاذ فماذا عساي أن أقول في حقه، ونحن لا نستطيع أن نوفيَّه حقه؟

الأستاذ رجل من بقية السلف الصالح في عصرنا الحديث، رجل نذر نفسه كاملة غير منقوصة لله U، رجل امتطى جواد الدعوة إلى الله U منذ نعومة أظفاره، ولم يترجل عن صهوته حتى هذه اللحظة، فأتعب من حوله وما تعب، وعنَّى رفقاء دربه ولم يتوقف، وسيظل القادمون خلفه يشقون غبار سعيه ولن يدركوه، لأن كل خطوة خطاها في هذا السعي بألف ميل مما يعدون، نسأل الله تعالى أن يجزيه خير ما جزى مصلِحًا عن دعوته، ومربيًّا عن تلامذته، وعالمًا عن علمه الذي ورثه، وفهمه الذي أودعه، وسبيله الذي سلكه.

نوزاد صواش: أستاذي دكتور بوشبكة.

عبد المجيد بوشبكة: الخدمة هي مدرسة جديدة لكل مهموم بقضايا الناس اليوم. الخدمة مدرسة لا يهمها شرقٌ ولا غربٌ ولا عربي ولا غير عربي، ولكنها تحمل مشروعًا عالميًا على نهج الحبيب المصطفى e، للناسِ كلّ الناس. هي مدرسة عالمية وإنسانية، وكلُّ من يحمل همًّا وخيرًا للإنسانية لن يجد خيرا من هذه الخدمة، التي قدمت في مستويات متعددة، ومجالات متعددة، أجوبة مقنعة، وبدائل حقيقية، نافعة لكل الناس في كل أصقاع العالم. الواقع يثبت أنها ناجحة في كثير من البلدان ويقول أهل المنطق من لم يقنعه دليل الوقوع فلا دليل يقنعه.

أما الأستاذ فلا نجد له تعريفًا يليق به، نعرف بأنه يرفض كل تمجيد وتبجيل في حقه وإن كان أهلاً لذلك، لكننا بصدق نقول: إنه الرجل المجدد لهذا العصر. وهذا لا يمنع أن يكون هناك مجددون آخرون في عصر واحد على رأي جملة من العلماء، لكننا نشهد بأن الرجل الآن مجدد العصر، رأينا كيف أنه فقه النصّ والوحي وكيف فقه الواقع، وكيف فقه التنزيل، فكان مبدعًا في الفهم في النصّ وفي الفقه وفي التنزيل وهذا إن دلَّ فإنما يدل على تبحر الأستاذ في العلوم الإسلامية والاجتماعية المختلفة.

إن المطلع على الحياة الشخصية للأستاذ، وعلى كتبه يراه يجسد مجموعة من القيم النبيلة كالإخلاص والصدق والتقشف والإنفاق وخدمة المجتمع والنظرة الشمولية للإنسان وتعميق الإيمان ومحبة الخلق وتخفيف معاناة البشر في جميع أنحاء العالم، وكل ذلك يؤهله أن يكون وحيد عصره، فالله أسأل أن يوفقه ويرعاه ويحفظه.

نوزاد صواش: جزاكما الله خيرًا، كان حوارًا دسِمًا حلّقتما بنا في أجواء مختلفة.

الهوامش

في التلال الزمردية للأستاذ فتح الله كولن تعريف شاملٌ للتقوى يقول فيه: “للتقوى معنى شامل وعام إلى حد أنه يَشْغَلُ مساحة واسعة جدًّا من المعاني؛ فمن المحافظة على آداب الشريعة بكل دقة وأمانة.. إلى رعاية قوانين الشريعة الفطرية.. إلى وقاية الإنسان سرّه وخفيّه وأخفاه من الشرك وكل ما يُشم منه الشرك عند كل سلوك يؤدي به إلى جهنم، أو كل عمل يثمر ثماراً في الجنة.. وإلى الوقاية من التشبه بالآخرين في التفكير وطرز الحياة.” التلال الزمردية ص 92، دار النيل ط3، 2006م.

Leave a Reply

Your email address will not be published.