– هل لي أن أتكلم؟

تحولت إليه أنظار الجميع:

– عندي إجابة على سؤالكم، قد تبدو بسيطة، ولكنها حقيقة.

ازدادت ملامح الحضور جدية، واعترى الفضولُ جميع الوجوه، أخذوا يحدّقون إلى الرجل مستفسرين. نهض من مقعده، كان في الثلاثينيات من العمر، متوسط القامة، وسيم الوجه، طويل الشعر حتى الكتفين:

– أنا بائع كفتة.

همس التاجر الجالس إلى جواري في أذني:

– ألذّ كفتة في إسطنبول، لا يكاد يخلو حي من أحياء إسطنبول من محلّ له، تَرجِمْ لضيوفك ما قلته حتى لا يفوتهم شيء.

مِلت إلى أستاذ الحضارة الإسلامية القادم من اليمن السعيد وترجمتُ له مقولته، فسَرَت بين رفاقه سريانَ النسيم، وأثارت في وجوههم مزيدا من التعجب. همس جاري في أذني مرة أخرى:

– الكفتة التي أكلناها قبل قليل جاءت من أحد محلاته، شاب شاطر، هو من تربية مدارس “الخدمة”.

كان سؤال الشيخ الحكيم في الصميم، إنه يريد أن يعرف سر إنفاقهم على تلك المشاريع بسخاء لم ير له مثيلا في حياته في أي مكان من العالم.

وصلت ترجمتي جميع أعضاء الوفد اليمني الذي كان يضم شيخا حكيما وطبيبا وأستاذا جامعيا ورجل أعمال وعميد كلية وإعلاميا. جاء الوفد في زيارة إلى إسطنبول ليستمتع بجمالها الساحر، ويتنقل بين مدارس “الخدمة” الأهلية التي ذاع صيتها في العالم، يسمع قصصها، ويعرف طريقة عملها، ويتعرف على المسؤولين عنها، والمنفقين عليها. وها هم اليوم قد التقوا مع مجموعة من تجار “الخدمة” على مائدة الغداء، فالمجال مفتوح، يمكنهم أن يسألوا ما يشاؤون بكل حرية.

كان سؤال الشيخ الحكيم في الصميم، إنه يريد أن يعرف سر إنفاقهم على تلك المشاريع بسخاء لم ير له مثيلا في حياته في أي مكان من العالم. إنه رأى محسنين، ورأى منفقين، لكن هذا النوع من الإنفاق الصّدّيقي لم يره في أي مكان. سخاء لا يستوعبه العقل، إنفاق أسطوري. قال لهم قبل أن يوجه السؤال:

 – أقول لكم بصدق، لو حدثني أحد عنكم وعن بطولاتكم في البذل والعطاء لما صدقته أو لقلت له أنت تبالغ. أما وإنني قد رأيت فلا مجال للشك عندي. إذن فليكن سؤالي مباشرا: ما الدافع أيها الأكارم على هذا العطاء العجيب، لماذا كل هذا البذل، ما السر الذي يحرّككم؟

كانوا حوالي عشرين رجلا من رجال الأعمال ما بين مقاول ومهندس وصناعي وتاجر ونساج وأصحاب حرف أخرى، جاؤوا ليتناولوا الغداء مع الوفد اليمني، ولليمن في القلب التركي ذكريات حلوة ومريرة، جاؤوا فرحين مرحبين. اتجهت الأنظار إلى رجل في السبعينات من العمر أشيب الشعر واللحية رزين النظرات، قال:

– هو مال الله يا سيدي، ونحن أمناء، نؤديه لأصحابه من عباد الله.

ثم سكت، فاتجهت الأنظار إلى الرجل الجالس بجواره ذي السبعين عاما، فقال بصوت جهوري نقي:

– رأينا الصدق في القائمين على هذه المشاريع، أناس زهّاد متواضعون، أياديهم نظيفة، لا يملكون بيوتا ولا عقارات، أناس بسطاء، وثقنا بهم فأنفقنا على كل مشروع وُجِدوا فيه.

نظر إلى المقاول بجواره، فقال المقاول:

– نحن تجار، نجيد الاستثمار في الدينا والآخرة، نعرف أين نضع أموالنا، هذه المشاريع ناجحة، لم نجرب عليها فشلا. مشاريع صائبة وناجحة تفيد البلد والعالم، فلم نجد مكانا للاستثمار الأخروي أفضل من هذا..

رأينا الصدق في القائمين على هذه المشاريع، أناس زهّاد متواضعون، أياديهم نظيفة، لا يملكون بيوتا ولا عقارات، أناس بسطاء، وثقنا بهم فأنفقنا على كل مشروع وُجِدوا فيه.

تنهد السيد رضوان ذو الخمسين ربيعا واغرورقت عيناه بالدموع:

– كنا في متاهة… هل تعرفون معنى الضياع يا سادة؟ بفضل “الخدمة” عرفنا الله ورسوله من جديد، انبعثت الروح في قلوبنا ثم في بيوتنا، دخلت حياتَنا سعادة روحية لا توصف، فالحمد لله. لم يكن لحياتنا أي غاية، كنا نعيش من أجل الدنيا، الآن أصبح لنا غاية نعيش من أجلها، أن نحيي الإنسان، أن نوقد شمعة في عالمه المظلم، أصبح لحياتنا معنى.

كانت الأنظار تتنقل من واحد إلى آخر، فقال ثلاثة رجال على التوالي:

– من للجيل أيها السادة؟ نحن جيل ضائع، لا نريد لأبنائنا أن يضيعوا مثلنا. مدارس الخدمة تنقذ أبناءنا من الضياع.

– نجاحات “الخدمة” أعادت إلينا الثقة بأنفسنا، شعرنا من جديد بأننا يمكن أن ننجز شيئا في هذا العالم بعد أن سقطنا سقوطا مروعا وأصبحنا عالة على الأمم.

– كنا نسمع كلاما ولا نرى أي إنجاز. مع الخدمة رأينا قبل أن نسمع. وجدنا قوما يعملون، لا تجد عندهم كلاما كثيرا، بل تجد الجدية والعمل، إن تحدثوا، بلسان العمل تحدثوا. لم نر تناقضا فيما يقولون وما يفعلون.

أضاف شيخ بدين في الثمانين من العمر حليق اللحية دقيق الشارب أصلع الرأس مبتسم الوجه دامع العينين:

– دموع الأستاذ يا إخوتي.. دموع الأستاذ أذابت قلوبنا المتحجرة، وجعلتنا نشعر بآلام الأجيال، ونحس بالمسؤولية إزاءها.. سقى الأستاذ هذه المشاريع بدموعه، وعلّمنا حرفة السقي بالدموع…

 تنهد الحكيم بعمق وقال بصوت يسمعه الجميع:

– يا الله… هذه المعاني كنا نقرأها في حياة الصحابة، وقد تلاشت من حياتنا منذ أمد بعيد، وخلنا أنها لا تُبعَث من مرقدها مرة أخرى.. ولكن ها هي ذي تعود..

ولم أكد أنتهي من ترجمة عبارة الحكيم إلى التركية حتى رفع شاب في الثلاثينيات يده يطلب الكلمة:

– هل لي أن أتكلم؟

– بالتأكيد.

– في الحقيقة ليس من الأدب أن أتكلم أمام العلماء وأساطين الإنفاق.

التفت إليه جميع من في القاعة بإمعان:

– ولكن، عندي إجابة على سؤالكم، قد تبدو بسيطة، ولكنها حقيقة.

ازدادت ملامح الحضور جدية، أخذوا يحدّقون إلى الرجل باهتمام. نهض من مقعده، كان في الثلاثينيات من العمر، متوسط القامة، وسيم الوجه، طويل الشعر حتى الكتفين:

– أنا بائع كفتة… وقد تكون قصتي إجابة على سؤالكم؟

اتجه الضيوف إلى بائع الكفتة بفضول بالغ:

دموع الأستاذ يا إخوتي.. دموع الأستاذ أذابت قلوبنا المتحجرة، وجعلتنا نشعر بآلام الأجيال، ونحس بالمسؤولية إزاءها.. سقى الأستاذ هذه المشاريع بدموعه، وعلّمنا حرفة السقي بالدموع…

– كنت يتيما فقيرا عندما أخذ هؤلاء الأخيار بيدي وشملوني برعايتهم وحنانهم في إحدى مدارس “الخدمة”، لم أدفع قرشا واحدا، تحمّلوا جميع المصاريف، حتى كبرت وتخرجت من أرقى الثانويات في تركيا. درست إدارة الأعمال في الجامعة، لم أشعر بالحرمان أبدا مع وجود هؤلاء الرجال. عاملوني كما يعاملون أبناءهم، بل كانوا ينسون أبناءهم في كثير من الأحيان من أجلي. وبعد أن تخرجت من الجامعة ساعدوني لكي أبني ذاتي وأبني عملي. وللأمانة، أثناء دراستي الأساسية والجامعية عرفت هؤلاء عن قرب، عرفت معنى “الخدمة” وعظمة قلوب رجالاتها. فقد كانوا يرعون عشرات الآلاف من أبناء هذا البلد في كل أنحاء تركيا، يوفرون لهم مساكن ومدارس وجامعات ومنحا دراسية وملابس ويُعنَون ببنائهم العلمي والتربوي. تعلمت منهم أن أعظم سعادة في هذه الحياة أن تأخذ بيد أخيك الإنسان وتساعده ليكون صالحا نافعا. تعلمت منهم التضحية والحب والعطاء والبذل والإيثار.. تلك هي قيم هؤلاء الأخيار يا سادتي. وعندما انخرطت في العمل كان عندي حلم واحد، أن أكون مثل هؤلاء الفرسان، أن أكسب مثلهم وأنفق مثلهم، أن أسهم في أي مشروع يخدم هذه المعاني السامية.

همس جاري في أذني:

– قل لضيوفك إن هذا الشاب ينفق في العمل التطوعي ما لا يقل عن خمسة ملايين دولار سنويا.

ارتفعت عبارات “ما شاء الله” لدى سماع الترجمة. ثم عاد الجميع إلى بائع الكفتة ينصت بكل تركيز:

– أما عن سؤال ما سر هذا العطاء، فأجيب باسمي لو سمحتم ولكم أن تقيسوا الباقين عليّ. أنا يا مشايخي أصنع كفتة، أبيع كفتة، أي إن بضاعتي الكفتة. هل تعلمون أنني أنفق على ترويج هذه الكفتة ٣٠٠ ألف دولار سنويا؟ أستنفر لها طاقات، أصنع لافتات، أفيشات، مطويات، أنتج أفلاما وإعلانات أبثها في قنوات تلفزيونية. وهي في نهاية الأمر كفتة… هل تستحق كل هذه العناية؟ لست أدري. لكننا تعلمنا في عالم “الخدمة” شيئا ثمينا، تَعرّفنا على بضاعة، بل جوهرة لا تقدر بثمن… الإيمان… برأيكم إن أنفقتُ على ترويج جوهرة الإيمان خمسة ملايين دولار في السنة، هل أكون مبالِغا؟ أم أكون من المقتّرين أصلا؟

-فعلا فعلا، ما فكرنا بهذه الطريقة من قبل قط.

بائع الكفتة متحمسا:

الكفتة تُشبِع البطون أيها الأفاضل، أما الإيمان فيشبع القلوب والأرواح. الكفتة زاد المرء في هذه الحياة الفانية، أما الإيمان فزاد الإنسان في الحياة الخالدة. أأنفق على الكفتة، وأترك الإيمان؟ ويحي إن فعلت ذلك. ألا يرقى الإيمان إلى مستوى الكفتة؟ نحن نعتبر مدارس الخدمة مصانع لإنتاج قيم الإيمان التي تشكل جوهر الإنسان، فكيف لا نبذل في سبيلها كل غال ونفيس؟

هلل الجميع بانبهار. قال أستاذ الحضارة:

– كلمات عجيبة، أفكار مزلزلة.. أيّ درر هذه التي تتناثر من فم بائع الكفتة؟!

قال الحكيم:

– بل قل من فمِ عارفٍ للحقيقة.. هذا كلام العارفين يا صديقي.. هذا كلام لا يقوله إلا صنف خاص من أهل المقامات العالية. علمُ هؤلاء ليس من الكتب ولا من مدرجات الجامعات، علمُهم ثمرةُ عملهم.. هؤلاء عاشوا فعرفوا.. طوبى لمن عرف فالتزم. آه ليتنا كنا مثلهم، ليتنا…

ملاحظة الكاتب: يومها كنتُ هناك، وما كتبتُ إلا ما رأته عيني، وسمعته أذني، ووعاه قلبي.