توطئة: تناولنا فيما سبق مجموعة من القضايا تتصل بحياة الأستاذ فتح الله كولن ، وحاولنا الوقوف عند المحطات الأساسية في حياته، كما سعينا إلى تبين معالم تكون شخصيته الفكرية والدعوية الحركية.. ومن الممكن القول إن تشكل معالم حياة الأستاذ كانت محاطة بعناية إلهية، وكأن الله كان يهيئه لأمر كبير. ولذلك فإن من يتأمل في جوانب حياته سيلاحظ بأن الكثير من الأشياء يصعب تفسيرها تفسيرا عقليا، لكن إذا نظرنا إليها من زوايا أخرى، فإن فهمنا لفتح الله سيكون قد أجاب عن كثير من الأسئلة.
كانت المباحث السالفة تعريفية حاولنا فيها إضاءة عالم فتح الله قبل الدخول إليه. تعتبر معالم حياة الأستاذ نوعا من الوقوف على عتبة هذا العالم، وطلبا للإذن بالدخول إلى هذا العالم الفسيح والمركب بالمعنى الإيجابي. إن عالم الأستاذ فتح الله كولن متعدد كما بينا في مكان سابق، ولهذا فإن الباحث يتهيب من وُلوجه، مخافة أن يكون هذا العالم عصيا على الفهم والاستيعاب، وعصيا على الإمساك بخيوطه.
إن عالم فتح الله عالم معنوي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولذلك فمن يدخل ينبغي له التسلح بطاقة معنوية وروحية، حتى يتسنى مقاربته وفهمه ومقاربة مكوناته.
من مسلمات البحث تحديد الباب الذي يمكن الدخول منه إلى الأبواب الأخرى، لأن عالم الأستاذ فتح الله كولن عالم فسيح يحتوي عوالم أخرى، وكل عالم من هذه العوالم يشكل لوحده مجالا خصبا للبحث، وقد نجده في هذا الباب الأول، وهو باب المصادر الأساسية للميراث الثقافي، فلا حديث عن الإصلاح في رؤية الأستاذ فتح الله كولن دون فهم طبيعة نظرته للأسس التي يقوم عليها فكره الإصلاحي.
أولا: القرآن في عمق الرؤية
1– نون الجمع وتجاوز حدود الزمان والمكان
الأستاذ دائم الإلحاح على مركزية القرآن الكريم والسنة النبوية في مصادر الثقافة الذاتية كما يطلق عليها، وهو عندما يثيرهما نلاحظ بأنه يربطهما بالعلاقة الرابطة بين “الإنسان-الكائنات-الله”، على أساس وجوب إدراك هذه العناصر كلها في بوتقة واحدة، إذ تعتبر هذه العلاقة من أهم الأسس التي ينبني عليها نظام ثقافتنا الذاتية.
والملاحظ في هذا الإطار كثرة إلحاحه على “نون الجمع”. الأمر يفسر بأنه ينطلق من رؤية جماعية غير محصورة في الزمان والمكان. فهذه المنظومة وجدت منذ أن خلق الله الإنسان ونزوله إلى الأرض من أجل المكابدة للحصول على إجازة كماله التي تؤهّله للعودة إلى مهده الأول. ومن منظور هذه العودة فإن هناك جائزة يحصلها الإنسان بعد نهاية مكابدته على الأرض، وبعد أن يجتاز امتحان الكفاءة الإنسانية التي يلزم أن تعترف بأن الإنسان مجرد مخلوق، بل هو مجرد عدم لولا فضل الله عليه إذ نفخ الروح فيه، وأن الله هو الخالق وهو الأول والآخر وهو الظاهر والباطن، وبأن المخلوق الإنساني لم يوجد إلا ليعرف هذه الحقيقة التي هي في الوقت نفسه سر وجوده. ولذلك فالمنظومة الوحيدة التي تحقق هذا الشعور هي منظومة التوحيد. ولذلك يلمس في نون الجماعة تجاوز الحدود الزمانية والمكانية، فالتركيز على نون الجمع هذه يتم في دائرة كون المنظومة عنصرا ثابتا لا يتغير ولا ينبغي أن يتغير وإن تغير الزمان وتغير المكان، بل إن هذين العنصرين مجرد مظهر صوري فيما يتعلق بهذه المنظومة، فجذورها لانهائية. ولذلك فهي تتجه لكل إنسان استحق صفة “الإنسانية” في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة، وحتى في العوالم التي لم تكتشف بعد عبر هذا الكون الفسيح، الواسع سعة قدرته تبارك وتعالى.
سيرُ الإنسان في هذا الطريق يحقق الكثير من الحسنات والإيجابيات ومن بينها وراثة الأرض وما يتبع ذلك من عمق في الفضاء الواسع حيث تتبدد نظرة الإنسان للزمان والمكان المحكومة بمقاييس المادة المحدودة جدا، يقول: “يقول الله تعالى في الفرقان البديع البيان: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَالصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105)، ولا ينبغي أن يتردد امرؤ في توقع مجيء هذا اليوم، وهو وعد الله المؤكّد. ولن تنحصر هذه الوراثـة بالأرض وحدها… ذلك، بأن مَن يـرث الأرض ويحكمها، يحكم عمق الفضاء والسماء أيضًا، إذن هي حاكمية في الكون كذلك. ولما كانت هذه الحاكمية بالنيابة والخلافة، فحيازة خصال التمثيل التي يريدها صاحبُ السماوات والأرض الحق، لازمة وضرورية. بل يصح القول بأن تلك الرؤيا، وذلك الرجاء، يتحقق بقدر إدراك هذه الخصال ومعايشتها”.
فالإنسان بهذا المنظور ليس مخلوقا ثانويا وليس مخلوقا هامشيا، بل هو أرقى المخلوقات وأكثرها دلالة على الخالق، فهو يشترك مع المخلوقات الأخرى في أنها “مشهر” و”كتاب” و”بيان”.. فهي “مشهر” لأنها تشهر القدرة الإلهية، وتشهر عظمة الخالق.. وهي “كتاب” بما تحمله من حروف وكلمات تدل على الكاتب المصور وعلى من خط بالقلم، وقال “كن” فيكون.. وهي “بيان” لأنها تبرز جمال الخالق ورونق صنعته بما تجلى به الجميل المتعالي من جماله ورونقه على كل المخلوقات؛ فجمال المخلوقات ليس سوى تجل لمطلق جماله تعالى.. وإذا كان الإنسان يشترك مع المخلوقات كلها في أنَّها مشهرٌ وكتابٌ بيانٌ، إلا أن الله تبارك وتعالى ميّزه عنها بأن جعله المتكلم باسم كل المخلوقات، لقد جهزه بالقدرة على الكلام وعلى البيان، ولذلك يستطيع أن يجلي دقائق الربوبية المتجلية في كل المخلوقات بما فيها الإنسان نفسه، فالإنسان بفعل جوهره العالي وماهيته المكرمة، يملك القدرة على ذلك ويستطيعه. فبالبيان الذي أودعه الله في الإنسان يستطيع هذا الإنسان مد كل المخلوقات بالحياة بما هي دليل على الخالق. إن للبيان سلطة وقوة “لا حدود لها، لأن “البيان” يمد الجماد بالحياة، ويحرك الأحياء ويأسر الجموع بقوة تأثيره، ويدفعهم إلى أقصى حدود طاقتهم”.
فالكلام بهذا المعنى -كما يرى الأستاذ فتح الله كولن- هو ما أوجد وأفصح عن العلاقة العجيبة بين الخالق والمخلوق.
الكائني الإنساني ليس أكثر من خليط من ماء وتراب، ولكن لأنه مستودع المعرفة كان أرقى المخلوقات، لأن الله منحه منحة البيان والكلام، فكان بذلك رئيسا على هذه الأرض. وبخاصية الكلام هذه فإن الإنسان -كما يرى الأستاذ فتح الله- استطاع التكلم باسمه وباسم جميع المخلوقات الأخرى.. وبخاصية البيان هذه أصبح الإنسان هدف الخطاب الإلهي، وبالقدرة نفسها استطاع هذا المخلوق الإنساني التوجه إلى الله تبارك وتعالى. فالإنسان بفضل نعمة البيان يفصح عن ذاته ويستطيع تأويل كل الأشياء والمخلوقات الأخرى، فكل فرد من أفراد الإنسانية في حد ذاته خطاب (language) والصورة التي يكون عليها هذا الخطاب هي في حد ذاتها صورة من صور البيان.
إن البيان مفتاح يفتح أقفال الكنوز المؤدية إلى المعرفة، وهو المفتاح الذي يتيح ترتيب أمور السلطنة على الأرض.
2– الثقافة الذاتية في ضوء معادلة “الإنسان–الكائنات–الله“
نستخلص مما تقدم أن الإنسان يوجد في مركز الكون باعتباره أرقى المخلوقات وأوعاها في طبيعة التوجه إلى الله وتعالى. وتعتبر معادلة “الإنسان-الكائنات-الله” مرتكز من مرتكزات نظامنا الثقافي أو مرتكز من مرتكزات ثقافتنا الذاتية كما يرى الأستاذ فتح الله كولن. فإذا كانت الثقافة هي: “مجموع نظمٍ وقواعدَ تحكم التصرفات الاجتماعية والأخلاقية التي أنتجتها أمة أثناء تاريخها الطويل، وجعلتها بمرور الزمان بعدا من أبعاد وجودها أو حوَّلتْها إلى مكتسبات في اللاشعور.. ومع أن بعض الخصوصيات الأساسية للثقافة حسب هذا التعريف يحمل سمات عالمية، لكن الواضح أن لكل مجتمع في جغرافية اجتماعية معينة، ثقافة سائدة خاصة. وبدهي أن هذه الخصوصية الثقافية عنصر مؤثر قوي في النُّظُم الفكرية. ولذلك، يعد الفكر المرتبط بثقافة معينة عند فرد من الأفراد، تعبيرا عن ذاته بواسطة إطار المرجعية المعينة”.
فإنها هي أصل ثبات نون الجمع وأساس استمرارها وبقائها، وبغيابها تتبدد نون الجمع وتضمحل وتنزوي بعيدا على هامش التاريخ والزمن. الحاصل: “أن الثقافة هي مجموع المفاهيم والقواعد والانسياقات التي تعلمها الإنسان وآمن بها وطبقها في حياته فصارت بعناصرها الأصلية والتبعية بعدا من طبعه، حتى تحولت إلى مصدر للمعلومات في اللاشعور… فهي ظاهرة أبيستمولوجية يُدْرَك ويُحَسُّ بوجودها وتأثيرها بين الحين والآخر، حتى في غياب الشعور والإرادة”.
فهذه الحقيقة توجد في أصل تكوين الإنسان، فهي لا تنمحي، لكنها قد تنسى وتهمل ويلغى دورها في الحياة كما وقع مع الفلسفة المادية التي جعلت الإنسان والأشياء والحوادث أصل كل وجود، وألغت الربوبية وأبطلت وجودها وحقيقتها.. فالإنسان من منظور هذه الفلسفة ابن الطبيعة إذ هي التي صنعته، بل هو وباقي الكائنات نتيجة تحول المادة.
المرتكز الأساسي في هويتنا -كما يرى فتح الله كولن- هو وجود مناسبة دائمة بين الصنعة والصانع، والأثر وصاحب الأثر، أو بين الخلق (أو المخلوقات) والخالق، وبين الإبداع والمبدع المطلق.. وبعبارة دقيقة إن الأستاذ فتح الله ينطلق من أن حقيقة وجودنا وحقيقة المنظومة التي تحركنا في لاوعْينا، أو بالأحرى التي تنسجم مع فطرتنا، هي التوحيد. وهو عندما يرفع أمر التوحيد ويجعله مركز الوجود الذاتي، يطرحه في مقابل الفلسفة الغربية التي تنكرت وانحرفت عن هذا الجانب المنسجم مع فطرتها، بمعنى أنه يبعدها عن دائرة منظومتنا الذاتية، لعدم انسجامها مع الفطرة، فهي لا تملك أن تكون بديلا عن ثقافتنا، ولا يمكن أن تحقق انسجامنا الفطري مع خالق الوجود، ومع الوجود.
3– جذور الإسلام فوق الزمان والمكان
التوحيد هو عمق الحقيقة الإسلامية، والإسلام في صفائه يؤيد هذه الحقيقة، بل هو دين التوحيد، لأنه فوق الزمان والمكان، وهو عندما يخاطب الإنسان يخاطب فيه حقيقته الفطرية التي تناسبه. ولذلك فهي في نظر الأستاذ مصدر من مصادر ميراث الذات الثقافي، إذ يقول: “إن جذور الإسلام لانهائيةٌ تمتدّ فوق الزمان والمكان، والمخاطَبُ في الإسلام هو قلب الإنسان الذي يسع ويستوعب السماوات والأرض بسعته المعنوية، وهدف الإسلام هو السعادة الدنيوية والأخروية.. الإسلام، اسم الصراط المستقيم الممتدِ من الأزل إلى الأبد، وعنوانُ النظام السماوي المنـزَّلِ لتحقيق رغبة “الخلود” التي يكنّها كل شخص، والمنزل لِفتحِ مغاليق القلوب جميعًا؛ ابتداءً من قلبِ أشرف البشر في الأرض . (…) بل نستطيع القول بأن ما نلاحظه في محيطنا من مدى الشوق إلى الإسلام والرغبة فيه وتلقيه بالقبول إنما هي أمور تتحقق بتناسب طردي مع عمق هذه الصورة الداخلية المشرقة ومدى سعة إحاطتها، وهذا يعني أنه كلما كان هذا القبول الأولي للإسلام ضاربا في أغوار أعماق الإنسان، يقوَى تأثيره في محيطه. وفي ضوء ما يمليه هذا الإذعان الداخلي، يأخذ المجتمع وِجهته في مسيرة حياته الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والإدارية والثقافية”.
فالأصل في نظر الأستاذ هو أن الإسلام يخاطب الفطرة، والفطرة تقوم على التوحيد، لأن حقيقتها المعنوية فطرية. وعندما يلتقي الإسلام وحقائقه بالفطرة اليقظة المتوثبة تنتج إنسانا متناغما مع حقيقة وجوده وخلقه.. وفي الحقيقة إن الأستاذ فتح الله عندما يجعل من هذه الحقيقة المطلقة عمق ثقافتنا الذاتية إنما يرمي إلى ضرورة أن يكون الإنسان في علاقة منسجمة مع الوجود من جهة أن هذا الوجود إبداع إلهي وإبداع دال على الخالق، ولذلك فإن هذه العلاقة الانسجامية وهذا التناغم بين الإنسان باعتباره أرقى الموجودات وبين الوجود يدفع الإنسان إلى:
- التطلع إلى تفكيك مكونات هذا الوجود من جهة ما يتيحه من فهم لحقيقة الربوبية، وهو بعد من أبعاد “العلم”، لأن العلم في أدق جزئياته ليس سوى طريق سالك يكشف حقيقة الخلق المؤدية بدورها إلى معرفة الصانع وقدرته.
- ضرورة الحفاظ على هذا الذي يقدم للإنسان ما لا نهاية له من الأدلة الدالة على الصانع، فوجب بذلك الحفاظ على صفاء هذا الوجود من كل ما يعكر صفاء العلاقة بين الوجود والإنسان.. فالفساد والإفساد بجميع ضروبه المادية والمعنوية يؤدي حتما إلى انحجاب الرؤية وتكدر الطريق السالك إلى الله تبارك وتعالى، ثم تكدر المعرفة الأصيلة، وتكدر فاعلية التفاعل مع الوجود.
إن الأستاذ عندما يركز على هذه النطق يؤكد أن الإنسان ليس بمقدوره فتح الآفاق والسير إلى المستقبل دون هذه الحقيقة المطلقة؛ فعلى الإنسان في مجتمعاتنا التي ترغب في أن تقول كلمتها في هذا العصر والعصور المقبلة أن تستحضر العلاقة بين “الإنسان-الكائنات-الله” في حركيتها وفاعليتها.
4– لكل عصر خصوصيته وشخصيته
إن معيار “الإنسان-الكائنات-الله” هو محور الدائرة في كل حركية إصلاحية، بما تملكه هذه العلاقة من مشروعية تاريخية أكدت أن الإنسان باستطاعته التحول إلى حركية مغيرة في ظل انسجام العلاقة بين “الإنسان-الكائنات-الله”. فالانبعاث والنهضة مرهونات بمدى تمثل هذه العلاقة. فهل هذه الروح الثقافية الكامنة في لاوعي الذات، والتي هي نتيجة تجارب طويلة ممتدة في الزمن حتى صارت جزءً مترسخا في طبع الإنسان، ومصدرا للمعلومات في اللاشعور، هل ينبغي لها المحافظة على صورتها الموروثة أم تستطيع تجديد ذاتها؟
يرى فتح الله أن العصر وخصوصياته تستطيع الإضافة إلى الموروث أو إلى الثقافة الذاتية بما انتهت إليه تجربة العصر، وإلا كيف يكون الإنسان حركيا فعالا إن لم تكن له القدرة على طبع ثقافته الكامنة في لاشعوره والموجودة -كما يقول الأستاذ- “فوق الزمان” في عمق شخصيته. بعبارة أخرى إن الكثير من الأعراف والمعتقدات والمسلمات هي جزء من الروح لكنها، “… غافية في اللاشعور، تحفزها المقومات الداخلية للعقل بين الفينة والأخرى، بواسطة دوافع وأسباب مؤثرة في هذه المكتسبات، فتنشطها وتفعلها وتنشئها وتصورها في أشكال؛ فأحيانا في شكلها القديم وأحيانا في تماثل قريب من شكلها القديم ولكن ربما بلون باهت، غير أن هذه المكتسبات مهما كانت مندرجة في طبع الإنسان فلا تظهر في الحاضر مجددا بعين الذات القديمة، لأن كل يوم جديد هو عالم خاص بذاته… لذلك لا نريد أن نكرر مكتسباتنا القابعة في اللاشعور كشيء قديم تماما، بل بإضافة شيء من العمق إليها حسب متطلبات الأحوال والظروف”.
رغم أن الأستاذ فتح الله ينطلق من روح التراث ومن الأصول الثابتة ومن اقتناع كلي بأن الإنسان يحيى بروح الماضي الممتد فيه دون إرادته، إلا أنه يرى ضرورة أن يكون الإنسان ابن عصره ووقته، ويرى ضرورة أن يطبع عصره بشخصيته، فجذوره الثقافية والفكرية وإن كانت ممتدة في الزمان، لا ينبغي أن تمنعه من طبع وجوده في زمنه بطابعه الخاص الذي هو طابع العصر.
بعبارة أخرى إن الإنسان يستطيع أن يزيد في وعاء المعاني والأفعال والتصرفات التي تجعل “التوحيد” أكثر عمقا في القلوب والأرواح في فترة من الفترات، فإنسان كل فترة من الفترات مطالب بأن يكون وسيلة فعالة في دفع الفكرة إلى الخارج فتعبر عن نفسها. فما دور الإنسان في عصر وفترته إن لم يكن قادرا على مساعدة من لا يستطيع تعبير هاتف الفطرة الداخلي القادم من الأعماق، حتى لا تنسحق هذه الفطرة تحت ثقل طبقات الغفلة والأفكار الغامضة والمسلمات الخاطئة، المتكدسة عبر مختلف مراحل التاريخ الطويل. فالقول الأصوب كما يقول الأستاذ هو:
“أن نعيش تلك المكتسبات بزيادة ألوانٍ وأعماقٍ طرية، صحيحة النسب، مستمدة من الأصل”
فالروح الثقافية تحتاج إلى:
- أن تصطبغ بلون شخصيتنا في العصر، وأن نسمح لها بأن تتسرب إلى عمق حياتنا في العصر، بعد تكيفها مع روحه، حتى لا تكون سببا في ظهور تنافر وتناقض بينها وبين ما تمثله من جذور وبين حقيقة انتمائنا إلى عصرنا وزمننا. بعبارة أخرى ينبغي رعايتها وتعهدها بكل ما يجعلها طرية في حياتنا.
- ضرورة أن تكون هذه الثقافة من مصدر سليم وصاف، لأنها إذا كانت من مصدر هجين أو دخيل فلا يصلح لأن تمد انطلاقة الذات بالطاقة والقوة اللازمة للسير تجاه المستقبل.
- أن تكون من مصدر أصيل، والمصدر الأصيل هو الدين والقيم والأخلاق.
5– حقيقة ارتباط الذات بالتراث
وفي هذا الإطار تبرز قضية من القضايا التي أثارت الكثير من النقاش والجدل بين تيارات فكرية ثقافية مختلفة، وهي قضية العلاقة بالقديم وبالتراث، إذ السؤال “كيف ينبى التعامل مع القديم، هل باستحضاره في العصر وجعله المصباح الذي ينير طريق الحاضر والمستقبل؟ أم تجاهل هذا القديم والانطلاق في بناء الواقع بناء خاصا لا يتدخل الماضي فيه كيفما كانت طبيعة هذا الماضي؟”.
لقد رأى البعض أن هذا الماضي كان سببا في تأخرنا، فقاطعوه كلية ومضوا يطلبون منظومة غريبة عن الذات، وولوا قبلتهم جهة من يمثلون النموذج الحضاري الأقوى حسب زعمهم. وكان هؤلاء الذين تبنّوا هذا النموذج قد ألغوا دور الدين في الحياة، وحصروه في مجرد كونه قضية شخصية وذاتية.
كانت شعارات المرحلة لا تخرج عن ضرورة الاجتهاد، وأهمية البعث والنهضة، وجدل العلاقة مع الآخر، ومسألة الذات والهوية الثقافية، وغيرها، كلها قضايا شغلت العقل ونمطت نظام التفكير الإصلاحي ودفعته إلى إثارة سؤال قديم الحديث، عبّر عنه شكيب أرسلان بسؤاله: “لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟”.
لكن إثارة السؤال في الوقت الراهن يختلف بالضرورة، لأن الزمن دخل في بعد آخر تبدو فيه قيمنا الثقافية ويبدو فيه أصل هذه القيم عنصرا قادرا على أن يكون محرّكا فعّالا يمضي بمنظومة التفكير إلى أبعد حد ممكن، وهو أن يكون الإسلام وميراثنا الثقافي -كما يسمّيه “خُوجا أفندي”- حامل بلسم لهذا العصر.
ومن ثم كيف نسائل ما يمكن أن نطلق عليه “تراث الفكر الإصلاحي”، وتحليل معطياته المتعلقة بأسباب فشله في تحقيق الإصلاح المنشود الذي ظل على مدى مائة وخمسين سنة لا يكاد يراوح نفسه.
كانت أسئلة الماضي القريب (القرن 17، 18، 19) أسئلة وجودية مرتبطة بالذات، تشكلت هذه عندما بدأت الذات تخشى على وجودها فكان عليها أن تتحرك لكي تمنع ما قد يقضي عليها، وتمنع ما قد يتحكم في كيانها، وقد ولّد هذا الإحساس في الماضي القريب عدة تيارات:
- تيار الاحتماء بالتاريخ وبالدين وسد الباب دون ثقافة الآخر.
- تيار الاحتماء بالتاريخ وبالدين والانفتاح على ما فيه فائدة في ثقافة الآخر.
- تيار الذوبان في الآخر، أو التيار العلماني.
- تيار قومي باتجاهين: القومي الديني والقومي العلماني.
لقد انحصرت الأسئلة في:
- كيف يُحقَّق الإصلاحُ، وتفعَّل أفكارُه؟
- وكيف تنتج أفكار إصلاحية قابلة للتفعيل؟
- وكيف يستفاد في ذلك من التاريخ، ومن الغير؟
- وكيف يستفاد من الآخر دون الذوبان في ثقافته، ودون تعطيل المقومات الذاتية؟
لكل قضية من هذه القضايا منطق محدد يتحكم في منهجية إثارة القضية وفي طبيعة الخطاب. فلكل اتجاه خطابه الخاص الذي يعبر في أحسن الأحوال عن أيديولوجية مسكينة تسقط شعاراتها عند أول منعطف فكري أو سياسي.
لقد أريد لفكر الإصلاح أو لبعض تياراته أن يكون مجرد اجترار وإعادة صياغة لما قيل. ولذلك برزت الحاجة الملحة إلى ضرورة الانتباه المعرفي للإشكالات المعرفة المتعلقة بطبيعة التناول، ووجوب الاشتغال المعرفي على الخطاب الناتج عن الجدل، وصولا إلى معرفة الضوابط المتحكمة فيه، كالاهتمام بجدل علاقة الحضارات فيما بينها هل هي علاقة صراع وصدام، أم علاقة تفوق حضارة ونفي أخرى، أم هي علاقة تكامل أم علاقة حوار؟ ودراسة الخطاب الذي ينتجه الجدل وتحليله هو غير الانخراط في الجدل. ولذلك فإن التناول المعرفي لهذه القضايا يفرض قدرا كبيرا من الموضوعية العلمية، ويفرض في الوقت نفسه التجرد عن الأنانية الذاتية.
وظفت بعض التيارات الإصلاحية جملة من الرؤى الفكرية والأيديولوجية من أجل الوصول إلى تحقيق أحلامها في الإصلاح؛ فالتيار السلفي المسترشد بفكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، على سبيل المثال عمل على بناء رؤية تحارب البدعة والانحراف الطرقي، جاعلا من ذلك أهم معالم مشروعه الإصلاحي، فضلا عن توجيه النقد للسلطة التي جعلت الطرقية أيديولوجية تبرر بها مواقفها.
والسؤال المطروح بخصوص هذه القضية هو “ما العوامل الذاتية والخارجية التي ساهمت في ظهور التيارات الإصلاحية؟ ولماذا لم تتمكن من إدخال الذات إلى دائرة النهوض الحضاري؟”.
استطاع التيار السلفي أن ينشر بعضًا من أفكاره وتصوراته، ووقف بعض رجالاته سدا منيعا أمام محاولات التحديث التي نادى بها مفكرون من داخل التيار السلفي نفسه، بمعنى أن هذه الرؤية الإصلاحية عندما اكتملت معالمها سورت نفسها بسياج منيع يرفض الانفتاح على أفكار أخرى، ربما بدافع الخوف من المجهول، أو بدافع الأنانية الفكرية.
ربط جمال الدين الأفغاني بين تغيير العقلية الدينية والأخذ بالأسباب السياسية وصولا إلى فرض الإصلاح من الأعلى، لكن تلميذه محمد عبده الذي يئس من إمكانية تحقق منهج أستاذه، جعل الإصلاح الاجتماعي بوابة لتحقيق الإصلاح المنشود وكان أهم عنصر في دعوته هو ضرورة إصلاح التعليم وخاصة التعليم الديني. ومن هنا جاءت رغبته المشهورة في إصلاح الأزهر الشريف، حيث قال: “إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، فإن إصلاحه إصلاح للمسلمين وفساده فساد لهم”.
وتعتبر أدبيات الرحالة المغاربة والسفارات إلى أوربا، وما سجل من ملاحظات عن التطور الذي حققه النصارى في مختلف الميادين الصناعية والعسكرية والعلمية، مصدرا مهمًّا لأفكار دعاة إصلاح التعليم. ولم يكن التيار المحافظ بعيدا عن نقاش إصلاح التعليم في دائرة المنظومة التقليدية، كما هو الحال مع العالم الجليل أبي شعيب الدكالي الذي ركز من خلال سلفيته على أهمية ربط الناس بالمصادر الصافية للعلوم الشرعية من خلال علم الحديث على الخصوص، ونصوص السنة الصحيحة.
لم تكن فكرة الجامعة الإسلامية وفكرة الرابطة العثمانية والالتفاف حول الدولة العثمانية باعتبارها تمثل أحد رموز الوحدة وهو “الخلافة” أقل شأنا من إصلاح التعليم. فقد حفزت بعض زعماء الإصلاح من داخل التيار السلفي كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده اللذين عملا بكل حماس على تحقيق الحلم، لكن الحماس ما لبث أن ضعف بفعل تأثير بعض العوامل السياسية والفكرية فتُنُوزِل مؤقتا عن هذا الحلم الكبير لصالح الأدنى وهو “القومية” التي وجدت من يقوم بإذكائها وهو الغرب الطامع في انتزاع مناطق نفوذ الدولة العثمانية. ومن نتائج القومية، بروز تيارات تختلف تصوراتها للإصلاح التقى حولها السلفي والعلماني والقومي المسيحي والقومي المسلم، كل طرف من زاوية ما يؤمن به من خلفيات فكرية ومنهجية.
وعلى العموم فإن الخطاب السلفي في المشرق بالإضافة إلى تونس والجزائر ظل محكوما بطبيعة الصراع بين الأنا/ السلفي والأنا/ السلطة التركية من جهة، والأنا/ السلفي والآخر الغرب من جهة ثانية. وأما المغرب فقد ظل الصراع فيه منحصرا بين المثقف المحافظ والمثقف المستغرب الطامح إلى التحديث والتغيير والانفتاح على الآخر، دون خلو مختلف المراحل التاريخية من محاولات للتقارب بين العثمانيين والدولة العلوية في ظل فكرة الجامعة الإسلامية، لولا أن المساعي كانت دائما تلقى معارضة بعض الدول الأوروبية وخاصة ألمانيا وفرنسا.
إذا كانت دواليب السلطة تبني أيديولوجية معينة تدبيرا لشؤون الدولة من أجل الحفاظ على السلم المدني والاستقرار السياسي، فإن المثقف ينظر بمنظار آخر يختلف كل الاختلاف عن منظار الحاكم. ولهذا فإن أسئلته وإجاباته تختلف كل الاختلاف، فلكل طرف نظرته ونظرياته التي تغري الباحث بالدراسة والتحليل.
وعلى العموم فقد ظل الفكر الإصلاحي محكوما بأمرين:
الأول: هو المبالغة في التفاؤل، واعتبار قضية الإصلاح قضية قرار يتخذ بين يوم وليلة. فبالغ زعماء الإصلاح في التفاؤل واستعجلوا لمس ثمار أفكارهم، وبعبارة أخرى لقد كان مفكرو الإصلاح مثاليين، في التفاعل مع الواقع، وافتقروا في الوقت نفسه لواقعية خبرت شروط هذا الواقع وخصوصياته.
الثاني: التشكيك في القيمة الإصلاحية والفكرية التي يقدمها الغير وليس الآخر، من منطلق تسييج الرأي الخاص بسياج منيع يرفض وجود الرأي المخالف.
Leave a Reply