“كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه
إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث
فاستشارهم لحدة عقولهم”
(يوسف بن الماجشون)
إن الشبيبة الواعية المستنيرة أشبه ما تكون بشعلة دائمة التوقد في دم الشعوب والأمم، تلتهم عَفَنَ الزمن المتراكم على جمود العقول وشلل الأرواح. فالهزَّات العنيفة العاصفة بكيانات هذه الشعوب وبسكونية عتاقات أفكارها، إنما هو من فعل هذه الشبيبة الملول إذا ما انطلقت من أقفاصها وحبوسها، فلا يَحُول عندئذ بينها وبين ما تريد من تغيير وتجديدِ حدود أو سدود.
فقلوب هؤلاء الشباب تزخر بمعين ثر من انبجاسات الحياة وتفجرات الأفكار. فأفكارهم تتعاقب في رؤوسهم محدثة زخمًا هائلاً يكاد يبلغ حدّ الانفجار، فما لم تتحول هذه الأفكار إلى شواهد حياتية شاخصة ومرجعيات فكرية فاعلة، وقعوا في الإحباط وأصابتهم عدوى الشلل العقلي والسهوم المتبلد.
فمن أجل ذلك، هم في سعي دؤوب وبحثٍ جادٍ للوصول إلى قلب الأمة، ليودعوا هذا القلب كلَّ ما في أرواحهم من أسرار مقدّسة، وبكل ما في عقولهم من أفكار عالية، هذه الأفكار التي لم تجد موضعًا تتنـزّل عليه، أسمى من رؤوس هؤلاء الشباب المملوءة بكل ما يمكن للبشرية أن تقدِّس من فكر وتجلّ من عقل.
فالشباب من أصحاب الرسالات الكبرى في العالم، يملكون من القدرات الإدراكية أكثر بكثير مما تجمّد عليه المجتمع من إدراكات، فهم بعمق بواعثهم الوجدانية والروحية، يشكلون العقل الجوهري المتميز والمختلف عن جسم المجتمع وعقله ووجدانه.
إن هؤلاء الشباب يمثّلون “الإنسان الجديد”[1] الذي بدأ بالاستيقاظ، وهو يمسح اليوم عن عينيه بقايا ليل طويل كان قد تغشّاه منذ زمن بعيد. وهذا الإنسان الجديد، ما برح حتى طرح على عقل المجتمع جملة من الأسئلة، حاول أن يحاور بها هذا العقل ويحفز قواه الفكرية والروحية للإجابة عليها. وها هو اليوم يتلمس طريقه بين عشرات الطرق لكي ينهض بمسؤولية الجواب، ويصل في خاتمة المطاف إلى جوهر كل الأسئلة.
وهذا الجوهر يكمن في السؤال الآتي: كيف يمكننا أن نَحُول بين الأرض وبين مَن يريد تدنيسها؟ وبين العالم وبين مَن يريد هلاكه؟ وكيف نمدُّ البشرية بالقوة التي تستطيع أن تحيا بها مبرأةً من الأدناس؟ وبأن نجعلها تنشد الفضيلة في كل ما تأتيه من فعل أو قول أو فكر؟
فالبشرية اليوم تعاني من رعب خرافي مصحوبًا باختلاج معنوي وجسدي، وهي في حالة اضطراب وحشي بلغ أَوجَه وجاوز حدَّه.. إنها تحترق بتوحش فكرها وهمجية روحها.. إنها تعادي نفسها، وتنحر روحها، وتأكل جسدها، وتشرب دمها، حتى إن الأرض مادت من تحتها واضطربتْ، وثقل عليها الإنسان بأوزاره وآثامه وسفكه للدماء وقتله للأبرياء، وكأنه بهذا الحضيض من السلوك، يريد أن يعلن مجافاته للعقول القوية الزاخرة بالمعاني الجديدة والأفكار البكر، وبهذا يعادي الحقيقة ويتحاشاها ولا يرغب بالتقائها، وحتى عندما يضطر إلى مراجعة رصيده الفكري، لا يفعل ذلك إلا لكونه يرغب بالنجاة من أضرار سلوكه المجافي للإنسانية، لا من السلوك نفسه الذي أودى به إلى هذا الحضيض التعيس.
فما لم ينتشل هذا الإنسان الوحشيُّ السلوكِ روحَه من سجنها السحيق، ويفتح أبواب عقله لمن يملك المداخل لكافة العقول، فلن يستطيع العلو بمداركه إلى آفاق الحقيقة التي تسعى العقول كلها للارتفاع إليها.
إن الكثير من “العتاقة” تفوح رائحة عتاقتها بين ما يسمّونه بصفوة المجتمعات، هذه الصفوة التي لم تتعلم -مع الأسف الشديد- كيف تعيش بالجانب الأعلى من وجودها الإنساني، ورضيت بالأدنى من هذا الوجود، فوقعت في خلل معيب؛ حيث اضطربت موازين هذا الوجود، فلم تتكامل وتتناغم عقولها ومشاعرها وغرائزها الجسدية واستشرافاتها الروحية، فعانت من جرّاء ذلك الخلل الشيءَ الكثير من التعاسات والإخفاقات، مما دفعها إلى الانحدار نحو دركات متدنية من همجيات جسدية وروحية وعقلية، وهي تحسب أنها طليعة المجتمع الساعي إلى الرقي والتقدم.
فالشباب المجددون، في قلق دائم لعزوف البعض عن اللحاق بتفوقهم الروحي والإنساني، وعلى الرغم من معرفتهم بأن الإنسان هو صنو الإنسان في سجاياه وفي طبيعة تكوينه الروحي والبايولوجي على حد سواء، غير أنهم لا يلومون الآخرين على هذا التقصير بقدر ما يلومون أنفسهم، إذ يعدُّون أنفسهم مذنبين لكونهم لم يكتشفوا بعدُ اللغة الحوارية التي تمكّنهم من الدخول إلى قلوب الآخرين وأرواحهم، وهذه اللغة هي ما يسعى هؤلاء المجدّدون إلى اكتشافها يومًا بعد يوم.
[1] انظر: مقال “الإنسان الجديد”، فتح الله كولن (مجلة حراء، العدد:11 / أبريل 2008).
Leave a Reply