إن أصعب مجالات البحث والتأليف والكتابة هو تناوُلُ شخصيّةٍ معيّنةٍ، والإقدامُ على سبرِ أغوارها ومحاولةُ التعريف بها، لا سيّما إن كانت الشخصيّة التي نتناولها متعدّدة الشمائل والخصائص والخصال ومعروفةً لدى الرأي العام، وهذا طبعًا بغضّ النظر عن تعيين الشخص المُزْمَعِ الكتابة عنه؛ إذ “الإنسان ذلك المجهول” -على حدّ قول “ألكسيس كاريل (AlexisCarrel)” – شيء ملغَّزٌ ومعضلٌ على أيّة حالٍ، ومع أن كلَّ فردٍ من أفراد البشر يحمل جوانب مشتركةً بينه وبين غيره من ناحية الطبيعة الإنسانية؛ إلا أنّك إذا نظرتَ إلى بني البشر على اعتبار أن كلَّ فردٍ بمثابة عَالمٍ متفرّدٍ برأسه؛ يتّضح لديك مدى صعوبةِ الكتابة بحقّ الأشخاص بُغيةَ التعريف بهم.
ومع أن فتح الله كُولَنْ جعل غايته أن يكون “فردًا من الناس”، بل ورغم أنه رأى نفسه أحقرَ الناس إلا أن الجميع يتّفق على أنه شخصٌ يمتازُ بصفاتٍ وخصائص مختلفةٍ جدًّا، وإنّ ما جعل من كُولَنْ “كُولَنْ” الذي انعكس على المجتمع بحركته وفكره على الأكثر -والذي يجري التركيز على جانبه هذا بشكلٍ أكبر- إنما هو روحُ حركتهِ وفكرِه، ونشاطُه وهدفُه، وهناك كثيرٌ من العناصر الأخرى كامنة في مكنون اتّجاهه؛ فكُولَنْ كاتب وشاعر يتمتّع بأسلوبٍ خاصٍّ به دون غيره، وإنَّه لَمِنَ الصعب تقليدُه بل يستحيل، وإلى جانب هذا؛ فهو خطيبٌ بارع يتمتّع بكتلةٍ واسعةٍ من المستمعين ربما لم تُقدّرْ في التاريخ لأحد من قبله إلا لبعض الأفذاذ والأعلام المعدودين، وهو إلى جانب وقوفه العميق على العلوم الإسلامية -مثل: علم الكلام والتفسير والفقه والحديث والسِّيَر والتصوّف- مؤهّلٌ للحديث والكتابة بأريحيّة تامّة في علوم الأدب والتاريخ والفلسفة والفنون الجميلة والعلوم “الطبيعية” بمبادئها العامّة، وإنّ تحليلاته للأشياء والحوادث -سواء التي في “الطبيعة” أو تلك التي في “الإنسان”- لهيَ ذاتُ طبيعةٍ تقتضي الوقوف على كلٍّ منها على حِدَةٍ؛ فلديه مخزونٌ ثقافيٌّ معرفيٌّ يُمكِّنُه من الحديث والكتابة -دون عناءٍ- عن المفاهيم والتيّارات والأفكار الحديثة كلّها تقريبًا، أضف إلى ذلك؛ فإنّ جانبَه ومفهومه الروحيّ والإنسانيّ ليُعتَبَر سِمةً بارزةً في جَذْبِ مَنْ يَرَوْنَهُ نموذجًا يُمكنُ الاحتذاءُ به في السلوك والاعتقاد والحسّ والتوجّه.
إن محاولةَ التعريف بإنسانٍ ذي شخصيّةٍ متعدّدة الجوانب -مثل فتح الله كُولَنْ- ربّما يكون زعمًا فيه تجاوزٌ للحدّ، أكثرَ من كونه صعبًا، لأن المعرفة والعلم -لا سيّما التعريف- يقتضي الإحاطةَ بالعنصر المقصود، ولهذا السبب فربما يكون من الواجب تسليطُ الضوء على جوانبه المنعكسة على الخارج، ومحاولةُ إظهاره والتعريف به عبر أعماله، وعلى حدّ قول رسول الله : “فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ…” وبِذا فقد يُفتحُ في هذا الإطار بابٌ لذوي الأفهام الأكثر فهمًا للنصوص واستنباطًا منها حسبَ قدراتهم وإمكاناتهم الفكريّة العالية.
ولهذا كله؛ فقد اعتُمد في الكتاب الذي بين أيديكم على كتابات فتح الله كُولَنْ بالدرجة الأولى، وعلى أعماله الفعليّة ونشاطاته الظاهرة بالدرجة الثانية، وعلى الكتابات والتحليلات التي جرت بحقّه بالدرجة الثالثة، ثم انطباعاتي وملاحظاتي الشخصيّة بالدرجة الرابعة، ونظرًا لكوني أعرفه معرفةً شخصيّةً عن قُربٍ؛ فقد يظنّ الكثير من الناس أنني جانبتُ الموضوعيّة في كتابتي عنه، محاولين إيجادَ شاهدٍ من خلال التقييمات والآراء، إلا أنني أستطيع القول بكلّ راحةٍ: إنَّ هذا القلق والتنبّه لهذه الظنون قبل حدوثها حال دون تعريف فتح الله كُولَنْ بعباراتٍ أكثر موضوعيّة في هذا العمل الذي بين أيديكم، أي إنَّ خوفي من الوقوع في مثل هذه الظنون منعني مِن كتابة كثيرٍ من الأشياء لصالحه ربما كان من الواجب كتابتها، ولذلك فإنني آمل إن قلتُ: “ليس في هذا الكُتَيّب سطرٌ واحدٌ غيرُ موضوعيّ أو يهدف إلى تقديمه على نحو إيجابيّ ومدحه”؛ أن لا أكون مبالغًا وزاعمًا واهمًا.
يتكوّن هذا العملُ من خمسة فصول وأربعة ملاحق وقد رُكّز في الفصل الأوّل منه على الخلفيّة التاريخيّة لفتح الله كُولَنْ من أجل التعرُّف عن قربٍ أكثر؛ بأفكاره وشخصيّته وحركته وفكره، كما سُعيَ في هذا الإطار للنظر إلى الهالة الأُسَرِية التي نشأ فيها فتح الله كُولَنْ بخطوطها العريضة.
وفي الفصل الثاني: جرى تناولُ فهم فتح الله كُولَنْ للإسلام بين أنماط فهم الإسلام الموجودة أو بين الرؤى المتعدّدة للإسلام، وأسس هذا الفهم وعناصره على نحو مقارنٍ مع الأنماط الأخرى.
أما في الفصل الثالث: فقد جرى الحديث عن كيفيّة بناء فتح الله كُولَنْ للذهن والعقل وتزكية النفس ونظريته التربوية في إطار أفكاره وأنشطته التعليميّة والتربويّة بالمعنى المعروف اليوم، وسُعي إلى تعريفه باعتباره إنسان الحركة والعمل وذي فكرٍ يكمنُ في أساسه التسامحُ وتعدّد الآراء ومحاولاتُ الحوار، وقد رُكّز في هذا الكتاب بصفةٍ خاصّةٍ على هدف حركة وفِكْرِ فتح الله كُولَنْ، ونشاطاته الأساسيّة ومبادئه في ذلك.
وفي الفصل الرابع: دُرست آراء وأفكار فتح الله كُولَنْ فيما يتعلّق بالمفاهيم والقيم المعاصرة وبعض المواضيع الحالية مثل: العلم والدِّين والعلاقة بينهما والتقنية أو التكنولوجيا، والإنسان بشخصيّته وطبيعته وقيمه الخاصّة به، والمرأة والثقافة والفن والفنون الجميلة، والديمقراطيّة والجمهوريّة والسياسة، والتقدّم والحريّة والحضارة والإرهاب والفساد والبحث عن المجتمع النظيف، أما الفصل الخامس: فقد خُصّص لشخصيّة فتح الله كُولَنْ وخصائصه كــ”فردٍ من الناس”، وبعد هذه الفصول الخمسة عُرِضَ التسلسل الزمنيّ لحياته في ملحقٍ خاصٍّ بذلك (الملحق الأول).
ولقد انتهجنا في هذا العمل توثيقَ الاقتباسات المأخوذة والأفكارِ والأقوالِ المنقولة عن كُولَنْ، فإذا اقتبسنا شيئًا -بشكلٍ مباشرٍ- صدر في مجلّةٍ ما وثّقنا له ذلك بذكر بياناتها بصفةٍ عامّةٍ، وإن اقتبسنا مجرّد الفكرة أو نقلنا عنه بتصرّفٍ ذكرنا في مثل هذه الحالة -على الأغلب- الكتاب الذي أُخذت منه تلك الفكرة أو العبارة كمصدرٍ لها، والمقالات الافتتاحيّة في المجلّات المثبتة هنا خاصّة بفتح الله كُولَنْ .
ولا بدّ هنا من أن أؤكّد على هذه النقطة: لقد صار من الصعب إلى حدٍّ كبيرٍ الإفصاحُ عن الرأي أو البوحُ بوجهة النظر في بعض المواضيع، لا سيّما في يومنا الحاضر؛ بسبب الحساسيّات السياسيّة والأيديولجيّة، خاصّةً عند الكتابة عن شخصيّة مثل شخصيّة فتح الله كُولَنْ التي أثير الجدل حولها في السنوات الأخيرةِ؛ لأسباب لا تعتمد على أية حجة سليمة على الإطلاق، ومن هنا يشعر الإنسان بضرورة أن يكون أكثر دقّةً وحيطةً، ورغم اختلاف الشخصين؛ -المكتوبُ عنه والكاتبُ المحلّلُ لذلك الشخصِ بقدرِ معرفته له- إلا أن الشخصَ الذي يكتبُ ويُحلّلُ يحاكمه الآخرون بأفكارِ وتحليلات الشخص المكتوب عنه ومن هذه الناحية فإن أيَّ تحليلٍ أو رأيٍ يُطرحُ سواء بحقّ فتح الله كُولَنْ أو بحقّ الجوانب التي شَعرْتُ بالحاجة إلى التطرّق إليها لا تُمثِّلُ أيّ شيءٍ رسميٍّ بالنسبة لفتح الله كُولَنْ، كما أنها لا تُلزمُه بأيّ شيءٍ، فوجهةُ النظر والفكرةُ والتحليلُ والتقييماتُ جميعُها خاصةٌ بي، وهي قراءتي الشخصيّة الصِّرفة ومن عندي أنا، وإنني أترك للتاريخ تفسير وتوضيح السبب في شعوري بضرورةِ التذكير بشيء كهذا والتأكيد عليه في عصر “الحضارة” الذي يُزعم أن حقوقَ الإنسان الأساسية وحرياتِه هي أكثرُ الأمور المرعية الحاضرة فيه.
آمل أن يكون هذا الكتاب وسيلةً للخير، وأرجو أن ينال إعجاب القراء فنحظى بدعائهم بصفةٍ خاصّةٍ.