في 18 يونيه/حزيران 1999م بدأت وسائل الإعلام وأُولاها قناة ATV بنشر تسجيلات ملفقة عنه منتزعة من حوارات لا تشوبها شائبة، لتؤلّب المجتمع عليه، فباءت بالفشل، وبيّنَ للناس أنّها تستهدف التشكيك في نزاهة أنشطته؛ ورفعوا دعاوى عليه بناءً عليها، فثبتت براءته؛ وغابت في زوبعة هذه العاصفة قيم الإعلام في الديمقراطية وحقوق الإنسان التي طالما كان يتغنَّى بها. وعلى هذا فالدعاوى ضده حتى اليوم انحصرت في اثنتين، حكمت محكمة الطوارئ عليه في إحداها بالسجن، وفي 3 أغسطس/آب بعد نحو سنة من “عاصفة يونيه/حزيران” اقترحت النيابة العامّة في أنقرة DGMاعتقاله، وفي 7 أغسطس/آب رُفض هذا الطلب لانعدام التُهم المنسوبة إليه، فتعنت وكيل النيابة وأصدر حكمًا باعتقاله في 11 أغسطس/آب، فاعترض المحامون، فألغي القرار بعد نحو أسبوعين.
وفي هذا العام مُنِح جائزة الخدمة الرفيعة ل”اتحاد كتّاب تركيا”.
وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول رُفعت عليه دعوى استمرت حتى عامي 2002/2003م، وبينما كان يفنِّد التهم، كان يبذل وسعه لتحقيق السلام العالمي، ويقاوم المرض لا سيما أن جسده يتأثر كثيرًا بما ألمَّ به، وفي 31 مارس/آذار 2002م قضى ثلاثة أيام في المستشفى إثر إصابته بأزمة قلبية.
أجرت معه نورية أَقْمان حوارًا مطوَّلًا في عام 2004م نشرته جريدة الزمان بدءًا من 22 مارس/آذار، ثم طبع في كتاب، وأجرى محمد كُونْدَم حوارًا مثله في نهاية العام، نشر في جريدة المِلّية خلال اثنين وعشرين يومًا منذ 8 يناير/كانون الأول 2005م، ثمّ طُبِع في كتاب.
وبقي في أمريكا منذ عام 1999م، أمّا شغفه وشوقه لتركيا الحبيبة فيُظهِرهما حديثه ومقالاته وحواراته الصحفيّة وشعره “الغربة الحزينة”.
بلغ حبّه لتركيا أنه احتفظ بملابس أتى بها معه دون أن يغسلها؛ سأله أحد الضيوف: “هذه الملابس كنت ترتديها وأنت قادم من تركيا، أليس كذلك؟!” فرد الأستاذ فتح الله: “بلى، أحتفظ بها منذ مجيئي، ولم أغسلها قطّ، بل لم أنفض ترابها بعد، فتركيا معي رَوحًا ورُوحًا ورائحة”. يواسي نفسه بتراب أُحضر من أنحاء تركيا كافَّة.
فحجرته في أمريكا هي بيت أسراره وشاهد على آلامه ومكابداته، يموت حسرةً عند حدوث أي فاجعة في العالم، فيتردد بين حجرات الممر والرَّدهة المقابلة لحجرته لعلَّه يعثر على خليل لقلبه الكليم.
لم يكن يأذن في مجلسه بحديث لا ينفع في دين ولا دنيا، لسانه لا يزال رطبًا بذكر الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلامه لا يخلو من الحديث عن الله ورسوله.
أهلّ رمضان، فأشار أطباء الغدد الصُمّ والسكري عليه بالإفطار، وكان يُعنَى بالعبادة أيّما عناية، فقال: “أنصح مَن حاله كحالي بترك الصيام، بل أفتيه بذلك، أمّا أنا فلا أستطيع”، وتابع صومه؛ وكان الصوم في المرض يُقعِده عن الحركة.
لأن تستكشف حياته يقتضيك أن تعرف خصائصه، وإليك شيئًا منها من معلومات وتفسيرات عامَّة استخلصها السيد علي أُونال:
– هو وأمثاله من الدعاة يستمدّون تجليات أسماء الله تعالى ويعكسونها إلى الناس أفضل من غيرهم؛ فأسماء الله تتجلَّى تجليًا متفاوتًا في كلِّ عالم من العوالم، وفي هذه الدنيا يتفاوت تجليها في كلّ مجال على حِدة… الاجتماعي، والعلمي، والديني؛ فيمكن الإمعان في هذه الأسماء بوصفها مرآة للحقيقة ذاتها بلون ونغمة وشكل يتنوع بتنوع الناظر… فكل الحوادث والكائنات ومنها الإنسان إن هي إلا مظهر لتجلي أسماء الله الحسنى…
_ ملكاته العقلية والروحية والبدنية جلية جدًّا، فهو نشيط فطرةً لا يخمل، عزيز، شجاع مقدام، منظَّم منتظم، مرهف الحس، مفعم بمشاعر جياشة، وصول للرحم، رحيم بالموجودات كلها، يقول: “لو رأيت ورقة سقطت من شجرة في الخريف لتألمتُ ألمي لو فُصِل ذراعي عن جسدي”، حتى إنه يقضي نصف ساعة في إخراج نملة سقطت في أرض الحمّام، ويألم لبكاء رضيع وهو يصلي مستغرقًا في صلاته مع الله عز وجل؛ وعندما اجتمع حرمانه في الصغر وحبه وشفقته ورحمته وصلته بأقاربه، وهجراته، وما لقيه والده المحترم الظريف من جفاء الأقران، وحوادث وفاة بليغة الأثر على طفولته بدءًا بأخويه وانتهاءً بجدّيه وأبويه، حفر ذلك آلامًا في أعماقه زادتها جراح المسلمين ومصائب الإنسانية ألماً؛ ورغم أنّ اختلال توازن هذه المؤثرات على الإنسان يأتي عليه فينهار، نجد عناية الله عز وجل تتدارك الأستاذ فتح الله فتتسع لها شخصيته، والفضل في ذلك لنشأته.
– كانت يد القدر قد جذبته نحو العلوم الشرعية وتزكية النفس، فضلًا عن العلوم التجريبية والأدبيّة، والإنسانيّة… فنمت ملكاته الفطرية التي وضعها الخالق لتوائِم العصر، عكف على طلب العلم فنضجت معرفته بالعلوم الحديثة من فيزياء وكيمياء، وأحياء وفلك، وتعرف على أمهات مصادر فلاسفة الشرق والغرب لا سيما الوجوديين أمثال كامو، وسارتر، وماركوس، فجعلت منه هذه المقومات رجلَ فكر وحركةٍ اشتَهر بـ”خُوجة أفندي” في الأوساط العامّة وخاصَّةً بين معارفه، امتاز بحبِّه للناس وسَعة معرفته، فهو غزير العلم، حكيم، منفعل لكن ببصيرة وفِراسة يزن بها الأمور، عفيف، رقيق، كريم، متسامح، تقيّ، ورِع، عطوف، رحيم، حليم، يحب كل ما حوله من إنسان وحيوان وجماد؛ شجاع، متفائل، مثاليّ، منظّم، متواضع هكذا نشأ، وتربَّى، فتواضعه من خصائصه البارزة في شخصيته؛ سيرته كصورته بعيدة كلّ البعد عن التطلع للدنيا من زعامة وريادة ونحوهما؛ زهده في الدنيا وما يتعلق بها يتبلور في مصطلحات “التضحية” و”نسيان النفس” و”تصفير النفس” الذي يستخدمها دائمًا. يقول: “لو استبدلْتَ بالدنيا أخرى كأنها الجنة، فاعتزِل تحت ظلّ شجرة، ودع عنك ما فعلته من أجل الإنسانية وقل في نفسك: “لست أنا من فعل هذه الأشياء، بل إنّها وُجِدَت بعون الله ثم بهمَّة المخلِصين”؛ لم يكن ليأذن بتقبيل يده، يقول “لا أرى أنّ نفسي جديرة بأي نوع من احترام أبدًا، فلا غاية لي سوى خدمة الناس بإخلاص”، فلم يكن يسعد بالتقديس والإفراط، بل يأمل أن يكون بين الناس فردًا من الناس، فكان يكره التكلّف، والتصنّع، والمماسَحة أي المزايدة، والتشدّق في الكلام، يسعده السلوك السوي الرفيع الحكيم، ويسعده أكثر أن يغدو ذلك سجيّة، ورغم ذلك لا يُغضِبه سلوك فجّ فيه مَسحة من إخلاص، يكره أن يُنسب النجاح إليه أو أن يرفعه الناس أكثر من أنه عبد لله، يعرف الفضل لأهله من العلماء السابقين، أكثر ما يُثلج صدره أن يُعامَل بوصفه “واحدًا من الناس”، يقول أحيانًا: “لو جاز تغيير القَسِمات بعمليات التجميل لفعلت لئلا أُعْرَف”؛ يَرى أنّه “الأدنى في التشريف، والأعلى في التكليف”، وأنه “الثرى، وغيره الثريّا”، بل يرى أن نسبة الخدمة التي يحث عليها إلى شخصه “سوءُ أدب مع الله عز وجل، وبخسٌ لكثيرين بذلوا الكثير للخدمة، وخيانة للأمانة”؛ لا يرضى استغلال الدين أو الدولة في أيّ منفعة شخصية، بل يحض على ضرورة طلب رضا الله في ذلك لا متاع دنيوي ولا مقام، يقول: “لا تتطلع إلى جزاء على هذه الخدمات ولو أن تتشوف إلى الجنة أو الوِلاية، ولا تقل: لعل عملي هذا يرفعني إلى رتبة عبد القادر الجيلاني”؛ وكم كان يتألّم ويتأفف ويتخذ موقفًا أحيانًا لو استشعر في نفسه أو فيمن حوله طمعًا في منزلة أو صيت ولو يسيرًا؛ لذا كان يتناسَى عن عمد السنن الحسنة التي سنَّها، ويكأنّه لم يفعلها هو! ويفعل مثل ذلك بل يمحو من ذاكرته ما يصيبه من إيذاء وضرر وجفاء كما تُمسح ذاكرة الحاسوب، ولا يتفوه بكلمة في أحد، يقول: “أودّ أن أرحل إلى الآخرة وليس في قلبي غلّ لأحد، لا سيما المؤمنين”.
– يستثمر شخصيته وحسّه المرهف في تبادل الأفكار والمشاعر لتقويم الأخطاء، ويُقدّر الموقف السديد مهما صغُر.
– بلغ به حياؤه أنه لا يتحدث غالبًا إذا لم يُسأَل، ولعلّ ذلك لأنّه يرى أن لا حاجة للحديث إلى من لا يعنيه ما يقول، فهو إذا أجاب أو تحدث، أو وعظ يكره أن يذهب أحد بكلامه مذهب التفاخر أو التجارة بالعلم، يوجِّه ويوضح إجابته فيجذب السامع، وعلى قدر وضوح السؤال يستفيد السائل من الجواب، فيحل مشكلاتهم ويفعل كلامه فعلَه في حياتهم الروحية، لذا قد يجيب بشيء والسؤال في شيء آخر، إذ إنه يستهدف إفادة المخاطب ما استطاع، ويستطرد مرارًا في الإجابة ليرسل للمخاطب رسائل تنفعه، أو ليكون في جوابه تذكِرة وحلّ لمشكلة أخرى.
– يصوِّب الأخطاء ويقوِّم الأفعال بكلام عامّ مثل “ما بال أقوام؟” كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، فينال كلٌّ حظه من هذه التذكِرة، لا يواجِه أحدًا بخطئه إلا إذا عرف منه أنه يقبل المواجهة، أو أنّه لا يتأذى بأسلوبه اللطيف، فيجعل من هؤلاء “سَبُّورة”، ينصحهم كأنهم قد أخطؤوا، وهو يعني بكلامه آخرين، عسى أن يعتبر من يعنيه الأمر… فهو يلجأ إلى التعريض والكناية والتورية، فيكون للكلمة الواحدة أكثر من معنى؛ فمن لم يألف أسلوبه أو سمِعه أول مرة ربما يظن أنه يثني على فرد بينما هو ينبهه، والعكس بالعكس.
-أحيانًا يذكر نكتة طريفة تتصل بالموضوع بأدب واحترام، يقول قرينه وصديقه العريق السيد أردوغان تُوزُون: “قضيت معه ستة أشهر قبل 30 عامًا في كوخ خشبي صغير بمكتب تعليم القرآن الكريم في كَسْتانه بَزاري بإزمير، فأعطاني فراشه وكان ينام عند الباب، كنا شبَبَة إلا أنَّه لم يبدر منه سلوك فجّ قطّ”.
يُصغِي إلى محدِّثه بصدقٍ وحُسْنِ طويّة؛ إن سمع كلمة أو حركة طريفة ابتسم وربما أثنى على صاحبها، وإن ضاق بمتكلّم يتكلّف، أو يرائي، أو يبغي الظهور أو المنفعة، قطّب جبينه.
– وفيّ لأصدقائه ومتاعه وما له صلة به ولمسكنٍ نزلَه ولو يومًا، يقول: “لو استروحت مع أصدقائي تحت شجرة في سَفْرة، ثم مررنا بها معًا بعد سنوات، فلم يتذكرها أحد منهم حزنتُ وأسِفت”، لهذا يرفض تغيير زينة منزله، بل يبقيه كما كان، وله أسلوبه الفذ في تطييب نفس من كُسِر خاطره لأي سبب.
– كريم جوَاد، لا يدخّر سوى ثوبين، ويجود بما فضَل عن حاجته من قمصان وجوارب ومَعَاطف، يقول: “تربَّيت في بيت كرم وبلدة معطاء، لم أرَ بخيلًا قطّ، ولست بالذي يدخّر، لا أفهم أبدًا من ترتعد فرائصهم إذا قيل لهم أنفقوا، فالكرم صفة نبيلة قد تُدخِل العبد الجنة وإن كان فاسقًا، فإن كنتَ من طلاب الجنة فاسلك سبيلها”.
ويعطي عطاءً جمًّا إذا رأى من شخص ما يرضيه ماديًّا أو معنويًّا أو رأى ما يعجبه من إنجاز متقن خالص لخدمة دين الله عز وجل؛ وكنت أرى لكل هدية معنى خاصًّا، يُهْدَى فيُهدِي، ويقابل الهدية بأخرى، وهكذا يفعل في المرسلة إليه رغم كثرتها.
– مثقف نَهِم، يقرأ يوميًّا 150-200 صفحة، بدأ طفولته بقراءة السيرة النبوية ومناقب الصحابة الكرام، ثم عكف على الكتب العلمية والفكرية والفلسفيَّة؛ اطّلع على ثقافة الشرق، وقسِمات ثقافة الغرب، وكان قائدُه في الخدمة العسكرية قد أوصاه بذلك؛ قرأ لروّاد الثقافة الغربية أمثال شكسبير (Shakspeare)، وبالزاج (Balzac)، وفولتير (Voltaire)، وروسو (Rousseau)، وكانت (Kant)، وزولا (Zola)، وجوتيه (Goethe)، وكامو (Camus)، وسارتر (Sartre)؛ وقرأ لروّاد الثقافة الشرقية أمثال مولانا جلال الدين الرّومي، وسعدي، وحافظ، والملا جامي، والفردوسي، والأنوري؛ وقرأ للأدباء أمثال برنارد روسِل (Bernard Russel)، وبوشكين (Pushkin)، وتولستوي (Tolstoy)، وغيرهم؛ فتراه في حواره أو في كتاباته يشير إلى أشياء مردّها إلى منطق باكون (Bacon)، وروسِل (Russel)، والنظرية الجدلية من باسكال (Pascal) حتى هيجل (Hegel)؛ وقرأ في الأدب التركي لعمالقة الأدب الكلاسيكي أمثال فضولي، وباقي، ونفعي، والشيخ غالب، وليلى هانم، ولعظماء الكتّاب والشعراء أمثال نامق كمال، وشِناسي، وتوفيق فكرت، ويحيى كمال، ونجيب فاضل، ومحمد عاكف، وسَزائي قَراقُوج؛ ولكن لعنايته بالعلوم الإسلامية لأنها الأصل؛ قصَر أحاديثه عليها، فتحدّث في تفسير القرآن، وبلاغته، وأسراره، وحلّل الأحاديث النبوية، والحياة الإسلامية.
إنه لم يترك التدريس في حياته إلا إذا اضطُرّ، لكنه من تواضعه لا يسميه تدريسًا، ولا يقول “إني أدرّس”، بل يقول: “نطالع الكتب مع الأصدقاء”. “طالع” هو وطلابه – الذين لا يسميهم “طلابي” بل يسميهم “أصدقائي” – كثيرًا من أهم كتب التفسير، والحديث، والفقه وأصوله، والتصوف، والبلاغة، والمنطق، والصرف والنحو إلى غير ذلك من كتب العلوم الشرعية، فمثلًا طالعوا في شهر رمضان عشر مجلدات من “كنز العمال” للمتقي الهندي من أصل ستة عشر مجلدًا، وفيه أكثر من 46.000 حديثًا، وأكملوا ما بقي بعد شهر رمضان.
– ذوّاقة أنيق، حسن المظهر؛ كل ما يرتديه يكون لائقًا عليه، لم يكن وهو طالب يلبس بنطالًا دون كيّ، فإن لم يجد مكواة، وضعه تحت فراشه ونام عليه، لا يرى علاقة بين ترك الأناقة والورع، لا ترى في وجهه ما تعافه العين، مِشيته متميزة، يمشي شامخ الرأس، واسع الخُطا؛ كان قبل مرض القلب يصعد الدَرج مثنى وثلاث، يقول: لم أكن أتحمل صعوده درجة درجة قبل أن يشتد بي المرض، فهو مفعم بالحيوية والنشاط خاصة عند حلّ المشكلات.
– يكفيه قليل الطعام، ولما ألزمه طبيب السكّر بتناول وجبة أخرى، لم يكن يأكل سوى لقيمات، كان يتناول أصنافًا من الأدوية منذ شبابه كما ذكَر هو ومعارفه، دعا في شبابه فقال: “اللهم خذ مني وأنزِل بي ما يشغل جسدي عن حمّى الشهوات في ريعان الشباب”، وحذّرَه عالم فاضل من هذا الدعاء، لكن كأنّه رأى دواءَه في دائه؛ وربما لم يبق مرض إلا زاره فترة ثم رحل ليأتي غيره؛ فقاسى في شبابه قرابة خمسة عشر عامًا من أمراض منهكة في جسده كله حتى وجهه ويديه ورجليه؛ وأصيب في الجيش بتضخم في الكبد أفرزه مرض الصفراء، وأصيب بعسر الهضم الذي عانى منه طويلًا، ثم أصيبت قدمه اليمنى بآلام مبرِّحة لا تحتمَل، يقول: “لم أكن أطيق الوقوف على قدمَيّ، ولا الجلوس أيضًا، فإذا توضأت ساعدني أصدقائي، وفي إزمير جاؤوني بطبيب عظام جِلْف ضقتُ به، كان يفحصني بقسوة حتى إنه آلمني وضايقني، وقال: حالتك تستدعي عملية ضروريّة، فقلت: “سيغنيني الله عنك، وإذا مرضت فهو يشفين”؛ فغضب وخرج؛ وذهبوا بي ذات مرّة إلى المستشفى، فلما فحصني الأطباء سمعتهم يتهامسون: “لا بد من قطع إحدى قدميه”، أخذتني رعشة، ثم فعلْتُ مثل فعل أبيكتاتوس[1] أي حدّثت نفسي قائلًا: “ما زلتَ تنعم يا فتح الله لقدمين حتى هذا اليوم، أي ربّ سأعبدك بعدئذ على قدم واحدة، فلك الحمد على كل حال!”؛ ولما عدتُ من المستشفى بدأت أمسح مواضع الألم بزيت الزيتون، وأصلي عند المسح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الالتزام بالوصفة الطبيّة، فشفاني الله عز وجل”.
واشتدّ به مرض السكر إثر انقلاب 12 سبتمبر/أيلول، وكذا القلب، ثم تضاعف المرض، فتورمت مفاصل أصابع يديه خاصةً اليمنى، فقاسى من استعمال يديه؛ إذ لم يكن يستطيع أن ينشر ويضمّ أصابعه جيِّدًا.
وكان يتصبب عرقًا في مرضه المزمن إذا ما فعل شيئًا ما كأن يصلّي رُكيعات ويرتِّب سريره، فإن أصيب بالزُّكام زاد الطّين بَلًّة، فكان يغيّر ملابسه مرارًا في الليل، ولا يستطيع أن ينام نصف ساعة من ساعتين ينامهما عادةً، وبينما يغرق أعلاه بالعرق، يرتعد ما سواه من البرد؛ يقول: “لم تدفأ قدماي قطّ رغم الغطاء والجورب والمدفأة”.
_ كان يخدم نفسه بنفسه، في الطهي والنظافة والضيافة، ولو في أيام مرضه، ومهارتُه في الطهي نتاج مساعدتِه لأمِّه، وعزلته وهو مدرس يافع في كستانه بزاري بأزمير، يقول: كنت أصنع من البطاطس عشرة أنواع.
– لا ينام من الليل إلا قليلًا خاصّة أيام عزلته، تشغله عن النوم غايته التي نذر لها حياته، وهموم الأمة والملَّة، ومشكلات بعض الناس، وتجاوزات حدود الشرع، وأمراضه المزمنة، فتحمُّله وصبرُه على هذا كلِّه محيِّرٌ للغاية.” (انتهى كلام السيد علي أُونال.)
تحلى منذ طفولته بخصائص تميزه، أعلاها الأخلاق الرفيعة، والذكاء الحادّ، وقوة الذاكرة، والشجاعة، والوفاء، والقلب المفعم بالحبّ؛ شديد المحاسبة لنفسه، فلو حدثت مشكلة في العالم عدّ هذا من ذنوبه؛ واسع الصدر، شغله الشاغل هموم الناس، يقول: “إذا شيك أحد بشوكة كان عليّ أن أقاسمَه الألم”؛ فلو مرّ بشجرة فاستروح عندها سيمُر بها في طريق عودته وفاءً لها، لا يلقي ورقة خطّ فيها قلمه وفاء لها، يقول في الوفاء: “هو وردةُ بستان الصداقة”؛ لا يقطِّب أبدًا في وجه أحد ولو غدر به مرارًا.
شخصيته الفعّالة وحياته القائمة على الكتاب والسنة جعلَت منه غريبًا في عصره، فيودّ لو أن هموم الإنسانية جمعاء حُمِلت على عاتقه.
هذه صور من حياة الأستاذ محمد فتح الله كولن، صور تكشف عن ريادة شخصيته في هذا العصر، ولَأَن تفقهَ أسرار رسالته أولى لك من معرفة سيرته. والآن نقدم لكم ما كتبه الأستاذ الدكتور “إبراهيم البَيُّومي غانم” بشكل إجمالي عن حياته الفكرية والنشاطية:
“فتح الله كولن أحد أشهر علماء الإسلام المصلحين ودعاته المعاصرين على مستوى العالم. احتلّ المرتبة الأولى في قائمة أهم مائة عالم في الاستطلاع الذي أجرته سنة 2008 مجلة “فورين بوليسي” -وهي مجلة أكاديمية أمريكية ذائعة الصيت- ومجلة “بروسبيكت” البريطانية المشهورة. وقد أنشأت له عدة جامعات في الولايات المتحدة، وإندونيسيا، وأستراليا، أقساماً خاصة باسمه (كرسي أكاديمي)، ومراكز علمية متخصصة، وانقعدتْ مؤتمرات وندوات دولية عديدة في جامعات عالمية لدراسة أطروحاته ونظرياته الدعوية والفلسفية والإصلاحية والتربوية.
بدأ الأستاذ فتح الله كولن نشاطه الدعوي والتربوي في عدة مدن بغرب تركيا بداية الستّينيات من القرن الماضي، وواظب على أداء رسالته بصبر وجدية منذ ذلك الحين إلى اليوم. حفظ القرآن الكريم وتعلّم العربية والفارسية على يد والده “رامز أفندي” في سنّ مبكرة، وتلقى عن علماء المنطقة التي نشأ فيها علوم الفقه والتفسير والحديث والنحو والبلاغة والأصول ومقارنة الأديان. وقرأ في مختلف مجالات العلم والمعرفة فيما بعد، ودرس أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وأمعن في قراءة منظّري الإصلاح في القرون الأخيرة، وتابع التيارات الإصلاحية التي ظهرت في شتى البلدان الإسلامية، واستوعب النظريات الغربية الفلسفية والاجتماعية والعلمية والسياسية والأدبية الحديثة.
أدرك فتح الله كولن في وقت مبكر أن المجتمع التركي، ومجتمعات العالم الإسلامي عامة تعاني من ثلاث علل كبرى هي: الجهل، والفقر، والتفرق. فنذر نفسه للدعوة إلى العلم والعمل لتفعيل مشروع تربوي متكامل، وحثِّ الأثرياء على التضامن الاجتماعي ومساعدة الفقراء والاستثمار في مجالي التربية والتعليم، واتخاذِ التواصل والحوار البنّاء سبيلاً لحل الخلافات المستشرية، وتأسيس ثقافة التعايش، ونشر السلام على كل المستويات المحلية والإقليمية والعالمية؛ وقد انتشرت أفكاره وأحلامه في كل الطبقات الاجتماعية، وكثر محبّوه في مختلف أنحاء العالم. وقد أكد دوما أن مكمن المشكلة هو الإنسان، وما لم نُعِد صياغة الإنسان صياغة صالحة فلن يتأتى لنا حل مشكلاتنا المستعصية، ومن ثم سعى طيلة حياته على أن يُخرج نموذج الإنسان المسلم المثالي المتمسك بجذوره الروحية، المنفتح على ثقافات العالم ومتطلبات العصر، الموفق بين العقل والقلب والسلوك، الواقف نفسه لخدمة الإنسانية كسْبا لمرضاة الله تعالى، إيمانا منه بأن هذه هي رسالة الإسلام الحقيقية والسبيل التي سار عليها كافة الأنبياء ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. لذا تميزت كافة المشاريع التي حث على إنجازها ببعدها الإنساني الشامل حيث حرصت على خدمة الإنسان من حيث هو إنسان، دون تمييز بين عرق أو لغة أو دين أو ثقافة.
ومن ثم فإلى جانب أعمال الإغاثة الإنسانية للمنكوبين وضحايا الحروب، فقد غطّت خدمات مؤسسات محبّيه القارات كلها، ولاسيما في مجال التربية والتعليم، حيث تميزت المدارس بالجودة العالية والتناغم بين معطيات العلوم والقيم الأخلاقية، مما جعلها تتبوأ المراتب الأولى وتحقق النجاح الباهر أينما فتحت في العالم، ويتنافس عليها النخبة والعامة ليسجلوا فيها أبناءهم.
فهناك المؤسسات التعليمية (حوالي أكثر من 1000 مدرسة خاصة، وعدد من الجامعات، ومئات المدن الجامعية، وبيوت الطلبة)، وهناك المؤسسات الإعلامية (صحف ـ ومجلات ـ ومحطات إذاعية ـ وفضائيات تبث بعدة لغات، وهي قنوات: ثقافية ـ إخبارية ـ اجتماعية ـ للأطفال)، إلى جانب مؤسسات العلاج والمشافي الصحّية، وعدد من أكبر دور النشر في تركيا وخارجها، وجمعيات ومنتديات لرجال الأعمال والتجار. وهناك عشرات المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت، تبثّ بـ 22 لغة، وتنشر مقالاته ومؤلفاته وأخباره (www.fgulen.com).(ar.fgulen.com)
وفي خطبه ومواعظه كان يخاطب عقول الناس وقلوبهم، ويذكّرهم بالماضي المجيد، والحاضر البئيس، ويرسم لهم صور المستقبل المشرق، ويبعث فيهم الأمل، ويغرس في قلوبهم الإيمان بالله، ويحبّب إليهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ويحثّهم على التأسّي به صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاّء، ويدعوهم إلى التّفاني والإيثار والعمل المجتمعي التربوي الحكيم بجدية وإخلاص وتفان وإتقان، ويلهب فيهم أنفاس العاطفة الرشيدة، ويستحثّ فيهم روح العمل والإنجاز لكي يقدموا -كمسلمين- إضافات نوعية لأمّتهم والحضارة الإنسانية كافة. كل ذلك وسط دموع ساخنة يذرفها في كافة دروسه ومواعظه، فيَبكي ويُبكي… فكان الواعظَ البكّاء، وكان محبوه من البكاّئين كذلك، وكان البكاء ماء الحياة الذي يجري سلسبيلا في كافة الأعمال والخدمات.
لقد جاب فتح الله كولن كافة أراضي تركيا، متنقلا بين مدنها وقراها، والتقى الناس على كافة المستويات، ولم يفتأ يتحدث عن هموم الأمة والإنسانية، ويطرح لها حلولا، وينشر ثقافة إنتاج الحلّ بدلا من النقد والتشكي، ويحث أصحاب الحمية والهمة على الاضطلاع بمسؤولياتهم الضخمة التي تنتظرهم، ويدعو إلى العمل الإيجابي دون كلل أو ملل، والإيمانِ العميق الرباني، والخدمةِ الهادئة الحكيمة، ونِشْدانِ معية رب العباد من خلال التواجد الفعال وسط العباد، والحركية الدؤوبة في كل مجالات الحياة، والصبرِ والمصابرة على بناء مشاريع طويلة النَّفَس، وتجنّبِ استنفاد الطاقات في نقاش وصراع وصدام لا طائل من ورائه، والسعي الحثيث لامتلاك القلوب دون تمييز، والحرص على زرع الإيمان في النفوس ليفعل الإيمان فعله الإصلاحي الإنشائي العميق. وقد أكد دائما أن مسؤولية المسلم مسؤولية كونية، وأن صلاح العالم بصلاح الفرد، وأن التغيير يبدأ من الإنسان، وأنك إذا نجحتَ في تغيير الإنسان فقد غيرتَ الدنيا كلها، وإذا استطعت أن تصنع الإنسان فقد صنعت الحياة والحضارة برمتها وحققت العمران.
فانطلاقا من هذا الإطار الفكري والعملي، ألقى الأستاذ فتح الله كولن آلاف المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية والفلسفية والفكرية في المنتديات العامة، وعقد آلافا من اللقاءات وحلقات الدرس الخاصة التي أجاب فيها على الأسئلة الحائرة التي كانت تجول في أذهان الناس، وتؤرق الشباب خاصة، ولا يعرفون لها أي جواب؛ وكانت حيرتهم تلقي بهم في مهالك الشبهة والإلحاد؛ ومنها الأسئلة المتعلقة بنظرية دَارْوِين، وحقيقة الروح، والقضاء والقدر إلخ… وكانت أجوبته على مثل هذه الأسئلة بلسماً شافياً لعقول الشباب وقلوبهم وجمهور الناس، مما جعلهم يحبونه ويلتفّون حوله ويطلبون إرشاداته؛ فكان يستثمر هذه المحبة وذلك الإقبال في حثّ أصحاب الحمية على إنشاء مؤسسات تربوية تعليمية… إذ كان يرى أن السبيل الأوحد والأنجع لصناعة إنساننا من جديد، وإصلاح مجتمعاتنا، وتأهيلها للقيام بدورها التاريخي المنشود على مستوى العالم، إنما يمر عبر تكثيف الجهود في مجال التربية والتعليم، أي مجال صناعة الرجال؛ وإذا استطعنا أن نكوّن نماذجنا البشرية والمؤسساتية الحية على أرض الواقع لتراها العيون وتعايشها الأرواح، فسوف تنبعث الثقة في النفوس، والاطمئنان في القلوب، والراحة في العقول. وكان يقول باكيا: “إن العالم في أمسّ الحاجة إلى الإسلام اليوم، والإسلام في أمس الحاجة إلى من يمثّله بحقّ”، مضيفا “الآذان شبعتْ، والعيون جائعة” في إشارة إلى أن الوقت وقت العمل. كل هذه الأفكار، والعمل الدؤوب المخلص، جعل الأستاذ فتح الله كولن يفوز بقلوب كثيرين من أبناء تركيا، ويحتلّ مكانة الثقة لدى المجتمع التركي بكافة طبقاته.
لقد أتاحت للأستاذ فتح الله كولن ثقافته الواسعة، وتبحره في علوم الدين وعلوم العصر، أن يخاطب مختلف الشرائح الاجتماعية في تركيا، بما في ذلك المثقفون وأصحاب التيارات الفكرية الحداثية والليبرالية والقومية؛ وقد استجاب كثيرون منهم لندائه، ودخلوا في حوارات ومراجعات من أجل تصويب آرائهم وتصحيح مساراتهم السابقة. وفي هذا المضمار حثّ في بداية التسعينيات على إنشاء مؤسسة عالمية لغرض التحاور والتفاهم والاحترام المتبادل بين أصحاب تلك التيارات والأفكار المتباينة، لتقريب وجهات النظر، وتجنيب البلاد شر التفرق والعنف والفتنة؛ فتحقق هذا المشروع بالفعل، وانبثقت عنه منتديات للحوار البيني والعالمي، وانقعدت مؤتمرات عالمية مهمة، مما شكل منعطفا تاريخيا في تأسيس السلام والتعايش بين الأطياف المتناقضة، في زمن عملت فيه بعض الأوساط على تفتيت المجتمع التركي استغلالا للخلافات الفكرية والطائفية والثقافية والدينية.
اهتم الأستاذ فتح الله كولن بفكرة الحوار والتواصل والتفاهم بين التيارات الفكرية المختلفة على المستوى المحلي داخل تركيا، وعلى المستوى الإقليمي والدولي بين أتباع الديانات وأبناء الحضارات والثقافات المتعددة، ودعا إلى نهج التعارف والاحترام المتبادل والتسامح والتعايش، ونبذ التعصب وإدانة العنف. وعُرف في تركيا وفي العالم بـ”داعية الحوار والتسامح والتوافق”، ولقيت دعوته هذه صدى إيجابياً واسعا في تركيا وخارجها، ووصلت إلى ذروتها في الاجتماع الذي تم عقده في الفاتيكان مع البابا.
يرى فتح الله كولن أن العالم أصبح -بعد تقدم وسائل الاتصالات- قرية صغيرة؛ ولهذا فإن أي حركة قائمة على الخصومة والعداء لن تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، وأنه يجب الانفتاح على الإنسانية بأسرها، وإبلاغ العالم كله بأن الإسلام دِين الرحمة، ويدعو إلى الأخوّة بين بني البشر، وأن المسلم لا يمكن أن يكون إرهابيا وأن الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلما. وقد ذكر مرارا وتكرارا أن هناك مجالات واسعة للتعاون والتعاضد بين المسلمين وبين أبناء الأديان والثقافات الأخرى لتأسيس سلام واستقرار على مستوى العالم.
للأستاذ فتح الله كولن أكثر من خمسة وستين كتابا تناول فيها القضايا الكبرى في الفكر الإسلامي ومشكلات العصر. بعض كتبه مترجم من التركية إلى 50 لغة أخرى منها: العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والإسبانية وغيرها من اللغات الحية. وله آلاف الخطب والمحاضرات والمواعظ المسجّلة، إضافة إلى مئات المقالات المنشورة في المجلات والصحف داخل تركيا وخارجها، وله ديوان شعر بعنوان “ريشة العزف المكسورة”.”
[1] أبيكتاتوس Epiktetosأحد فلاسفة الرومان.