تعيش تركيا في الوقت الراهن أسوأ عهودها قمعًا لحرية الصحافة والإعلام وإسكات أي طرف يحاول أن يبدي رأيه من قريب أو بعيد في الأوضاع السياسية القائمة في البلاد، ولا يزال سعي الحكومة التركية كذلك لمحاصرة دور النشر وشركات التوزيع، وإغلاقها بحجج واهية.
أردوغان يدعم المتطرفين
تقف الحكومة التركية في موقف الداعم لدور النشر والمكتبات التي تبيع الكتب “الجهادية”، محاولة بذلك تسويق روايات القاعدة وداعش وأيديولوجياتهما، وتزيل أية عوائق فعلية يمكن أن تتعرض لها دور النشر هذه. بينما في الوقت نفسه تستهدف الحملة الحكومية التي ينفذها أردوغان دور النشر التي تقدم إجابات شافية ضد الأيديولوجيات المتطرفة للجماعات الجهادية. ويعد حصار وإغلاق شركة قيناق القابضة -أي الشركة المالكة لأكبر دار نشر وتقوم بطباعة وتوزيع كتب تكافح التطرف- هو أحد الأمثلة التي تشرح الدوافع الحقيقية وراء سياسة أردوغان المعادية لدور النشر تلك.
أردوغان يستهدف شركة قيناق
قامت الحكومة التركية بمحاصرة نشاطات قيناق في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وأغلقتها بالكامل في يوليو/تموز 2016، بما فيها شركة النشر العريقة إيشيك ياينشيليك، التي تمتلك وحدها 8 دور نشر في مجموعتها. نشرت هذه الشركة 2972 كتابًا للبيع في السوق، بعد أن تعاقدت مع 714 مؤلفًا. تنشر هذه الدار أعمالًا أدبية مثل الروايات والشعر والسير الذاتية وكتب السفر وكتب اليافعين والشباب. كما تنشر إيشيك كتبًا بلغات مختلفة من بينها الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية والعربية، إذ وصل عدد الكتب المنشورة بلغات أخرى غير تركية في هذه الدار لوحدها 893 كتابًا في السوق.
الفيديو من إنتاج موقع كيوبوست
وصلت مبيعات إيشيك في نوفمبر/تشرين الثاني إلى 58 مليون ليرة تركية (21.5 مليون دولار)، أما عائداتها في عام 2014 فبلغت 81.4 مليون ليرة (60.6 مليون دولار)، وهي الفترة التي بدأت الحكومة فيها التضييق على الشركة. كان من المفترض أن تدير الحكومة الشركة حتى انتهاء التحقيقات بدون أي تغيير في أنشطة الشركة، لكن ما حدث كان العكس؛ إذ انخفضت العائدات مع إدارة الحكومة لها بنسبة 80.2% عام 2016، إلى 6.2 مليون ليرة، بعد أن كانت 31.3 مليون ليرة خلال الفترة نفسها من السنة السابقة.
عندما أغلقت إيشيك، فقد 228 شخصًا وظائفهم، بما فيهم أولئك الموهوبين الذين كانوا يعملون فيها. ولا بد من التذكير بأن ما حدث مع إيشيك هو مثال على ما حدث مع 41 شركة نشر وتوزيع أغلقت تعسفيًّا في ظل حالة الطوارئ التي أدت إلى تدمير جميع وسائل الإعلام ودور النشر والمدارس والجمعيات والمؤسسات.
كولن كلمة السر
لعل كلمة السر فيما أقدمت عليه الحكومة التركية من سياسات إسكات دار النشر إيشك هو قيامها بتوزيع مجموعة من الكتب التي ألفها الأستاذ فتح الله كولن، مما جعلها هدفًا أساسيًا للحكومة التركية، لأن الأخيرة لا تريد أن ينشر أي شيء من شأنه أن يتبنى فلسفة أخرى غير فلسفة أردوغان. وتنشر الدار مجموعة من المجلات الشهرية ونصف الشهرية والربعية بمجموع 662 ألف طبعة حتى عام 2015. وكان أول هجوم للحكومة التركية على الدار استهدف المجلات التي تنشرها، بما فيها غير الناطقة بالتركية.
الموزع الرئيس لإيشيك هو سلسلة مكتبات “أن تي”، التي تحوز على 69% من محموع مبيعات الشركة في أنحاء تركيا. وقد شملت الحملة الحكومية متاجر هذه المكتبة في أنحاء البلاد، ما يعني أن أردوغان لم يستهدف دور النشر فحسب، وإنما تعمد أيضًا خنق شبكة واسعة من المكتبات وشركات التوزيع، بما فيها الشركة المسؤولة عن توزيع صحيفة زمان التي تقدر مبيعاتها بـ1.2 مليون نسخة يوميًا.
ملاحقة الكتب وإحراقها
لم تكن تلك الإجراءات آنفة الذكر كافية لإخماد نار الحرب التي تشنها الحكومة التركية على دور النشر؛ إذ واصلت سياستها القمعية هذه المرة على ما يمكن أن يكون في المستقبل تراثًا فكريًّا يُسهم في البناء الفكري للجيل المعاصر والأجيال اللاحقة، فأصدرت وزارة الثقافة أوامر بملاحقة الكتب المنشورة وإحراقها، ووزعت تلك الأوامر إلى 1130 مكتبة في البلاد مطالبة إياها بسحب كل الكتب المنشورة بواسطة دور النشر المغلقة وإنزالها من الرفوف.
كما قامت الحكومة التركية خلال عام 2017، بسحب 169141 كتابًا جرى طباعتها في دور النشر التي أغلقت، بما في ذلك سحبها من المواقع الإلكترونية والأرشيفات الرقمية للمكتبات؛ إذ سعت الحكومة إلى محو كل ما يمكن أن يؤدي إلى تلك الكتب، أو كل ما يمكن أن يشير إلى أن هذه الكتب موجودة أساسًا. علاوة على ذلك، استهدفت الحكومة المؤلفين الأفراد؛ فعلى سبيل المثال، أصدر قاضٍ جزائي في إسطنبول أوامر بمنع نشر 692 كتابًا وعملًا لكولن، وأمر بجمعها وسحبها من المكتبات.
بطالة واتهامات بالإرهاب
بعدما تم محاصرة ممتلكات دور النشر من قِبل حكومة أردوغان، آل مصير العاملين في تلك الدور إلى أن يكونوا عاطلين عن العمل بحجة أن تلك الأعمال لا ترضي حكام تركيا. إضافة إلى ذلك، جرى محاكمة الكثير من العاملين في دور النشر بتهم تتعلق بالإرهاب، وسجنت الكثيرين منهم. على سبيل المثال، أصدر المدعي العام في إسطنبول أوامر اعتقال بحق 60 موظفًا في إيشيك في 7 مارس/آذار 2018، وجرى اعتقال 41 منهم. وفي الجولة الثانية من الحملة، في 23 مارس/آذار، صدرت أوامر باعتقال 55 موظفًا آخرين في إيشيك. كان الهدف من حملات الاعتقال الواسعة هو تغذية الخوف من السجن، وإرسال رسالة واضحة بأن الاعتقال سيطول كل العاملين في دور النشر مهما كانت رتبهم.
ولم تقف الحملة عند حد إغلاق دور النشر، وإنما وصلت إلى اجتياح مباني الشركات؛ فعلى سبيل المثال، هاجمت الشركة مقر دار النشر المسماة “بيلج” في إسطنبول، في مايو/أيار 2017، وصادرت ما مجموعه 2170 كتابًا. وفي سبتمبر/أيلول 2017، سحبت وزارة التعليم آلاف الكتب المنهجية لطلبة الصف السابع لاحتوائها على فصل يتحدث عن حرية الصحافة وتأثير الإعلام في المجتمع، خصوصًا أن الكتب تضمنت مناقشة بسيطة لوضع الإعلام في تركيا. وتقدر تكاليف عملية تدمير الكتب بقرابة 50 مليون ليرة (16 مليون دولار) في عام 2016 لوحده، إذ جرى تدمير كتب تزن 13 ألف طن.
الخوف من “بنسلفانيا” و “درب التبانة”
وصلت ذروة الحملة العدائية التي نفذتها تركيا ضد الكتب في ديسمبر/كانون الأول 2016، حيث دمرت وزارة التعليم التركية 892 ألف كتاب مدرسي يحتوي كلمة “بنسلفانيا” على أساس أنها تروج للدعاية الإرهابية. وكانت الحجة أن فتح الله كولن يعيش في بنسلفانيا الأمريكية، رغم أن الكلمة وردت في بعض الكتب ضمن سياقات أخرى؛ كان أحدها حديثًا عن المؤلف الأمريكي جيمس ميشنر، الذي ذكر الكتاب المدرسي أن مكان ميلاده هو بنسلفانيا!
وفي أكتوبر/تشرين الأول، اقترحت وزارة التعليم إزالة مصطلح “درب التبانة” من المناهج الدراسية كافة، بحجة إزلة التشابه بين المعلومات العلمية وشبكة المدارس التي ترتبط بكولن. وتحمل مجموعة من المدارس العلمية في تركيا اسم “سامانيولو”، التي تترجم من التركية إلى الإنجليزية بمصطلح “درب التبانة”، قبل أن يجري إغلاق هذه المدارس في 2016. وفي حادثة أخرى، منعت الحكومة كتبًا لمادة الرياضات لأنها تحتوي على أسئلة تتضمن الأحرف الأولى من اسم فتح الله كولن، إذ اشتملت على أسئلة شملت عبارة “من النقطة فاء حتى النقطة غين”، ما اعتبرته الحكومة إشارة غير مباشرة إلى كولن!
ولا يعتبر هذا الأمر مضحكًا؛ لأنه في حال القبض عليك وبحوزتك أحد هذه الكتب، فسوف تتهم بالإرهاب! ويعد امتلاك الكتاب دليلًا في المحاكم التركية على ارتكاب جريمة قد تصل عقوبتها إلى السجن لفترات طويلة، وقد ظهر ذلك أكثر من مرة في صور بثها التلفزيون الحكومي للكتب التي جرى العثور عليها في منازل المعارضين ومكاتبهم.