كانت المدرسة حاضرة في كل مراحل تكوين الخدمة. وهنا لا نقصد المدرسة بمفهومها المادي، ولكن نقصد المدرسة بمفهومها العام والمعنوي. فالمدرسة بمفهومها المعنوي أو المؤسسي ظلت هي الإطار القوي الذي تتمحور حوله الخدمة. فقد نتصور تخلي الخدمة بصفة عامة عن مؤسساتها أو أن تترك بعض المجالات، لكنها حتمًا لن تترك مؤسسة المدرسة. فهي حاضرة بصورة مباشرة وغير مباشرة في كل محطات الخدمة.
المدرسة والعمق المعنوي والمعرفي للإنسان
وعلينا التمييز في هذا الإطار بين ما تقدمه مؤسسة المدرسة من معطيات أخلاقية وقيم، وبين ما تقدمه من معطيات علمية ومعلومات وأفكار. فقد يكون المستوى الثاني -القائم على المعلومات والمعارف والكفاءات التي تؤهل المتعلم للقيام بدوره داخل المجتمع في حدود الجوانب العملية-قويًّا وضروريًّا، لكن هذا الجانب المعرفي والمعلوماتي إنما هو مجرد مجال تقني يحتاج إلى عنصر أهم مرتبط بعمق الإنسان الذي يحمل هذه المعطيات، وهذا هو ما تقوم به المدرسة في المستوى الأول، أي إنها تعد الجانب الروحي والمعنوي في هذا الإنسان، وتعد الأرض التي ستنبت فيها المعلومة والفكرة لكي تثمر جنات وارفة الظلال، وتلد انبعاثًا ونهضة.
الإسلام الذي يعتقد كولن أنه يستطيع القيام بمهمة الانبعاث هو “الإسلام” في صفائه الأول كما تلقّاه الرسول عن ربّه عز وجل، وكما بلّغه إلى صحابته الكرام. ولذلك لم يوظِّف قيم الإسلام توظيفًا أيديولوجيًّا.
المدرسة ودورها في البناء الحركي
والمتأمل في حياة فتح الله كولن، وفي تاريخ الخدمة بصفة عامة سيلمس أنه في عمقه تاريخ مسلك مدرسي بالمعنى الأول، ومؤسسة المدرسة حاضرة في كل شيء. ألم يكن مسجد الشرفات الثلاث مدرسة حاسمة في حياة الأستاذ، وفي الثكنة العسكرية وأثناء التجنيد، وفي السجن؟! ألم تكن مرحلة الإشراف على مدرسة “كَسْتَانَة بَازَارِي” مرحلة مدرسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟! ألم يكن الأستاذ فتح الله يرضى بالقليل وينفق راتبه على طلبته؟! ألم تكن المخيمات مدرسة؟!
لقد كانت مؤسسة المدرسة حاضرة في جميع مراحل البناء الحركي للخدمة. وقد تبدو بيوت الطلبة والمبيتات والمخيمات، والسكن الداخلي، ومجالس الصحبة ومحاضن التربية التي طوّرها الأستاذ أوجهًا مختلفة ومتنوعة للمدرسة.. فالمدارسة في عرف الخدمة بسيطة في صورها وأشكالها، لكنها دقيقة في أبعادها وفي منهجها؛ فهي تدين لرؤية الأستاذ وحركيته بالشيء الكثير، فقد طور منهجًا بنفسه وغذّاه بروحه وعاش جميع تفاصيل نجاحه وفشله، بل عاش بنفسه أهم مراحله مطاردته عندما كانت السلطة الحاكمة ترى في بيوت الطلبة وفي المنامات والداخليات خطرًا يهدد مستقبل البلد.
في هذه المؤسسة يترقى المربَّى -وليس المتعلم-روحيًّا، ويُربَّى على القيم والأخلاق، وتجعل منه القدوة الحسنة صورة نموذجية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المتحمل لمسؤولية كبرى، وهي مسؤولية إعداد الأجيال القادمة في المدرسة بالمفهوم العام.
ركّز كولن في منهجه التربوي على دفع الناس إلى إعادة اكتشاف هويتهم في أعماقهم وبعثها من كمونها وإحيائها من جديد.
فلسفة مدرسة “الزهراء”
استفاد الأستاذ فتح الله كولن من ملاحظات الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي وقف على الاختلالات الخطيرة التي ميّزت المدرسة من شكلها التقليدي، وفي شكلها الأوربي الحداثي الوضعي، حيث لاحظ بأن المدرسة التقليدية عاجزة بما تقدمه عن أن تكون مدرسة للعصر، وأما المدرسة الحديثة بسبب إغراقها في الوضعية وحصر نظرها في المعرفة المقطوعة عن النظرة الدينية لم تكن قادرة على أن تقدم النموذج القادر على البناء والتشييد. ولذلك فقد عاش بديع الزمان ردحًا من الزمن على أمل أن يُقنع من يستطيع إنشاء مدرسة أطلق عليها اسم “مدرسة الزهراء” حيث تجمع بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية لكي تكون دليلاً على أن لا تَعارُض بينهما بل يكمّلان بعضهما البعض. ولمّا يئس من ذلك وأمام ضغط الواقع وأحداثه قرّر التضحية بحياته وسعادته الخاصة. واعتزل العيش في وسط المجتمع يهيّئ أرضية لمن يتواصل معه روحيًّا ويحوّل أفكاره إلى منجز حقيقي. وأظن أن الأستاذ فتح الله كولن كان هو العقلية الفذة التي كان النورسي يحلم بأن تسير برؤيته الإصلاحية وتجعل منها قاعدة لتوسيع دائرة الفكر الإصلاحي. لقد مكّنته كتابات النورسي من أن يسلك مسلكا معرفيا وحركيا ذي توجهات متعددة، وليس طريقا أحادي الاتجاه.
في المدرسة يترقى المربَّى -وليس المتعلم-روحيًّا، ويُربَّى على القيم والأخلاق، وتجعل منه القدوة الحسنة صورة نموذجية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المتحمل لمسؤولية كبرى.
المدرسة في رؤية كولن
إن المدرسة وفق المنظور الذي يؤمن به الأستاذ فتح الله الذي سيصنع الخدمة تحتاج إلى بنية تحتية، وهذه البنية التحتية تقوم على الإنسان. لقد ركّز الأستاذ فتح الله في منهجه التربوي على دفع الناس إلى إعادة اكتشاف هويتهم في أعماقهم وبعثها من كمونها وإحيائها من جديد. بعبارة أخرى لقد ركّز على دفع الناس إلى اكتشاف ذواتهم من خلال الإسلام ومن إعادة بعث إشراقات الدولة العثمانية.
كولن والخصوصية التاريخية
لقد عمل الأستاذ على بعث إسلام نابع من الخصوصية التاريخية لتركيا باستحضار روح التقاليد الإسلامية في الدولة العثمانية ومزجها بمفهوم الوطنية التي أعاد شرحها بالقول إنها ليست استحضارا لجانب الدم والجنس، بل باستحضار تاريخ البذل والعطاء والتكافل والتسامح والعيش جنبًا إلى جنب.
لقد كان الأستاذ فتح الله كولن قبل البدء بتنفيذ مشروعه أو حلمه البعثي في حاجة إلى ماض صلب يكون الإسلام أصلا فيه وأصلا له. كانت عودته إلى التاريخ العثماني بمختلف تجلياته الروحية والمادية، وخاصة روح الفتوة والدروشة. لقد آمن فتح الله بضرورة بعث تلك الروح المتسامحة والمتعاونة التي كانت تعم كل الفئات التي تعيش تحت سلطة الدولة العثمانية. وأما الإسلام الذي يعتقد الأستاذ فتح الله كولن أنه يستطيع القيام بهذه المهمة السامية فهو “الإسلام” في صفائه الأول كما تلقّاه الرسول عن ربّه عز وجل، وكما بلّغه إلى صحابته الكرام. ولذلك لم يوظف قيم الإسلام توظيفا أيديولوجيا.
المدرسة بمفهومها المعنوي أو المؤسسي ظلت هي الإطار القوي الذي تتمحور حوله الخدمة.
وظيفة بيوت الطلبة
لقد كانت بيوت الطلبة والمنامات والصحبة والأقسام الداخلية هي الوسائل الموظفة من أجل غرس قيم البذل والعطاء والتضحية والتفاني والفتوة وتحمل المسؤولية، ولم تكن الأبعاد الأيديولوجية التي كانت حركات أخرى في المرحلة نفسها تحاول غرسها في بعض الأوساط. لقد عمل الأستاذ على غرس هذه القيم باعتبارها قيما تقدم خدمة، وهذا من أجل التمهيد للثورة التربوية الكبرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: محمد جكيب، شواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2013م، صـ294/ 295/ 296.
ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.