أول ما يلفت انتباه المثقف العربي هو اكتشاف مفكر وعالم ومثقف ومصلح مختلف عن طينة دعاة الإصلاح في العالم العربي. وأهم ما يقف عليه في شخصية الأستاذ فتح الله كولن هو البعد الحركي في مشروعٍ إصلاحي اجتماعي متكاملٍ انخرط فيه جزء مهم من المجتمع.
الانتباه لمعقولية الأفكار
انتبه المثقف العربي إلى تلك المؤسسات التربوية والثقافية والفكرية والإعلامية والاقتصادية ذات الوجه الحضاري المشرق، وانتبه إلى كون الأستاذ مجرد مفكر اقتنع الناس بمعقولية أفكاره فآمنوا بها وبمعقوليتها، وانطلقوا يحوّلون الأفكار إلى مؤسسات أبعادها حضارية وإشعاعها عالمي. ومرد ذلك هو ربط الأستاذ في مشروعه الإصلاحي بين الفكر والحركية بالحرص على إقناع مكونات المجتمع بأن الفكر في حد ذاته ليس له قيمة إن ظل حبيس الأذهان والكتب والرفوف دون أن يتحول إلى حركية مبدعة تشهد عليه مؤسسات تعود بالنفع على جميع مكونات المجتمع وعلى مؤسساته.
استطاع المثقف العربي باكتشافه فكر كولن التحرر من نمطية فكرية يائسة، واستعاد الثقة في كون عقل الذات الإبداعي يستطيع الانبعاث من جديد إذا ارتبط بالسنن الكونية.
إعلاء قيمة الوطن
اشتغل الأستاذ فتح الله طيلة حياته على غرس قيمة حب الوطن في قلوب أفراد المجتمع التركي، وحب الإنسان باعتباره أحد مخلوقاته تعالى، دون أن يكون لهذا الأمر أي ارتباط بالسياسة، لأن الأستاذ مقاطع عمليا للسياسية، ويؤمن بأن الأسلوب الذي تُدَبَّر به السياسة يفرِّق الناس شيعا وفرقا متناحرة، في الوقت الذي يؤمن هو بما يوحد ويجمع. ودليل ذلك هو حملة الحوار التي دعا إليها في بداية السبعينات من القرن الماضي مختلفَ الفرقاء والتيارات الفكرية والسياسية لفتح مجال للحوار والنقاش والالتقاء حول الحيز المشترك الذي يوحد في العمق بين مختلف مكونات المجتمع وهو حب تركيا.
يؤمن كولن بأن الأسلوب الذي تُدَبَّر به السياسة يفرِّق الناس شيعا وفرقا متناحرة، في الوقت الذي يؤمن هو بما يوحد ويجمع.
صدمة الاكتشاف
رَسَخ في “لاشعور” الإنسان العربي إحساس عميق باليأس من قدرة الذات على تحقيق ما تصبو إليه من بعث ونهضة، ووصْل الماضي بالحاضر، والانطلاق إلى المستقبل. وظلّت الكثير من أدبيات الإصلاح لا تتجاوز إطار النظرية على مدى مائة وخمسين سنة أو أكثر، ولم تستطع أغلب المشاريع تنزيل أفكارها إلى الواقع، ولم تربط الفكر بالحركية، بل لقد ظل المثقف الإصلاحي حبيس سلوك سَلْخِ ذاتِه وتحميلها مسؤولية أزمة حضارية مستمرة، فأفقد الإنسانَ العربي الأملَ في المستقبل. ولذلك فإن أفقا مختلفا فُتح أمام المثقف العربي بتعرفه على فكر الأستاذ فتح الله كولن وعلى “الخدمة” التي جعلته يلامس فكرا متقدما يراعي خصوصية الذات وهويتها الفكرية والثقافية، ويأخذ كينونتها بعين الاعتبار في مجالات مدنية مختلفة تساهم بفعالية في الحياة الثقافية والاجتماعية، والاقتصادية لتركيا. ولم تستأثر بنجاحاتها فخرجت إلى العالم ترفع شعار محبة الإنسانية بغض النظر عن الدين والعرق والجنس، شعارها في ذلك من أجل عالم يسوده التسامح والسلام.
اشتغل الأستاذ كولن طيلة حياته على غرس قيمة حب الوطن في قلوب أفراد المجتمع التركي، وحب الإنسان باعتباره أحد مخلوقاته تعالى، دون أن يكون لهذا الأمر أي ارتباط بالسياسة.
المجتمعات العربية لم تقدم للإنسانية شيئا يذكر منذ ما يزيد عن ثلاثة قرون خلت، هذا هو شعور المثقف العربي. لكن معرفة الخدمة ومؤسساتها المدنية بدّد بعضا من هذا الإحساس، بعد أن أصيب بصدمة معرفية يمكن أن نطلق عليها “صدمة الاكتشاف” التي تلخص إحساس اكتشاف الخدمة، هذا ما توحي به أغلب -إن لم نقل كل-المقالات والأعمدة التي حررها هؤلاء المثقفون الذين رغم انتمائهم إلى اتجاهات فكرية وثقافية كثيرة، يتّفقون على الحكم نفسه، وهو اكتشاف صورة حضارية هي في الحقيقة منجز سلطة معرفية إصلاحية للأستاذ فتح الله كولن.
ظل المثقف الإصلاحي حبيس سلوك سَلْخِ ذاتِه وتحميلها مسؤولية أزمة حضارية مستمرة، فأفقد الإنسانَ العربي الأملَ في المستقبل.
إن النتيجة المباشرة لهذه الصدمة هي خلخلة العديد من الأفكار النمطية التي قيدت ذهنية المثقف العربي وفكره لقرنين أو أكثر. لقد استطاع التحرر من نمطية فكرية يائسة، واستعاد الثقة في كون عقل الذات الإبداعي يستطيع الانبعاث من جديد إذا ارتبط بالسنن الكونية. فتبديد اليأس وبناء الثقة في المستقبل وزرع الأمل أهم ما يخرج به المثقف العربي من تجربة الاكتشاف، لأن الثقة في الذات وفي قدرتها على الفعل والحركة عناصر أساسية في منهج الأستاذ فتح الله كولن الإصلاحي وفي رؤيته للوجود. فهو يؤمن بأن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن الإنسانية المؤمنة، لأنها ستحمل الدواء للإنسانية كلها، ويعتقد كذلك أن إنسان المجتمعات المسلمة -وخاصة الفتيّة منها- سيكون في القابل القريب صاحب القول الفصل في الألفية الثالثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث قراءات في مشروع الأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2013م، صـ335/ 336/ 337/ 338.
ملاحظة: عنوان المقال، والعنوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.