بعد مرور ثلاث سنوات على الانقلاب الفاشل الذي وقع في منتصف يوليو 2016، والذي سيتمّ إحياء ذكراه اليوم الاثنين، ما يزال كثيرون في تركيا يعانون من آثاره الكارثية بحقّهم، بعد تعرّضهم لحملات التطهير الممنهجة التي شنّتها حكومة العدالة والتنمية، وأحدثت شروخًا اجتماعية جرّاءها، حيث قسّمت المجتمع التركي بين موالٍ للحكومة ومتّهم بموالاة الانقلابيين الذين يصنّفون في خانة أعداء الدولة..
فَتَحْت غطاء مسرحية الانقلاب، أطلق أردوغان يد القضاة وأعضاء النيابة العامة، الموالين له، لحبس واعتقال الكثيرين من أبناء الشعب التركي، وأغلق آلافًا من المدارس والجامعات وبيوت الطلاب والمكتبات والعديد من المشافي والمؤسسات الصحفية والتلفزيونية والجمعيات الخيرية، كما أفسد الاقتصاد بإغلاقه بنك أسيا وملاحقته لرجال الأعمال الذين لم يجدوا بُدًّا إلا الفرار خارج البلاد خوفًا من بطش أردوغان، كما عمل على إصدار العديد من القوانين التي سعى من خلالها لفرض نظام حكم الرجل الفرد والتخلص من المعارضين، مستتراً في البداية بحالة الطوارئ التي فرضها عقب المسرحية المرتَّب لها مسبقًا.
أرقام وإحصاءات
لقد قامت الشرطة التركية خلال السنوات الثلاث الماضية باعتقال الآلاف من الأبرياء.
عبد الحميد غل وزير العدل التركي، اعترف بداية العام الجاري، بارتفاع عدد المعتقلين على خلفية الضلوع في المحاولة الانقلابية، إلى 31 ألفا و88 شخصاً، وكان سليمان صويلو وزير الداخلية أعلن في ديسمبر الماضي، أن عدد المعتقلين في عام 2018 بلغ 750 ألفاً و239 شخصاً، بينهم أكثر من 52 ألفًا فقط بشبهة الانتماء إلى حركة الخدمة التابعة للمفكر التركي فتح الله كولن.
ممثلو أردوغان وسفراؤه في الخارج، لم ينجوا من الاضطهاد كذلك، حيث أقالت الحكومة ما لا يقل عن 550 دبلوماسيًا من وظائفهم، طوال الثلاث سنوات الماضية، حسب موقع “تركي بيورج“.
جمعية حرية التعبير عن الرأي، أعدت تقريراً عن المواقع الإلكترونية والصحف ومدونات التواصل الاجتماعي التي حظرتها السلطات التركية منذ بداية عام 2018 حتى الآن، تضمن أرقاماً مفزعة تكشف عن حجم ما وصلت إليه تركيا من تدهور غير مسبوق في الحريات، وتحوّلها إلى سجن كبير للصحافيين، وفق تعبير مؤشر حرية الصحافة الأخير، الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود الدولية.
التقرير المنشور في يوليو 2018، كشف قيام الحكومة التركية بحظر الوصول إلى 246 ألفا و825 موقعا إليكترونياً حتى نهاية 2018، و7 آلاف و337 خبراً، حسب صحيفة “ديكان“.، كما أغلقت الحكومة 45 صحيفة و29 دار نشر وتوزيع و16 قناة تلفزيونية و23 إذاعة و15 مجلة و3 وكالات أنباء في إطار الحملات الأمنية عقب فرض حالة الطوارئ.
وأُغلقت 3 آلاف مدرسة وأُقيل حوالي 33 ألف مدرّس من وظائفهم في إطار حملات التطهير التي اعقبت الانقلاب، وأكثر من 150 ألف موظف في القطاع العام في إطار حال الطوارئ التي أُعلنت غداة الانقلاب، ناهيك عن حملات كثيرة طالت العديد من المؤسسات العامة لـ “تطهيرها” – كما يزعمون- من أنصار كولن.
وما ان انتهت الانتخابات الرئاسية في أواخر يونيو الماضي، تم الحكم على 1509 أشخاص بينهم جنرالات وجنود سابقون بالسجن المؤبد في 171 قضية منفصلة تتعلق بالانقلاب.
خيوط اللعبة
الضابط السابق في الجيش التركي العميد “أرهان جاها”، فضح مسرحية الانقلاب، مؤكدا أن تلك اللعبة تمت بتخطيط وعلم ومتابعة من رئيس هيئة الأركان وقادة القوات ورئيس جهاز الاستخبارات بالجيش التركي، تصريحات القائد التركي المعتقل حالياً – كان يشغل منصب رئيس وحدة تطوير القوات الجوية – جاءت خلال جلسة محاكمته بالقضية في يناير الماضي، التي يتهم فيها 221 شخصًا على خلفية ما حدث في قيادة رئاسة أركان الجيش خلال مسرحية الانقلاب، رافضاً التهم الموجهة إليه.
“جاها”، قرأ الخطاب الذي أرسله إلى رئيس أركان القوات المسلحة التركية في ذلك الوقت، “خلوصي أكار”، عقب اعتقاله، موضحاً أنه يحتوي على عدد من المعلومات المثيرة للجدل، قائلًا :”أنا أرى أن الانقلاب هو انقلاب مدني ذو مظهر عسكري”.
وأكد في خطابه أن “آكار” سيذكره التاريخ على أنه قائد لم يمنع ما تعرض له شرف العسكرية التركية، وآلاف الجنود من “ظلم ومهانة”، مضيفاً :”تصريحات قائد القوات الخاصة “زكائي أكساكالي” مهمة للغاية، حين قال :في لحظات الأزمة يتم إصدار أوامر للجنود بعدم ترك الثكنات، إن كان هذا القرار قد صدر، لما وقع هذا الانقلاب”.
“جاها” تابع :”كيف لا يخطر هذا على بال الأشخاص الذين أفنوا حياتهم في سبيل هذه المهنة ويعرفون كل شيء تفصيلياً في هذا الصدد؟، فلو كان قد تم تنبيه الجنود فور العلم بمحاولة الانقلاب، لما كانت هذه الأحداث أن تقع”.
وعن تفاصيل المؤامرة، قال الضابط السابق في الجيش التركي :”محاولة الانقلاب وقعت بتخطيط وعلم ومتابعة من رئيس هيئة الأركان وقادة القوات ورئيس جهاز الاستخبارات، فإن جاءوا إلى المحكمة – حتى ولو بصفة شهود – لفضح الأمر وانجلى ما أخفوه، فالقوات المسلحة تم الزج بها إلى المؤامرة، حسب المعلومات الاستخباراتية التي تم التوصل لها في ليلة 15 يوليو، والآن وصلنا إلى مرحلة التصفية، هم الذين وقفوا وراء المحاولة”.
تفريغ الدولة من الكفاءات
مستغلا حالة الطوارئ لتحقيق مصالحه الخاصة حوَّل أردوغان نركيا إلى دولة تفشى فيها مرض المحسوبية في التعيينات وإقصاء الكفاءات وفق السياسة التي ينتهجها نظام الرئيس التركي وحزبه العدالة والتنمية.
أردوغان، قرر ضم كبار نواب ومسؤولين ووزراء سابقين إلى الهيئة الاستشارية للرئاسة التركية، في يونيو الماضي، وعين صهره الشاب بيرات آلبيراق الذي لم يدرس الاقتصاد وليس مؤهلاً لإدارة أموره، وزيراً للمالية وللخزانة، ليبدأ اقتصاد البلاد في الانهيار، وتفقد الليرة الكثير من قيمتها وتعرض احتياط النقد لانخفاض كبير وقل الإنتاج، وكادت البلاد أن تعلن الإفلاس بعد انسحاب نحو 3 آلاف شركة من السوق وارتفاع الديون لما يقارب النصف تريليون.
رئيس تركيا، أصدر في يوليو 2018، مرسوماً يقضي بإعادة هيكلة مجلس الشورى العسكري الأعلى – يتحكم في قرارات ترقية الضباط أو إحالتهم للتقاعد – إلى جانب تحويل أغلب أعضائه إلى مدنيين، وتقدم التشكيل الجديد تعيين زوج ابنته بيرات آلبيراق.
في شهر أكتوبر 2018، عين أردوغان “نور الله إيشلر” نائبًا لرئيس محفوظات الدولة، مما أثار حالة من الغضب، لأن نور الله هو شقيق نائب حزب العدالة والتنمية بأنقرة “أمر الله إيشلر”، ونص قرار التعيين على أنه تم تعيين – إلى جانب نور الله إيشلر – محمد أحمد توك ديمير وصلاح الدين بايرام نواب رئيس محفوظات الدولة، وذلك وفقا لقرارات رئيس الجمهورية.
شركة الخطوط الجوية التركية المملوكة للحكومة، عينت خلال السنوات الثلاث الماضية، أقارب وزراء ومسؤولين في مناصب مهمة، وكان أبرزهم نجل شقيقة أردوغان أوميت سرغان الحاصل على الشهادة الثانوية، بينما يحلم ملايين الشباب الأتراك بهذه الفرصة ممن حازوا الشهادات ويجيدون عدة لغات أجنبية.
أردوغان، أنشأ بعد مسرحية الانقلاب، “الصندوق السيادي” الذي بدأ العمل بطريقة فعلية في 19 أغسطس 2017، ويملك الصندوق حصصاً ضخمة في أكبر الأصول العامة التابعة للدولة بقيمة تصل إلى 60 مليار دولار، إضافة إلى أصول تتعلق بالخطوط الجوية التركية، وبنوك عامة وشركات بترول، فضلاً عن إيرادات الموارد الطبيعية، واحتياطي النقد، وصناديق استثمارية إضافية تمولها الدولة.
رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم أدار الصندوق في البداية، ونتيجة إلغاء المنصب بعد استفتاء تعديل نظام الحكم في الدستور، أصبح الصندوق تابعاً بصورة مباشرة لرجب أردوغان الذي وضع يده عليه فأصبح رئيساً له وبيرات آلبيراق صهره نائباً للرئيس.
اقتصاد يتهاوى
البيانات الرسمية، تؤكد أن ديون تركيا بالعملات الأجنبية المتوسطة والطويلة الأجل تجاوزت 328 مليار دولار بنهاية 2018، وتتحمل الشركات الخاصة نحو ثلثيها، وبالنظر إلى أن إجمالي الإنتاج الاقتصادي لتركيا كان حوالي 766 مليار دولار العام الماضي، فإن هذه الأرقام مزعجة، كما خفضت “موديز” التصنيف الائتماني لتركيا إلى أدنى مستوى، سبب انخفاض الاحتياطي الأجنبي، لتؤكد تناقض ثقة المؤسسات الدولية في تركيا، وأن الحكومة لا تتخذ تدابير كافية بعد خفض تصنيفها الائتماني.
الضرر الذي لحق بالاقتصاد التركي، جاء نتيجة للقرارات الخاطئة والسياسة المدمرة والفساد أيضاً، فحسب التقرير السنوي لرئاسة الشؤون الاستراتيجية والميزانية برئاسة الجمهورية لعام 2018، تم نقل 818 مليون ليرة من خزانة الدولة إلى أوقاف وجمعيات يسيطر عليها مقربون من رجب طيب أردوغان.
التقرير، أوضح أن الجمعيات والأوقاف المنتفعة من التحويلات الجارية من الحكومة، تخص المقربين من أردوغان وحزب العدالة والتنمية، مثل وقف “الشباب التركي” التابع لبلال أردوغان، وقف “فريق تركيا التكنولوجي” التابع لصهر الرئيس بيرات آلبيراق، وقف “خدمة الشباب والتعليم التركي”، ويضم مجلس إدارته ابنة أردوغان، وقف “الأنصار”، وقف “رماة الأسهم”، إضافة إلى الأوقاف التابعة للداعية المعارض فتح الله كولن بعد الاستيلاء عليها من قبِل الحكومة وتوزيعها على إدارات مقربة من الحزب الحاكم.
حصة التحويلات الجارية في الميزانية ارتفعت من 21.2% في عام 2002 عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة إلى 38.9% في عام 2018، حسب التقرير، فيما زادت نفقات مؤسسة التضامن الاجتماعي بنسبة 13% من 346.2 مليار ليرة إلى 391.3 مليار ليرة تركية.
آلبيراق، تمكن من تأمين العديد من الصفقات الحكومية إلى رجال الأعمال المقربين من الرئيس بشكل شخصي، واستطاع آلبيراق أن يؤمن لشركة آر إنرجي صفقات مع الشركة الآذرية سوجار عبر سلطاته السياسية وتحكمه في شركة بوتاش الحكومية، حسب تقرير صحيفة “أويل برايس” عام 2017.
صهر رئيس تركيا، أمن صفقات لشركته ترانس باور فرع شركة برتش فيرجين العاملة في مجال النفط، بالأمر المباشر لنقل البترول الكردي والغاز الطبيعي والبترول الروسي المار بتركيا إلى أوروبا، وفق تقرير سياسي هابير.
صلاحيات مطلقة
صلاحيات أردوغان توسعت خلال السنوات الثلاث الماضية بشكل ضخم للغاية، وبعد انتخابات يونيو 2018، تحول البرلمان إلى أداة طيعة في يده، حيث أقر عدداً من القوانين التي تتيح للرئيس قمع المعارضة، أبرزها قانون مكافحة الإرهاب في 24 يوليو 2018، ومنحه سلطات تعيين وإقالة موظفي القضاء والنيابة، وتمديد فترات الاحتجاز للمشتبه فيهم، وتقييد تنقلات الأفراد، وإقالة الموظفين العموميين بشبهة الانتماء إلى منظمات إرهابية أو تهديد الأمن القومي.
أردوغان، وضع أيضاً بين يديه السلطة المحلية والتنفيذية، حيث نصت المادة 127 من الدستور التركي، على وضع السلطة التنفيذية في يد الرئيس تماماً، بالإضافة إلى المادة 104 في الدستور التي تنص على أن “السلطة التنفيذية يختص بها رئيس الجمهورية”
بذلك يخول إلى رئيس الجمهورية صلاحيات وزير الداخلية الذي يعينه بنفسه، وبالتالي لا مشكلة من الناحية الدستورية عند نقل صلاحية فصل رؤساء 30 بلدية من وزير الداخلية إلى رئيس الجمهورية، وبالفعل أقال رئيس بلدية منطقة بشكتاش التابعة لإسطنبول مراد خازندار، في يناير 2018، وهو ثاني رئيس بلدية من حزب الشعب الجمهوري المعارض يُقال، بالإضافة إلى إقالة أكثر من 80 رئيس بلدية منتخباً عن حزب الشعوب الديمقراطي، قبل تعيين وصاية عليهم من الموالين لأردوغان.