أستاذ جامعة يعمل عامل بناء، ومدير منظمة غير حكومية يدير مقهى، وقاضٍ سابقٌ يبيع الشاي، وضابط شرطة يعمل حارسًا… هذه الصور الحياتية ليست مشاهد متفرقة صاغها مخرج سينمائي لصناعة فيلم جديد، وإنما واقع يعيشه الأتراك حاليًا، ممن شردهم رئيس جمهوريتهم، رجب طيب أردوغان، وفصلهم من وظائفهم.
قبل 3 أعوام، كان هؤلاء يشغلون مواقعهم الأصلية ويمارسون المهن التي تعلموا وتدربوا سنوات عديدة من أجلها، وأفنوا فيها أعمارهم، حتى خرج أردوغان بمزاعم مسرحية الانقلاب العسكري عليه في 15 يوليو 2016، فتغير الحال، وأصابهم بلاء النظام الحاكم.
موقع نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية في تقرير له صدر عام 2019 سلط الضوء على عدد من الحالات التي عانت أشد المعاناة بعد مسرحية الانقلاب بزعم أنهم ينتمون لحركة الخدمة لقائدها فتح الله كولن، الذي يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، والمتهم بتدبير مسرحية الانقلاب.
فمن هؤلاء “س” الذي كان مدرسًا للتاريخ في أحد مدارس الخدمة، بعدما فُصل من وظيفته الحكومية التي كان يعمل بها قبل أربعة أعوام من محاولة الانقلاب بتهمة انتمائه لحركة الخدمة؛ تحكي زوجته أنه عقب حدوث محاولة الانقلاب اقتحمت الشرطة البيت، وقيّدوا يديه وطرحوه أرضًا، وانهالوا عليه بالضرب في محاولة لإجباره على الاعتراف على زملاء له بأنهم إرهابيون، ثم اقتادوه بعد ذلك إلى مكان غير معلوم، وقد جعل هذا المشهد الزوجة تتساءل في حيرة وأسى عن سر هذه المعاملة السيئة من نظام كانوا يدلون بأصواتهم لصالحه في الانتخابات، ثم صار يعاملهم على أنهم إرهابيون بدون أي أدلة.
وبعد خمسة أيام من البحث والتحري عن مكان زوجها المفقود وقع ما كانت تخشاه، فقد كان زوجها يعاني من داء السكري، ويجب أن يحصل على دوائه بانتظام حتى لا يتعرض للوفاة، وبالفعل توفي الزوج نتيجة إهمال الشرطة -في المخفر الذي كان معتقلاً فيه- إعطاءه الدواء اللازم رغم نداءاته المتكررة ومعاناته أمام أعينهم.
وبذلك فقدت المرأة وأطفالها عائلها الوحيد في الحياة الذي كانت تعتمد عليه، مما اضطرها لقبول مساعدات من بعض الأقارب والجيران على حذر منهم، حتى لا يتعرضوا بدورهم للاعتقال نتيجة مد يد العون لها، كما اضطرت هي لتعلم الخياطة لتكفل لها ولأولادها بما تبذله من جهد بعض الليرات التي لا تسد رمق العيش ولا تكفي لاستمرار حياة كريمة
إن هذه الحالة تمثل نموذجًا لما يتجاوز ثمانين ألف حالة مشابهة تعرضن لشظف العيش وضيقه نتيجة فقدان العائل بالاعتقال أو الموت في غياهب السجون رغم أن بعضهن كن من مؤيدات الحزب الحاكم.
أما من لم تطالهم يد النظام بعد فالخوف المستمر والقلق الدائم هو الذي يسيطر على كل أوقاتهن من ليل أو نهار، فمع كل سرينة لسيارة شرطة أو مع كل طرقة على الباب تفزع هؤلاء النساء ظنًّا منهن أن الشرطة قادمة لاعتقالهن.
ينتظرونني أمام باب الحمام
حالة أخرى تقول والأسى يعتصرها: ““عانى أطفالي كثيرًا من المتاعب، لم يكن زوجي بجانبي، كان صعبًا للغاية أن تفعل كل شيء بمفردك، أن تكون رجلًا وامرأة في آن واحد. كان لديّ خوف دائم من الاعتقال. وبالرغم من أن أعمار أولادي بين الــ 12و13 عاما، فإنهم ينامون معي. وإذا نهضت من الفراش للذهاب إلى الحمام أو لأي شيء آخر تعالت صرخاتهم منادين عليَّ: “أين أنت يا أماه؟” ومن شدة خوفهم ينتظرونني أمام باب الحمام. وعلى الرغم من أنني لم أرغب في إظهار خوفي لهم؛ إلا أنهم كانوا يشعرون به دائمًا”. هذا ما جاء على لسان أحد الضحايا، وهو مثال يعبر عن حالة عامة سائدة في بيوت كثيرة كانت ضحاياها من نساء الخدمة.
من أكاديمية مرموقة إلى امرأة مضطهدة
تبلغ “أوغيت أوكتيم تانور” من العمر 82 عامًا، وهي أستاذة في علم النفس وأول أخصائية في علم النفس العصبي في تركيا، كانت “أوغيت أوكتيم تانور” أستاذ شرف في جامعة إسطنبول. أما الآن، فقد خسرت الكثير من المزايا التي كانت تتمتع بها كموظفة في الدولة، ومُنعت من السفر إلى الخارج، كل ذلك بتهمة “الترويج للدعاية الإرهابية”. لم تكن تلك المرة الأولى التي تعاني منها “تانور” من الاضطهاد فقد هربت قبل ذلك مع زوجها خارج البلاد أثناء انقلاب 1971 خوفًا من الاعتقال والسجن. وتقارن تانور بين معاناتها في تلك الأحداث الراهنة وأحداث انقلاب 1971م فتقول: “ذلك الزمن كان أفضل من هذا، لأن القضاء في الماضي كان يمكن الوثوق به، وكانت هناك محاكم مدنية يمكن الاعتماد عليها في تبرئة المتهمين ورفع الاضطهاد عن كاهل المضطهدين. أما الآن فالقضاء مضغوط عليه ولم يعد هناك أي فصل بين السلطات كما هو الحال في أيّ نظام ديمقراطي يحترم حقوق مواطنيه. أنا أخشى حقيقة على مستقبل بلادي
الهروب من الجحيم والموت غرقًا
إن كثيرًا من الرجال والنساء المضطهدين في تركيا يحاولون الهروب من حالة الرعب الدائم التي يعيشونها داخل تركيا، وذلك عن طريق الهجرة غير الشرعية؛ فقد منعت الدولة مئات الآلاف من المواطنين من السفر وألغت جوازات سفر العديد منهم لا سيما الذين تم فصلهم من العمل. لقد كان دافع هؤلاء للهروب من ذلك الجحيم هو عدم استطاعتهم الحصول على فرصة عمل داخل تركيا بإيعاز من السلطة الحاكمة، بالإضافة إلى فقدهم الدفء الاجتماعي حيث يتهرب منهم أقاربهم وجيرانهم خوفًا من عقاب السلطات. إلا أن مخاطر الهروب عديدة فالكثير من الأشخاص يموتون أثناء محاولة الهروب من هذا الاضطهاد المستمر والمنظم بقيادة السلطة الحاكمة في تركيا وسنذكر بعض الأمثلة لذلك.
قوارب الموت
خلال شهر فبراير عام 2018 غرقت في نهر مريج “عائشة عبد الرزاق” مع طفليها “أنس” ذي 11 عاما و”خليل منير” ذي 3 أعوام عند محاولة الهروب إلى اليونان. كانت “عائشة” مدرسة فُصلت من عملها، ولم تكتف الحكومة بهذا الفصل، بل ألغت رخصة التعليم الخاصة بها شأنها شأن سائر المعلمين والمعلمات الذين فصلتهم، والذين بلغ عددهم حتى إصدار هذا التقرير 55 ألف معلم ومعلمة.
والجدير بالذكر أن القارب الصغير الذي كان يقلهم كان به 8 أشخاص، شخص واحد فقط هو من استطاع أن ينجو من الغرق بينما السبعة الآخرون، رجلان وامرأتان، وثلاثة أطفال ماتوا جميعًا غرقًا
مراد فقد كل أسرته
أما “مراد أكتشاباي” فقد تم إنقاذه في شهر يوليو من عام 2018 هو وخمسة آخرون، بعدما غرق القارب الذي كان يقله مع زوجته “خديجة أكتشاباي” وأطفاله الثلاثة؛ “أحمد أسعد” ذي 7 سنوات، و”مسعود” ذي 5 سنوات و “أراس” ذي العام الواحد، أثناء محاولتهم الفرار من تركيا، حيث فقدهم جميعا مرة واحدة، في واحدة من أكثر الحوادث مأساوية.
حالات الانتحار داخل السجن
قدم حزب الشعب الجمهوري (CHP) استجوابًا برلمانًّيا لوزير العدل آنذاك “بكير بوزداغ” حول وفاة خمس نساء في ظروف مشبوهة داخل سجن “كوجالي” خلال النصف الثاني من عام 2016، ولم يتم فتح تحقيق حول سبب الوفاة
حالة “سويم ج” 16 أغسطس 2016
كانت “سويم” قد قبض عليها في تحقيقات متعلقة بحركة الخدمة في مدينة “دنيزلي”، وأقدمت على محاولة الانتحار من خلال قطع عنقها بسكين في 16 أغسطس 2016، وكان الدافع لإقدامها على محاولة الانتحار هو عدم تقبلها فكرة القبض على زوجها.
حالة “ب.ن.م” 24 أكتوبر 2016
وهي طالبة في الثانوية العامة انتحرت بالفعل في 24 أكتوبر 2016 حيث قفزت من أعلى سور قلعة “بويبات” شمال تركيا، وطبقًا لما ذكرته التقارير الإخبارية، فقد انتحرت بسبب تعرضها لمضايقات في المدرسة نتيجة لاعتقال والدها تحت زعم ارتباطه بحركة الخدمة، وكان والدها قبل أن يتم اعتقاله قد فصل من عمله في مدرسة “الشهيد أرصوي جورسو الثانوية” بمدينة “بويبات” في الأول من سبتمبر 2016.