في السنوات الأخيرة، أفرزت مراسيم القرارات التي أعلنتها حكومة العدالة والتنمية إبان إعلان حالة الطوارئ في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، طبقة جديدة من المنبوذين في المجتمع التركي، لفظها المجتمع التركي، وترتب على ذلك معاناة هذه الطبقة من البطالة والجوع وعدم قدرتهم على إعالة ذويهم، أو حسب التعبير الدارج، أصبحوا يعانون من “الموت المدني” (الحرمان من الحقوق المدنية نتيجة الإدانة بالخيانة أو جريمة كبرى)، والغريب أن جميع أفراد هذه الطبقة كانوا من المتعلمين وحملة المؤهلات.
موقع أحوال تركية التقى بعضًا من هؤلاء الذين يخافون حتى من مجرد ذكر أسماءهم، وأجرى حوارًا معهم مسلطًا الضوء على معاناتهم، وكان منهم:
م. ش. التي تُشبِّه حياتها بالسجن، ولكنه “سجن في الهواء الطلق”، وتضيف “لم أدخل في نزاعات قضائية من قبل، ولا أدري حتى الآن طبيعة التهمة الموجهة إلي. أية عدالة وأي قانون هذا الذي يبيح كل ما يحدث لي؟ ماذا تريد الدولة مني ومن آخرين مثلي؟ ألم يكفيهم ما حدث لنا؟ لدي واجبات نحو أسرتي، يتعيَّن عليَّ الاعتناء بهم. عندما بدأتُ في نسيان الأيام الصعبة التي مررت بها وشرعت في إرساء نظام جديد لحياتي، إذ بالدولة تعترض طريقي من جديد، وتنتزعني من تلك الحياة مرة أخرى. لم يعد أمامي مكان أو شخص آخر أشكو إليه معاناتي. أصبحت كسجين يعيش في سجن في هذا البلد، ولكنه سجن في الهواء الطلق. لقد ضاق علينا الخناق، ولم يعد يُسمح لنا سوى بالتقاط أنفاسنا فحسب”.
الضحية .. دومًا كولن وجماعته
شاب آخر، حكى لموقع أحوال تركية كيف طُرد من عمله، وحُرِم من كافة حقوقه وفق مرسوم القرار رقم 692. وكيف عجز هو وأقرانه حتى عن فتح مشروع تجاري خاص بهم، أو على حد قوله “عندما تقدمنا بطلب إلى دائرة الضرائب بطلب للبدء في مزاولة نشاط تجاري. أخبرونا أنه يتعذر علينا القيام بهذا الأمر؛ لأن أسماءنا من بين الأسماء التي شملتها مراسيم القرارات”.
يؤكد ذلك الشاب أن الحكومة التركية قد وسَّعت دائرة حربها ضد جماعة فتح الله كولن بشكل كبير للغاية، ويضيف “لم يعد أي شخص بمنأى عن هذه الدائرة؛ فالجميع في نظر الحكومة أعوان لجماعة فتح الله كولن؛ لا فارق بين المتدين وغير المتدين. لا يفرق معهم إلى أي دين أو عرق ينتمون. وتبيح الحرب التي تخوضها الحكومة بزعم أن هذه المنظمة الإرهابية موجودة في كل مكان في المجتمع، مساءلة المشتبه بهم وتقديمهم للمحاكمة.. ومهما حاولت الدفاع، فلن يجدي هذا نفعاً معهم؛ لأنهم سيعتبرون هذا نوعاً من التمويه. ومن الطبيعي أن يؤثر وضع كهذا باتجاه انحسار فرصنا في العيش بسلام داخل المجتمع، ومن ثمَّ يتسبب في عزلتنا داخله”.
أكاديميون يعملون في مهن مهينة
كان ھ. ك. محاضرًا في جامعة الفاتح. رفضت جميع الجامعات طلبه للعمل بها بعد التقرير الأمني الصادر بحقه. أجرى مقابلات في العديد من الشركات منها شركة LCW وشركة Kahve Dünyası، وفي كل مرة كان يتم استبعاده في المرحلة الأخيرة. يقول (ھ. ك). تعليقاً على هذا: “حتى الشركات التي ظننتُ أن باستطاعتي العمل فيها، ولو بأجور منخفضة، كانوا يبادورن بسؤالي عن سبب عملي في جامعة فاتح، على الرغم من أنهم قرأوا سيرتي الذاتية عشرات المرات. سُئلت في المقابلات عما إذا كانت لي علاقة بجماعة فتح الله كولن أم لا”.
ذكر لنا عضو هيئة التدريس سابق أنه لا بد أن يحصل الأكاديميون الذين عملوا في الجامعات، التي تم إغلاقها بموجب مرسوم قرار، على إذن من مؤسسة التعليم العالي؛ حتى يحصلوا على وظيفة في واحدة من الجامعات الخاصة، أو على حدّ قوله “يجب على هؤلاء إذا أرادوا التقدم للعمل في إحدى الجامعات الخاصة أن يأتوا بخطاب تزكية قوي. فعلى سبيل المثال، تمّ إلغاء تعيين مدرس في قسم علم النفس بجامعة “بيكنت” بعد أن تسلم عمله بالفعل هناك. يخضع الأكاديميون الذين يتقدمون بطلبات من الجامعات التي أغلقت بموجب مرسوم قرار للبحث والاستقصاء الأمني. باختصار إن قرارات تعيين الأكاديميين في الجامعة أصبحت ترتبط بتقارير جهاز الأمن والاستخبارات”.
يصور هذا الأكاديمي حياته الحالية بقوله “أنت مُطالب بالعمل في وظائف هامشية أو العمل في قطاعات تحتاج بالفعل إليك، ولكن دون تأمين ودون ضمان. يمكن لعشرات الأشخاص الذين أعرفهم، بمن فيهم أنا، العمل بدون تأمين؛ لأن الشركات عندما تؤمن على العاملين لديها، فإنها ترى أن الشخص الذي توظفه لديها يحمل رقم 36 في سجلات مباحث أمن الدولة، مما يعني أنه فُصِل من عمله بموجب مرسوم قرار، أو أن المكان الذي كان يعمل به تم إغلاقه بموجب مرسوم قرار كذلك. أجبروني على ترك عملي منذ فترة طويلة، توجهت بعدها طلباً للعمل في قطاعات مختلفة. قمتُ بأعمال لا يقبل بها شخص من الحاصلين على درجة الدكتوراه مثل إصلاح الهاتف الخلوي أو مساعد في متجر. بدأت بعد ذلك العمل في مكان دون تأمين إلى جانب إعطاء دروس خصوصية للطلاب. هذه هي الوسيلة التي أقتات منها في الوقت الراهن”.
إجبار المشتبه بهم على الاستقالة
يحكي لموقع أحوال تركيا أيضًا (أ. ب).، وهو أحد الآباء الذين أجبروا على ترك عملهم في شركة الاتصالات التركية في نهاية عام 2016، عن معاناته، هو الآخر، ويقول “وضعوني أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن أتقدم باستقالتي طواعيةً أو أن يرسلوا إلى منزلي إخطاراً موثَّقاً من كاتب العدل بإقالتي من العمل تحت ذريعة الظروف الراهنة وفرض حالة الطوارئ. كان مسموحاً لي في الخيار الأول الحصول على كافة مستحقاتي، أما الخيار الثاني فكان يعني الحرمان من كل شيء. لم تستغرق المفاضلة بين الخيارين أكثر من خمس دقائق، اخترت بعدها الخيار الأول، ثم لجأت للقضاء بعد ذلك؛ ظنًا مني أنني سأعود إلى عملي مرة أخرى. علمتُ أنه لم يتم إجراء استقصاء أمني عني، وأن ما حدث أن هناك وثيقة وردت بشأني من جهاز الاستخبارات. وكانت النتيجة أنني خسرتُ القضية في النهاية؛ لأنني لم أستطع إثبات أنني استقلت تحت الضغط “.
يقول (أ. ب)ِ. أيضاً إن زوجته لاقت نفس المصير، وتم عزلها من عملها في مؤسسة البحوث العلمية والتكنولوجية، وهي في إجازة وضع، ويضيف “زعموا أن جهاز الاستخبارات التركي أرسل خطاباً إلى شركة الاتصالات؛ يخبرهم فيه بأنني من المشتبه في انضمامهم إلى جماعة إرهابية. وعلى الرغم من مطالبة القاضي شركة الاتصالات، أثناء جلسات المحاكمة، بإطلاعه على هذا الخطاب، إلا أن شركة الاتصالات لم ترسل شيئاً إلى المحكمة. أُجبرت على تقديم استقالتي بحجة وجود هذه الوثيقة. تقدمتُ بعد ذلك بما يزيد عن 300 طلب من أجل العمل، وشاركت في أكثر من 50 مقابلة عمل دون جدوى، وما زلت أذهب إلى مقابلة العمل حتى الآن. لقد حُرمت حقي من العمل، وكسب المال عن طريق الإنترنت بسبب استحواذهم على كافة البيانات الرقمية الخاصة بي”.