إن كُولن يُقوِّمُ بعين المعماري الأوضاع المتردية روحيًّا؛ إذ يرى أن الثقافة الإلحادية التي سادت بلاده، كانت عامل تخريب للوضع المدني التركي، وخطة هدم واستيلاب، تحجب عن الأمة نور الشمس، وتهيئها للهلكة المحققة، يقول كولن: “هذه الهيكلة الشكلية التي يمكن أن نصفها بتلبس الفكر الملي بلبوس الفسق، وتخريب روح الملة، قد أضرت أكثر مما نفعت”. بل نجد أن بصيرة المصلح قد تماهت لديه في حس المعماري؛ حيث واظب في كتاباته وإحالاته التقويمية على توظيف قطاع من الدوال مستمدة من حقل العمران.

إن صورة البُناة المعماريين لابثة في قاع لاشعوره، تطفح وتطفو كلما توجه الوجدان إلى التحدث عن المصير الحاسم، والتفكير في الرهانات الكبرى؛ ذلك لأن وعي (ولاوعْي) الداعية كولن متجذر في أرضية التاريخ، فلذلك نراه يجد كل ذلك التناغم العميق، والتجاوب القوي، مع شواهد ذلك التاريخ الماثلة للعيان في تراث معماري لا يفتأ الداعية يستمد منه تمثلاته وخطواته.

يرى كولن أن الثقافة الإلحادية التي سادت بلاده يوما ما، كانت عامل تخريب للوضع المدني، وخطة هدم تحجب عن الأمة نور الشمس.

فلقد لبث خطابه يشاكل بين تلك الشواهد الشامخة، وبين القوى التي يرشحها لصناعة الغد، وطفق يستبين في صلابتها صلابة أبطال تلك المهمة الإحيائية الحاسمة وعزْمِ جنودها ومهندسيها، وما يتحلون به -أو ينبغي- من صفات المغوارية، والتمهر والنفاذ؛ “نعم أولئك ينشغلون بحساب الغد مع اليوم، قيامًا وقعودًا، ويستعملون الإمكانات والحركيات الحاضرة أحجارًا لإنشاء الجسور الموصلة إلى الغد، ويجدون في حناجرهم غصص نقل الأيام الحاضرة إلى الأيام القابلة”.

إن رهان هؤلاء الأبطال يستهدف -ليس فحسب- تحقيق النصر على أوضاع الانحطاط، وتغيير مظاهره المزرية إلى مشاهد للعز والقوة، ولكن رهانهم يتعاظم وتتعدد تحدياته بكونه يضع في الحساب اختصار الأشواط الزمنية، واختزال المسافات التي تستغرقها عملية البناء، فالمهمة جسيمة بجسامة أهدافها من جهة، وشاقة بفداحة ما تقتضيه من دهاء وقدرة على البذل، بلوغًا إلى النصر الذي لا يعقبه خذلان.

استمدَّ كولن فكره من التناغم العميق، والتجاوب القوي، مع شواهد التاريخ الماثلة للعيان في تراث معماري لا يفتأ الداعية يستمد منه تمثلاته وخطواته.

في هذا السياق المتفائل بما ستكون عليه مهمة الإحيائيين، نرى الخطاب مرة أخرى يستدعي صوره من قطاع العمارة ( أحجارًا لإنشاء الجسور)  للتعبير عن المستقبل، فالمادة الدلالية كما نرى، وردت مسكوكة؛ لأنها مستمدة من وجدان تعمقت فيه حسية الأرشتكتور، فباتت تشكل مساحة من تعبيريته. إنها حال استرفادية تبين أن المعمار مَوْجِدةٌ حاضرة في فكر كولن بقوة وأصالة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: سليمان عشراتي، هندسة الحضارة تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، ٢٠١2، صـ77.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.