الفكر عملية عقلية تؤسس للحدث الإنساني، تسبقه أحياناً، أو تصاحبه، أو تتبعه، كنَوع من الملابسة الذاتية والتحرز الإجرائي والمنطقي الذي تستلزمه عملية التواصل. وذلك حتى لا يدخل الفرد في تناقض مع ذاته، وحتى يحقق هدفه وينجز مهمّة التعامل بإيجابية. فما يفكر فيه الإنسان يعيشه متلبساً به عقليًّا وكيانيًّا، فإذا كان الأمر التفكيري من جنس الأفعال الواقعية، انْساق الجسد والإرادة إلى تحقيقه عمليًّا؛ وإن كان ذهنيًّا، انساق الذهن إلى تمثله أو استحضاره على نحو ما.
يميّز “كولن” بين لونين ومنهجين من الفكر: الفكر الحسي، والفكر الروحي.
نوعان من الفكر:
يسجّل الأستاذ “كولن” نوعَين من الفكر يتعاطاهما الإنسان، ويحكمان نظرته إلى الحياة، وعلاقته بالكون والوجود:
1- الفكر الأصمّ، ويقصد به ذلك الفكر وليد العقل المفصول عن الغيب.
2- الفكر الرحب، وليد العقل المتواشج مع الميتافيزيقا.
أو إنْ شئْنا القول إن الأستاذ يميّز بين لونين ومنهجين من الفكر: الفكر الحسي، والفكر الروحي. الأول مغلق على ذاته، معتد بالمادة ومرتد إليها، مجانف للروح؛ والثاني موصول بالمادة معتد بالروح، معتقد في الغيب، إذ يرى أن عالم الشهود هو امتداد للماوراء، وأن الدنيا مَزْرعة للآخرة.
بفضل استنارة الفكر الفاعل، تُولَد المدنياتُ وتتجدّد الحياة، لأن الفكر البنّاء يَتقصّدُ الغايات الملموسة والمنافع الناجزة، إذ يترسم من الفرَضيات والمخططات ما هو قابل للتطبيق، فهو من ثمة فكر واقعي، استراتيجي، يُوجِّه الأنظار والإرادات إلى الكيفيات والمسالك التي تجعل أعقد المشاريع، وأشقّ الرهانات، وأكثرها إيغالا في الخيال والرومانسية، قابلاً للتحقق والتنفيذ.
فأوّلية الأهداف التي يسدد نحوها الفكر الفعال هي بناء الإنسان، وأهمّ الجوانب التي يركّز عليها الجهد البنائي هو الارتقاء بالروح. ذلك لأن الإنسان هو الفاعل الأول والآخر في كل مواجهة إنجازية تترقى بها شروط المدنية، وتتسع مرافق العمران.
للفكر صبغة عضوية، نمائية، لأنه هو كذلك يُستزرَعُ في الأرض، ويستوي مع الزمن، ويُؤتي ثماره حين الحصاد.
بين الفكر العقيم والبناء
إذا ما استغْرقَتِ الفكرَ التهويماتُ الفانْتازيّة والسياحات الميتافيزيقية المفصولة عن الواقع، فسيتوحَّل في الذهانية، والوهم، والعقم، وسوء المآل. والفكر العقيم يفضي إلى التسيب، وفي التسيّب موات المدَنية. والأمّة الإسلامية أطاح بها وضع العقم الفكري الذي عاشته بعد القرن الرابع، وجرَّف أكثر ما استنجزته من مآثر وضيئة، إذ دخلت الأمة في طور الانقسامات، وتناحُر العصب، واستنْزاف الموارد (المعنوية والمادية).. وانْضاف إلى ذلك احترافُ قصّاصو المسجد مهمّة التزهيد البليد، والتشنيع بالحياة وتَتْفِيهها، الأمر الذي وطّد روحية الكفاف والكسل والانسداد.
الفكر البنّاء محرّك مركزي للحياة، لأنه يبصِّر بالإمكاناتِ والقدرات، ويَفتح في وجه الإنسان مجالات العمل والتجدّد. تَخْضَرُّ مروجُ الفكرِ وتستجمع نضارتَها متى استقت من نهر الشريعة الرقْراق، إذ تنفُضُ عنها رمادَ الجهل وانعدام الهدَف.
———————————————–
المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ55-57.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.