ميلاد فخر الكائنات خير الخلق كلهم، إيذان بميلاد قلوب مباركة تحاول التشبه والتأسي به عليه الصلاة والسلام، لتنوّر الوجود بنور مشكاة التوحيد، وتخفف من وطأة ظلام الكون الدامس الذي أوقدت نارَ ظلمته قلوبُ السواد والحلكة الآثمة، فكانت ينابيع البركة المشدودة بشرائط ذهبية إلى الزمن الأول الذي تَفتّق عنه الخطاب الأزلي النازل على القلب المتنور بأنوار سدرة المنتهى والذي أضاء قلب خير الكائنات، شمس الله المنتصرة محمد عليه وعلى آله وصحبه أجل التسليمات وأجمل التبريكات.
فتح الله… قلب مبارك جديد، يحاول أن يقود بني البشر بكلماته ودمعاته الحرى الحزينة إلى حوض خلاصة الكون، وياقوتة معانيه، وأجلّ ما فيه، دفقة الحياة المفعمة بالحب، خاتم الرسل نبي المحبة والود الأبدي سيدنا المبعوث رحمة للعالمين… قلب يحاول جاهدًا أن يقف سورًا صلدًا أمام العائدين بالبشر لوثنيات ما قبل الإسلام.
فتح الله… الرجل القصيدة التي على التائه دونما معالم طريق في هذا الزمن الكابي الحزين أن يصيخ السمع لها، كي يشعر بلذة الحب المجيدة، وحتى يستيقظ الشوق والعشق الراكنين إلى سبات الإحساس، فيفور الجوى بمشاعر الطاعة الربانية والتنسك الرحماني بذكرى محمد نور الله في الأرض، فتشتعل القناديل الملتهبة بالتشوفات النورانية، والمتزينة بالفيوضات الصمدانية واللآلئ العلوية في قلوب حيارى العالم الماشين في الدروب المظلمة دونما وجهة.
لاشك أن المثال النبوي كما جعل صحارى النفوس جنانًا بعشقها لحقيقة خالقها، تهفو وتسابق الشوق لأن تكون مثله صلوات ربي عليه وسلم في دعوته الناس وفي رميه لجمرة العشق الرباني في القلوب، فتسارع الخطى متشبهة بخصاله، متطهرة بالاقتداء بسمته الإلهي عبر القرون، متشربة عبق مديحه ومدحه بلذة الوصال، إما بزيارة قبته الخضراء الشريفة، أو الاقتداء بسنته البهية المجملة لمعاني الحياة، فتدخل معه في مناجاة التصلية عليه، فإن هذا المثال النبوي هو عينه من جعل فتح الله أحد هؤلاء العاشقين المقتفين لنور محمد صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا. فدموع الرجل السخينة كأنها تنصت من مكان ما قريب لكلام محمد صلى الله عليه وسلم ومحياه الوضيء. فصوت كولن الرخيم المنسكب على أكبادنا أكيد أن منبعه هو روح النبي الأمي المفعمة بمعاني الحب والعطاء البشري. والهادرة في هيبة نهر مجيد سرمدي بأحاسيس ومشاعر الرحمة والعشق والإيمان الدافق عبر كل الأزمان وفي كل الأمكنة.
كما كانت كلمات أبي القاسم صلى الله عليه وسلم هي الأكثر نفاذًا إلى الأرواح التواقة إلى خالقها، هي الآن كلمات فتح الله تقتفي على أثرها المسير. كلمات هي همسات روح فرحة تنثر بذور المحبة والتواضع في ساحات القلوب الخالية العجاف، همسات وكلمات برنة نغمات طروبة هادئة تهتز لها أشجار الصنوبر الشامخة، وأغصان الدلب المطأطئة الرأس لتتمايل فرحًا ونشوة في قلوب السكارى بحب محمد صلى الله عليه وسلم وآل وصحبه. القلوب الآملة بلقاء قريب بالحبيب صلى الله عليه وسلم على حوضه الشريف. إنه سحر الكلمات العذبة، النابعة من تلال الروح المضيئة للدواخل البشرية بشموس شعشعانية تخرق ظلام ليل الحضارة الإنسانية البهيم، لتلهم العيون الآدمية درب الإيمان من جديد.
وأنت أمام كلمات الشيخ فتح الله وخطبه، تجد نفسك إزاء رجل تشرّب الحقيقة المحمدية. فإذا به رجل تتطاير أشلاء كلماته رحمة وتفور روحه بأسرار الإيمان، ويتفطر فؤاده بفجر اليقين الأحمدي، ويلتهب رأسه بظلال العقيدة الفيحاء، والوارفة الظلال، صائحًا بالمهزوزين المندحرين بصوت صادق صدوق: “يا أيها الخانعون… يا أيتها القبور الآدمية… يا موتى القلوب… يا منخوري ومهزومي الدواخل… تنحّوا قليلاً… وأفسحوا الطريق لروح الإسلام العذبة… فبروح هذا الدين، وبحقيقة محمد ستهيلون الأتربة على أزمنة الجهل والهزيمة… وسيستعيد دين التوحيد وجهه الجميل… ويتحرك عقرب الفتوحات من جديد…”.
فتح الله… في خشوع الجيل الأول من مدرسة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم يتكلم عن الإسلام، حديثه عنه حديث عهد بالسماء.. فبنفس قوية لا تهزم، وبعين بكاءة، وعزم ماض لا يكلّ، وفؤاد صارم لا يضلّ، يتكلم ويعيد الكلام عن هموم النفس وغمة الأمة، عالمـًـا بفداحة الحمل، وبوطأة المسؤولية، عارفًا بمواطن الألم التي قرحتها الآثام وجيوش الظلام الآثمة فجمدت تفتق الحياة في عروق بني الإنسان.
بشكل ما يحاول كولن الاقتداء بسيرة نبينا عليه الصلاة والسلام في السكنات والحركات. فكما ذاق نبينا وصحابته ألوانًا من الأحزان والعذابات، ذاق الشيخ أيضًا نصيبه. وكما ألبس عليه أزكى السلام وصحبه أثوابًا وألوانًا من الآلام والمصائب نال الشيخ أيضًا حقه، فكان الاستقواء بالخالق، والاستغناء عن الخلق طريقًا في الدعوة ومستقرًا لعوالم السكينة والقوة، فكانت الهجرة، وكان الصبر ومعهما كانت الفتوحات والفيوضات، عالمين بأنهم إلى ربهم المنتهى، ومن علم أنه إلى ربه منتهاه كان النصر حليفه ومثواه.
فتح الله… إذن رجل من الزمن الأول، تأخر به القدر ليكون البركة التي تهزم المستحيل، وتقتحم الخطوب المشرئبة الأعناق نحو الأمة، حاملاً عزيمته المتفردة بين راحتيه إلى هذا العالم. فطوبى له وللغرباء مثله ممن حملوا راية هذا الدين، وأقاموا خيام الرحمة المحمدية في زوايا هذا العالم وساحاته ورحابه، علّهم يصححون أخطاء العالم، وخطاياه المجتناة من الفانيات الكونية، وعلّهم يعودون بهذا الكائن المقدس في الأرض والسماء إلى عوالم الفطرة الإنسانية، فتهتز قلوب البشر وتضطرم أشواقهم لخالق الكون، فتتحول الأجساد المخلوقة من قبسة صلصال إلى قبس نور عظيم لا ينطفئ إلى الأبد. فاقتفاء أثر النبي الأمي صلى الله عليه وسلم هو عينه التعلق بأسباب الخلود التي اختصرها لنا النورسي قدس الله سره فقال: “تعلق أيها المسلم بالأبدي تتأبد. وصل أسبابك بأسباب الخلود تخلد”.