صدَرعن” نَسمَات للدرِّاسات الاجتماعية والحَضارية” الكتَاب الثالث تحت عنوان:”مفَاتِيح التَّجدِيد عند الأستَاذ فَتح الله كُولَن” من تأليف الأسْتاذ الدكتور جمَال السفرتي، في طَبعته الأولى سنة 2020م، عن دارالانبعاث للطّباعة والنشر والتّوزيع، في 432 صفحة، والدّكتور جمال السفرتي يعمل حاليا أستاذا للدراسَات الإسلامية في جامعة بدر بألبَانيا، ومستشَارا للمشيخة الإسلامية الألبانية.
الفِكرة المركَزية لهذا الكِتاب وقضيته المِحورِية، والتّي تُصاحبك من المقدمَة إلى الخَاتمة مرورا بفُصوله الخَمسة، هي كيف استطَاع الأستاذ فتح الله كولن بَعث رسَالة الإسلام بأبعادها الحضارية وآفاقها الإنسَانية من جديد، وكيف أمكن لهذه المدرسَة الإصلاحِية وهذه الحَركة التغييرية أن تأخذ بمفاتيح التجديد لتقدم تجربة عالمية رائدة، تسْتلهم رؤاها ونمَاذجها من أفكَار الأستَاذ فتح الله كولن.
إن هذا الكِتاب الذي نحاول تقريبَه للقراء -والتّقريب لا يُغني عن القراءَة، بل هو دعوة وتَحفيز على القِراءة- يعرض تَجربة الأستَاذ فتح الله كُولَن، ومن خلاله حركة الخِدمة، والتي تُعتبر التَّجلي العمراني والتَّمظهر الحضَاري لأفكار الأستاذ كُولن، في سِياقات مختلفة ومُنجزات متنَوعة، الغاية من عَرضها هي حَاجة الأمة والبشرية إلى الأنموذج الحقيقي للإسْلام الحضَاري، الذي يقدم البَديل الإسلامي الإنساني المعاصر.
لقد توَسل مُؤلِّف هذا الكِتاب بمنهجية عِلمية رَصينة في تتبع سِيرة ومَسيرة الدَّاعية فتح الله كولن، والإحاطَة بكل المتغيرات والعوامل التي أسْهمت في صِياغة شخصيته وبلوَرة رؤيته للعالَم، بالإضَافة إلى رَصد أٌسس ومُقومات المشرُوع الإصلاحِي التَّجديدي الذي تضطلع به مؤسسات الخِدمة وفعالياتها ومنَاشطها.
تجْربة الأستاذ فتح الله كولن في الميزان، هي عنوان الفَصل الخامس والأخير، حيث أبرز المؤلف أهم عوَامل نجاح حركة الأستاذ كولن، وثم عرَّج على الإنجازات العملية، وردَّ على بعض المآخذ حول الأستاذ كولن وحركَة الخِدمة.
ولذلك يُعتبر هذا الكِتاب محَاولة جَادة ومستَوعبة في إبراز الدَّور المِحوري في النَّهضة الفِكرية للأمة الإسْلامية، وتِبيان الجُهود التربوية التي أبدعها من خلال الجَمع بين الفِكر والفعل، بين العِلم والعمل، بين القِيم والسُّلوك، والتَّأكيد على تميز الأطروحة الإصلَاحية والرُّؤية النَّهضوية للأستَاذ كولن، والتي اختصرها في قوله : الإنسَان مصدر المشَاكل والإنسَان مصدر الحُلول، ولذلك كان الرِّهان بالنسبة للأستاذ كولن هو الاستثمَار في الإنسَان، بمعنى أن كل المشَاريع التَّربوية والاجتماعية والإعلَامية والثّقافية والفنية والتكوينية والتّرفيهية والتّواصلية يجب أن تستهدف الإنسَان تربية وتَأهيلا، تزكيَّة وتكوينا، تَخلية وتحلية، بما يضْمن تخريج الجِيل الذّهبي الذي سيلحَق الرَّحمة بالعَالمين، كما فِعل جيل عَصْر السَّعادة بقيادة سَيّد المُرسلين عليه الصلاة والسَّلام.
وإشكَالية هذا الكِتاب تتَأسس على نُقطتين اثنتَين:
الأولى: كيف عَاش الأستاذ فتح الله كولن حالته التعبدية التَّنسكية، وهو صاحِب مدرسة فِكرية إصلاحية تَربوية تجديدية تحتاج إلى جُهد وعمَل وتفرغ واهتمَام.
الثَّانية: المنهج الدَّعوي الإصلَاحي للأستَاذ كولن، في ظلّ تفَاعل المؤسسَات والتَّيارات داخِل الدَّولة والمجتمع.
في التَّمهيد حَاول د.جمَال السَّفرتي التّوقف عند الحَالة الاجتمَاعية والحضَارية التّي كان يعرف العَالم الإسْلامي عَشية ولادة الأستَاذ فتْح الله كولن، والمَشهد العَام الذي كان مسيطرا، هو التَّخلف والانحِطاط والهَزيمة المعنوية، وانتِصار النِّظام الاستعمَاري، مما أدَّى إلى تَغييرات جذرية في تاريخ البَشرية، حيث انهَارت الدَّولة العُثمانية، وبرز الغرب كقوة عَسكرية واقتصَادية وسياسية، في هذا السِّياق ظهرت دَعوة الأستَاذ كولن، والتي تُعتبر امتدادا لدَعوة النّور وبَاعثِها الأستَاذ المُجدد بديع الزَّمان سعيد النُّورْسِي رحمه الله تعَالى، الذِّي لا يكَاد الأسْتاذ كُولن يَذكره إلا وتَرضَى عَليه واعتبَره الأستَاذ العَظيم ومُنقذ الإيِمان في ذلك الزّمان.
إن الوَعي بالتَّحولات التي عَرفها العَالم بأسره عَقب الحَرب العَالمية الأولى وسُقوط الدولة العثمانية، وولادة الدَّولة التركية عقِب هذا الانهيار، ثم الحَرب العَالمية الثَّانية، وما صَاحب ذلك من حركَات للتَّحرر الوطني في غالب دُول العَالم الإسلامي ، ومُحاولة الدُّول المتخلفة اللّحاق بركب الدّول المتقدمة، بعد نيلها الاسْتقلال، كل ذلك انعَكس على شَخصية الأستاذ كولن، وجَعله يفكر في مفَاتيح التَّجديد وسُبل الانْبعاث.
وُلد فتح كولن سنة 1938م وهي السَّنة التي توفي فيها مُصطفى كمَال أتاتورك، وقد عرفت هذه الحِقبة من تاريخ تركيا تضييقا كبيرا على الأنشِطة الدينية، مع تبني الدَّولة التُّركية لمبدأ العَلمانية ووضعها في الدُّستور، الأمر الذِي أثر على حياة الأتْراك وثقافتهم، خُصوصا في المُدن والحَواضر الكُبرى.
في الفصل الثاني من هذا الكتاب، استطاع المؤلف د. جمال السفرتي أن يقدم صورة كلية مكثفة حول منهج الأستاذ كولن في بناء الذّات وتكوين الإنسان الحركي.
غير أن نشْأة فتح الله في مرحلة الطفولة لم تتأثر بهَذه الحملة العلمَانية، لأنه نشأ في بيئة مُحافِظة ومتدينة في قرية “كوروجك” بمُحافَظة “أرضروم” التي تقع في أقصى شمال شرق الأنَاضول، فهي بعيدة شيئا ما عن هذه التأثيرات العَلمانية، وفي الوقت نفسه كانت أسرة فتح الله أسرة مُتدنية حاملة للقِيم المِلِّيَّة والأخلاق الإسْلامية، كانت أسرة ممتدة، للجِد والجدة الأثر البليغ في توجيه وتربية الأولاد والحفدة، في تكامل وانسجامه مع دور الوالدَيْن.
تَرعرع فتْح الله كولن وشبَّ على هوية دينية صُلبة، وتجربة رُوحية متِينة، شكلت الأسَاس الذي سَينطلق منه في دَعوته ومَشروعه الحضَاري الكبير، ولذلك لطَالما أكد الأستاذ كُولَن على أهمية الفِكرة الدِّينية في التَّغيير والإصْلاح، وكيف أن الدِّين ينقل الإنسان من حَال إلى حَال، غير أن الأستَاذ فتح الله كُولن وجد نفسَه أمَام تحدي كبير وإشكَال مركب، يتمَثل أساسا في كيفية التَّوفيق بين القِيم الدّينية والثَّقافة الإسلامية من جِهة، ومن جهة أخرى بين قيم الثّقافة الغربية والأفكار المدنية؟ إنه في الظاهر صراع بين هويتين؟ تعارض بين مَرجعيتين؟ اختِلاف بين حضَارتين؟
لكن الأستاذ فتح الله كُولَن استطَاع الجَمع بين الفِكرتين والتَّوفيق بين المَرجعيتين، وقد تأتَّى له ذلك من خِلال قراءاته العَميقة والموسوعية لمئَات الكُتب والمَصادر والمرَاجع في مُختلف التَّخصصات والمَجالات، ثم من خِلال استيعابه للتَّجارب التًّاريخية، وفقهه للوَاقع وتفَاعله معَه، والاجَابة عن قضَاياه الرَّاهنة، فكَان بحق فَارسًا للأصَالة وعُنوانا للمُعاصَرة.
الأستَاذ فتح الله كُولَن كان مَهموما بفكرة الإصْلاح، مهوُوسا بقضِية النّهضة، مسكونا بغَاية الانبعَاث، مؤسسا لمَنهج الخِدمة، لأنه تأثر بأبطَال الحَقيقة الذّين أفنوا أعمَارهم في حمْل قضَايا التَّجديد والإصلَاح، والتَّغيير والإحيَاء، كلٌّ حسب موقعه وحسَب مجاله، وهم رِجال وعُلماء ومُثقفون ومُفكرون سبقوا أو عاصروا الأستاذ، ومن بَاب الوَفاء لهم، فإن الأستَاذ كُولن يَذكرهم بأسمَائهم وسِماتهم على سَبيل الاقتِداء والاهْتداء.
هذا التّهمم غذَّاه وقوّاه تدبره للقرآن المجيد، وتشربه لحقائق السنة والسيرة النبوية، وعشقه الجنوني لجيل الصحب الكرام، حيث شكّلت هذه الأصول مرجعيات معرفية في الدعوة والإرشاد، في التربية والتعليم، ومما قاله الأستاذ ذات مرة لطلبته وهو يحمل كتاب “حياة الصحابة”: كونوا مثل هؤلاء أو موتوا، يقول راوي الواقعة وعيناه تفيض بالدمع، وهو من تلاميذ الأستاذ الخُلَّص: فلا نحن كُنَّا ولا نحن مِتنا! لأن الأستاذ كان حريصًا على توريث هذا الهَمّ إلى طلابه، لأن هذه الهمّ إذا ما استقر في فؤاد الإنسان، فإنه يحقق نقلة نوعية في التصور والسلوك، ويسهم في تحرير طاقات الإنسان الابداعية الكامنة، وإعادة الاعتبار لوظيفته الاستخلافية والعُمرانية.
كل ذلك جعل الأستاذ كولن ينشغل بقضايا عصره حتى النخاع، فهو المثقف المنخرط في مجريات الحَياة بكل تفاصيلها، والمربي الملهم للشباب الباحث على المنقذ من تيارات الإلحاد الفكري والانحلال الأخلاقي، فكانت محاضرات الأستاذ ومقالاته ومؤلفاته بمثابة البلسم الشافي للجراحات المادية والمعنوية التي كانت تتخبط فيها فئات عريضة من الشعب التركي، ما جرَّ عليه الكثير من المضايقات والاتهامات، بل وصل الأمر إلى المُحاكمات، والأستاذ كولن ثابت شَامخ كالجبَل الأشم.
في الفصل الثاني من هذا الكتاب، استطاع المؤلف د. جمال السفرتي أن يقدم صورة كلية مكثفة حول منهج الأستاذ كولن في بناء الذّات وتكوين الإنسان الحركي، من خلال التركيز على أربعة محاور أساسية، وهي: منهجه في البناء العلمي، ومنهجه في البناء الروحي، ومنهجه في تكوين الإنسان الحركي، ثم في نقطة رابعة فريدة، منهجه في التأليف.
المدخل المنهجي في البناء العلمي عند الأستاذ كولن اعتمد على ربط طلب العلم بالوحي، وربط طلب العلم بالنقد، والحرص على الذَّاتية في التعلم ، لأن هذا المدخل هو القمين بالتخلص من الجهل، وهو المفضي إلى اقتران العلم بالعمل، وتتوحد المعرفة مع الأخلاق، فترتقي إلى المستوى الإنساني اللائق بها، ورغم أن الأستاذ كولن لم يلتحق بالمدرسة العصرية، ولم يتخرج من معهد لتكوين المعلمين أو المشرفين التربويين، إلا أنه صاحب نظرية تربوية مكتملة الأركان، أكدت نجاعتها وفعاليتها في مدارس الخدمة التي تفوقت على كل المدارس الأخرى شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا.
من القضايا المائزة في بحث د. السفرتي بيانه أن مشروع الأستاذ كولن لا ينافس أحدا ولا ينازع على جاه أو سلطة أو منفعة دنيوية، وإنما هو مَشروع لبنَاء الإنسان الصَّالح وصناعة الإنسان المصْلح داخل المجتمع المسلم.
العالَم الرّوحي للأستاذ كولن عالم خاص جدا جدا، ولذلك فقد كان التعبد والتنسك هو السمة المهيمنة على سلوك الأستاذ كولن، فهو شديد الحساسية تجاه الصلوات والأذكار والأدعية وتلاوة القرآن، لأن الحياة الحقيقية في نظر كولن هي حياة الروح والقلب، لأنها تسمو بالحياة المعنوية نحو الأنس بالخَالق سبحانه وتعالى، في مجاهدة النفس بما سماه المؤلف حياة التّكهف أو الكهفية، وهذا لا يعني الانسحاب من الحياة، وإنما كان يهذب نفسه من خِلال الانخراط في المجتمع، وخوض غمار الحياة الاجتماعية، ومشاركة الناس همومهم وآلامهم وآمالهم، لأن العزلة الروحية المطلقة مخالفة لحَقيقة التَّزكية القرآنية.
ولذلك نجَح الأستاذ كوُلن في تكوين الإنسَان الحركي و ورثَة الأرض، الذين سيحملون لواء الخِدمة، وينطلقون بها في العَالمين جامِعِين بين خَاصيتي الفِكر والحَركية، لأن منهج الخدمة في رؤية الأستاذ كولن يجمع بين العِلم والعَمل، بين القَول والفِعل، بين الفكْر والحَركية.
إن البِدايات الدّعوية للأستاذ فتح الله كولن كانت تُنبؤ بأن هذا الشّاب يملك هِمة عالية في خدمة الدّين، وروحا متوقدة في إصلاح عالم المسلِمين، جعلته يقتحم كل الميادين، ولا يقف عاجزا أمام التحديات والمشكلات، بل كانت حافزا له، فكلما تعرض لتضيق أو منع، سلك مسلكا آخر مُتمثلا الحكمة الإيمَانية البَليغة “من عَرف سِرَّ المنْع فُتح له بَابُ العَطَاء”، مُنوعا في بلاغه الحضاري بين المحاضرة والندوة والخُطبة والموعظة والمناظرة ، ثم التدريس والتأليف، وهكذا بدأت دعوة كولن تنمو وتتوسع، ويتزايد المقتنعون بمعقولية الفكرة، وصوابية المشروع، وفاعلية النَّموذج، وحاجة الأمة إليه.
لقد كان من الطبيعي أن يفكر الأستاذ كولن في المفَاتيح المناسبة لتجديد دين الأمة، مفاتيح يستطيع أن يفتح بها أبوَاب النهضة ونوافذ الإصْلاح، لأنه موقن بأن باب التَّجديد هو الذي سيبعث وظائف النبوة من جديد، ويحقق للدين الخلود وقدرته على الاستجابة لحَاجات الأمة، واستمْرارية شهودها على العَالمين، دليله في ذلك قول الحبيب عليه الصلاة والسلام” إن الله يبعَث لهذه الأُمة على رأسِ كل مئَة سنَة من يُجدد لهَا دينها” أخرجه أبو داود، والتَّجديد مَهمة إنسانية والتَّجدد سُنة كونية.
إن عملية التجديد الشّاملة التي باشرها الأستاذ فتح الله كولن لم تقتصر في مداها على فقه وفهم النّصوص الشرعية واستنبَاط الأحكَام منها، بل شملت أبعَاد التجديد في التأصيل والتنزيل والتفعيل، من خلال استثمار المخزُون التربوي والإيماني والمعرفي والسُّنني في الفكر والتّراث الإسلامي، في الدّعوة والتكوين والخدمة الإيمانية والإنسانية، في مستويات النظر والممارسة، والفكر والفعل، العقل والقلب، الفرد والمجتمع.. لأن التجديد عند كولن هو بنَاء الإنسان وعُمرانه بالإيمان من أجل ترشيد سلوكه وتصويب مسيرته وتجويد عبَادته، والاجتهاد في التَّفاعل مع القضايا المستجدة قصد المساهمة في النهوض الحضاري، وفق المرجعية القرآنية التي أسَاسُها إلحاق الرَّحمة بالعالمين.
في هذا السياق اسْتثمَر كولن فكرة الخِدمة باعتبَارها فلسفة معاصرة في الدّعوة الإسلامية، جوهرُها توظيف طاقَات الإنسان واطلاقها في العمل التَّطوعي والمبادرة إلى فِعل الخيرات، وتحريك الهمم نحو الأعمَال الجَليلة والعظِيمة، لأن المؤمن في حَركة دائبة نشطَة إيجابية مستمِرة لاكتشاف الذات وخدمة الآخر. والخدمة بهذا المعنى تستغرق حيَاة المؤمن كلها من المهد إلى اللحد، دون كلل أو ملل، في التلبيغ والهداية والإرشاد والدعوة، في تشييد المؤسسات وتنظيم الفَعاليات، التي تتغيا بناء الإنسان وخدمته (مدراس، معاهد، صالونات القراءة، مستشفيات، مؤسسات إعلامية، جامعات، مراكز حوار، جمعيات إغاثية، ندوات، مؤتمرات، ملتقيات، مجلات، كتب، منشورات..).
ثمة مَلمح مهم أشار إليه الدكتور جمال السفرتي والمتمثل أساسا في أنَّ مشرُوع الأستاذ كولن هو عبارة عن رؤية تَجديدية إصلاحية وليس “حرَكة إصْلاح دِيني” “Reform” بمعنى “إعادة التشكيل” التي تتوجه إلى التعديل والتغيير في المصادر الأصلية والمنابع الرئيسة، كما حصَل في الغرب المسيحي، ولذلك عمل الأستاذ كولن على تأثيل مفهوم “الانبعاث الحضاري” الذي يعني الثبات على المنهج في التَّجدد، والانطلاق من الجذور المعنوية للأمة في تحقيق النهضة.
ومن القضايا المائزة في بحث د. السفرتي بيانه أن مشروع الأستاذ كولن لا ينافس أحدا ولا ينازع على جاه أو سلطة أو منفعة دنيوية، وإنما هو مَشروع لبنَاء الإنسان الصَّالح وصناعة الإنسان المصْلح داخل المجتمع المسلم أو في أي مجتمع آخر، من خلال مؤسسات التربية والتعليم، المؤسسات الإعلامية، ومراكز الحوار، والجمعيات الإغاثية التي انتشرت دَاخل تركيا أو خارجها، فحركة الخدمة تتجه نحو عالمية جديدة مؤسَّسَة على القيم النبيلة والثقافة البانية، لذلك نجد في حركة الخدمة رجال مخلصون متعلقون بروح الإصلاح وأشواق النهضة، لا يفكرون في ذواتهم، يضحون بكل ما يملكون من أجل الفكرة التي آمنوا بها، لافرق بين الرِّجال والنساء بين الشَّباب والكُهول.
ثم من الأمور الأسَاسية في المشروع التّجديدي للأستاذ كُولن ومن خلاله حرَكة الخدمة، أنه اتخذ الإسلام كدِين وليسَ كأيديولوجية، وهذا المأخذ يربط هذا المشرُوع بالأصول الكُبرى والمثُل العليا للإسلام، مما يضمن لهذه الحركة التَّوجه نحو الأبدية والعَالمية، وتَعزيز النَّموذج الإنساني للبَديل الإسلامي الذي تتوق إليه البشَرية جمعَاء، في ظل ما تعيشه من أزمَات واختناقات، يقول الأستاذ كولن، :” إن قيامنا -بنِيةٍ متوجهةٍ إلى الله تعالى- بخدمة الإنسَانية، والاحتفاظ بدعوتنا فوق كل رغبة وهوى، وفوق كل الشهوات والرَّغبات الدنيوية ومنافعها، وبعد معرفة الحَقيقة والوصول إليها والاستِعداد والتضحية بكل ما نحب وبكل ما تعلقت قلوبنا به، والعزم على هذا بكل ثبات وقَرار، وتحمل جميع المشَقَّات والمصاعِب التي تتجاوز تحمل الإنسان في هذا السَّبيل، وفتح الطرق المؤدية إلى سعَادة الأجيال القادمة، والتهيؤ للانسلاخ من كل المنافع المادية والمعنوية، والعيش لسعادة الآخرين، والرضا بإشغال الصفوف الأولى عند المغَانم، أي الابتعاد عن كل مُنافسة من أجل المنصِب أو الجاه ..هذه هي غايتنا التي لا يمكننا التفريط فيها”(المَوازين أو أضوَاء على الطّريق).
أكيد أن الدكتور جمال السفرتي قد خبِر فِكر الأستاذ كولن من خلال القرَاءة العميقة لمكتوبات الأستاذ المترجمة إلى اللّغة العربية، والصُّحبة العلِمية والرُّفقة الإيمانية لأبطَال الخدمة، ومن خلال الزيارات الميدانية لمشاريع ومؤسسات الخدمة، فاستطاع أن يرسم لوحة تشكيلية للمضامين النَّظرية للحركة، أهم معالمها: اتبَاع نهج الصحابة، والابتعَاد عن السياسة، والأخُوة الإيمانية، وابتغاء رضا الله تعالى، ثم شَرعية الوسَائل، وملاءمة الفِكر لروح العصر، وأخيرا التفاني ونُكران الذات. أما المضامين العملية لحركة الخدمة فتتجلى في: الفِداء والتَّضحية، والزًّكاة والإنفاق، ثم الوقف والمتولي، والتعليم والمعلم، وتنْظيم قطاعات المهنيين، وأخيرا الحِوار والتَّفاؤل.
إن هذه المعالم هي التي جعَلت حركة الخدمة تنسلخ من القَالب إلى اللب، وتنفذ من المظْهر إلى الجَوهر، والتَّخلص من الكثير من المثبطات والعرَاقيل الذاتية والموضوعية، وتخريج أجيال الأمل عبر محَاضنها التربوية، الذّين تنَوَّرت عُقولهم، وأشرقت أرواحهم ، ورشدت عقولهم، والذين يصفهم الأستاذ كولن بقوله:” إن أجيَال الأمل باعتبار الزمن الحاضر هم مُمثلو العلم والإيمان والأخلاق والفن، وهم مهندسو الروح لم يأتون بعدنا”(ونحن نقيم صرح الروح)، بتعبير آخر إنهم الأجيال المثالية ، أصحاب الأفق الرحيب، أو الإنسان الجديد.
بعد أن استثمر الأستَاذ كولن في تأهيل الإنسان، واستمَر في ذلك مدة طويلة، باشَر عملية التجديد والإصلاح، مع كوكبة من الأجيَال المثالية، التي انطلقت في ربوع العالم مهاجرة ومناصرة تحمل ورود العلم ورحيق المحبة وأريج الرحمة إلى العالمين، مستندة إلى رؤية شمولية وتخطيط محكم وأهداف واضحة رسما الملهم بريشة الصِّدق والعَطاء، وماء الإخْلاص والوَفاء.
يُكثِّف الدكتور جمال السفرتي، منهجية الأستاذ كولن في التجديد والإصلاح، في الفصل الرابع من هذا الكتاب، من خلال التركيز على منهجية الأستاذ الدّعوية، ومنهجيته في التربية والتعليم، وكيف يَفهم خطاب الوحي قرآنا وسنة وسيرة، وكيف تَعامل الأستاذ مع الصَّحافة والإعلام، و ومنهجيته في تناول قضايا التَّصوف، ثم موقف الأستاذ من بعض المستجدات المعاصرة، ويمكن أن أجمل خلاصة هذا الفصل، في أن الأستاذ فتح الله كولن كان يسبق عصر ويسير أمام التاريخ، ولذلك كانت استشرافاته الحَضارية دليلا على تميزها المنهاجي في هذه القَضايا والإشكالات، وبرهانا على صوابية اختياراته الدعوية.
ويُمكن أن نقدم مِثالا على ذلك، كيف استطاع الأستاذ كولن أن يُرسي ثقَافة الحوار في المجتمع التُّركي؟ مجتمع كان يطبعه التناحر والصراع والإقصاء والنزاع بين الحركات الفكرية والتيارات السياسية، فانتبه ذ.كولن إلى أن هذا الوضع يُضيع على الأتراك فرصة النهوض، فعَمد إلى إرساء ثقافة الحوار وقبول الآخر، ومقاومة التَّعصب والكراهية، فقام بزيارة الفنانين والرياضيين ومشاهير المجتمع وصُنَّاع الوعي فيه ابتداء من سنة 1990م، ومحاورتهم في كل ما يهم المجتمع التركي، ثم قام بدعوة هؤلاء إلى موائد الطعام في بيوت تلاميذه، وهُنا انطلقت عجلة الحوار بين الفرقاء، وبعد تحقيق التّراكم في هذا السياق، قام ذ.كولن في سنة 1994م بمَأسَسَة هذا الحوار من خلال تأسيس “وقف الصحفيين والكتاب” الذي احتضن المآت من المنتديات الحوارية المتخصصة التي تهم المجتمع التركي ثم الإقليمي ثم الدولي، فأضحت هذه التجربة عنوانا لتكريس قيم التعايش والتسامح، بل وفتحت المجال للنَّسج على منوالها في كثير من البُلدان، ثم انتقلت التجربة من الحوار الداخلي إلى الحوار الخارجي بين الأديان والحضارات، فكانت زيارة الأستاذ كولن إلى بابا الفاتيكان أبرز عنوان.
تجْربة الأستاذ فتح الله كولن في الميزان، هي عنوان الفَصل الخامس والأخير، حيث أبرز المؤلف أهم عوَامل نجاح حركة الأستاذ كولن، وثم عرَّج على الإنجازات العملية، وردَّ على بعض المآخذ حول الأستاذ كولن وحركَة الخِدمة.
ثمة مَلمح مهم أشار إليه الدكتور جمال السفرتي والمتمثل أساسا في أنَّ مشرُوع الأستاذ كولن هو عبارة عن رؤية تَجديدية إصلاحية وليس “حرَكة إصْلاح دِيني” “Reform”.
في البدَاية أكد بأن أهل الخِدمة لا يتحدثون عن النَّجاح، وإنما يتحدثون عن التوفيق الإلهي، ولهذا التَّوفيق أسبابا على حد تعبير الأستاذ الدكتور نوزاد صواش، وهذه الأسباب هي: الواقعية/ المعقولية/المرحلية/ البعد الروحي/ الانمحاء في حساب الله/المزج بين الخلوة والجلوة، بالإضافة إلى ما ذُكر في الفصول السابقة، وهذا النجاح أو التوفيق انعكس على الإنجَازات العَمَلية لهذه الحركة المباركة، والتي أجملها المؤلف في:
- المدَارس: هي قُطب الرحى في مشروع الأستاذ كولن، ومدَارس الخدمة هي أنجَح المدَارس في تركيا وخارج تركيا، هذه المدارس مَبْنِية بأجمل الطرز المعمارية ومُؤَثثة بأفضل أثاث، ومجهزة بآخر التجيهيزات الإلكترونية والوَسائل الدِّيداكتيكية، ولكن قبل ذلك وبعد بأطر إدارية وتربوية كفأة، تشتغل بنَفَس رسالي، وأفق إنسَاني، وهِمَّة عالية، بكلمة واحدة إنها مدارس صنَاعة التَّفوق والسعادة.
- الجَامعَات: هي مؤسسات للبحث العلمي والتكوين الأكاديمي، تستجيب في تخصصاتها لحاجات المجتمع، وبذلك تسهم هذه الجَامعات في تحقيق التنمية، داخل تركيا وخارجها.
- وَقف الصَّحفيين والكُتاب: من خلاله تَمَّ التأسيس لتجربة الحوار بين الفرقاء، ثم بين الأديان والحضارات، ففي كثير من الأحيان سيكتشف هؤلاء أن الاختلاف لا يمنع من الجلوس على مائدة الحوار، ومناقشة الأفكار بالدليل والحجة والبرهان، فأضحت هذه المؤسسة نموذجا للاقتداء.
- الجَمعية الإغَاثية “هَلْ مِنْ أَحَد؟”: هذه المؤسسة ذات البُعد الاجتماعي الإغاثي بدأت أعمالها عقب الزلزال الذي ضرب تركيا سنة 1999م، والتي ستتحول بعد ذلك إلى أكبر مؤسسة إغاثية في تركيا، بل وستنقل أعمالها إلى خارج تركيا، في إغاثة المنكوبين، فكان أبطال الخدمة يستجيبون لنداء المكروب، مثلا في تسونامي أندونيسيا، وفي زلزال باكستان، وفي مجاعة دارفور، وأثناء العدوان على غزة…كان فدائيو المحبة أول المشاركين في الإغاثة.
- مجموعة قَيْنَق للنَّشر: وهي منظومة فكرية متكاملة بدأت بمجلة “الرَّشحة Sizintu” التي انطلقت 1979م، ثم تكَاثرتْ إلى أن أصبحت المجَلَّات الصادرة الآن بعدد إخوة يوسف عليه السلام، ومنها مجلة “حراء” التي تصدر باللغة العربية.
- المجموعة التلفزية “درب التبانة” Samanyolu، ومنظومة إعلامية تمتلك ثلاث عشرة قناة تلفزيونية، وثلاث إذاعات، وأنتجت العديد من المسلسلات الدرامية…كل ذلك في انسجام مع القِيم الرِّسالية التي تُؤطر المشرُوع الإصلاحي للأستَاذ فتح الله كولن.
وفي خَاتمة هذا الفَصل أَورد المؤلف بعض المآخذ على حَركة الخِدمة، ثم يبين تهافتها، ليختم كتابه بقوله:” الخِدمة نماذجها من الدَّاخل ، وما لم يتمكن الدَّارس من الدُّخول إلى عُمقها لا يمكن أن يستوعب حَقيقتها، إنه الخَوض، في الإنسان قَبْل الخوض في الزمان والمكان والمؤسسات والبنيان” (مفَاتِيح التَّجدِيد عند الأستَاذ فَتح الله كُولَن، ص:430).
إن التَّجديد هو الرُّوح السارية التي تحفظ للأمة كَينونتها، وتضمن لها القيام بوظيفة الشّهود الحَضاري، يقول ذ. فتح الله كولن:” لذَلك نؤمن بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعا إلى التجدد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام، وشُعورالإنسان، والعشق والشوق، والمنطق، وطريقة التفكير، وأسلوب الإفادة من نفسه، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال”(ونحن نقيم صرح الروح).
وفي ختام هذه القِراءة التقريبية لمضمون الكتاب، لا يسعنا إلا أن نشكر جزيل الشّكر الأستاذ الدكتور جمال السفرتي على هذا المجهود الماتع النافع الذي ضمنه في الكتاب القيم، وأنوه وأدعو إلى ضرورة قراءة الكتاب بعمق ورية، لأنه يعرف بشخصية عظيمة يندر أن يجود بها الزمان، وبنموذج إصلاحي فريد من نوعه، على حد قول الشاعر الأندلسي عمارة اليمني:
حَلف الزَّمانُ ليأتينَّ بمِثْلِه ******حنثَت يمِينُك يا زمَانُ فَكفّر
عبد العزيز الإدريسي
عشيّة السبت 7شوال 1441هـ/30مايو 2020
آسفي حاضرة المحيط/المغرب
والحَمدُ لله ربِّ العَالمين