من مقتضيات التثبت والتبصر في العمل الدعوي مراعاة ملابسات أوضاع الخدمة، فمثلما تراعي شروط الأداء داخل الوطن، تراعيها خارج الوطن. وإن العولمة التي تحمل لافتة الانفتاح على الآخر، لا ينبغي أن توهمنا بهذا الشعار، إذ التضييق على العمل الخيري والنشاط الروحي لا يجد القبول والترحيب من دوائر الاحتكار العالمي التي يهمها رؤية العالم متحللاً من كل وازع أخلاقي وروحي. فطبيعة رهاناتها إيجاد الإنسان المستهلك الذي يعتقد أن الحياة تَبَضُّعٌ وتهافت على اقتناء ما تلقي به القوى الصناعية والتجارية.

فمن الطبيعي أن لا نتوقع من الثقافة المعولمة التوسعية بما ملكت من هيمنة إعلام وتشريع وتوجيه، الترحيب بأي دعوة أو روحية تضع في مقدمة أهدافها ترشيد الإنسان وتوعيته روحيًّا وقيمياً، والدفع به على طريق كبح جماح أهوائه، وتدريبه على الفطنة في الحكم على الأشياء، والقدرة على اتقاء البواعث الاصطناعية والأيديولوجية العاملة على تعميق قابلية “البهيمية” فيه من خلال شحذ روح التحلل واستشراء أدواء الاستزادة في الماديات والاستهلاكيات.

 لا نتوقع من الثقافة المعولمة الاستهلاكية أن ترحب بأي دعوة أو روحية تضع في مقدمة أهدافها ترشيد الإنسان وتوعيته روحيًّا وقيمياً.

الخدمة، وواقع عولمي مؤلم:

إن ثقافة التهييج المادي الماكر الذي تتبعه الرأسمالية الاحتكارية اليوم، بما يصبغ روحيتها الماركوتنغية من توجه إغرائي مطلق العنان، لهي النهج الذي تتبعه القوى الابتزازية العالمية في تدجين الشعوب. فقد استعاضت عن الاحتلال المباشر للأمم باحتلال آخر ناعم، هو أخطر ما يكون من حيث القدرة على ثني العنق، وتجريد الأمم والشعوب من مناعتها التي ظلت تنافح بها ضد استهدافاته لشخصيتها ومقومات تماسكها ومنظومات قيمها.

وإن دور الإعلام المعولم، المتخطي لكل الحدود، والمستهتر بكل القدسيات، إلا قدسية المال الْمَرْبِية مصادره، وطرق كسبه وإنفاقه، ليتصدر الخطوط في ترويض البشرية على الطاعة والانسياق الأعمى للرذيلة والتسفل، وإن أخطر ما انتهى إليه فعل التدجين الإعلامي للإنسان المعاصر أن بات يستعبد المجتمعات، ويخضعها لتأثيراته الإفسادية، بل لقد بات الإعلام ظاهرة عولمية إدمانية أخرى، لا يقدر الإنسان المعاصر عن الانفكاك عن سلطانها الفتاك، إذ أذعن لها، فبات ينام ويستيقظ على البرامج المفتتة للقيم، بدءا من أشرطة الكارتون، وهو ما انتزع الحكمة منه، بحيث تطبعت روحه على ملابسة السخافات، والتدنّي الفكري، والشعوري. إن الثقافة السمعية البصرية التي نَمّطها الغرب على قوالب تخرب الروح، قد أفقدت الإنسان المعاصر غيرته على الشرف، وجعلته يتقبل وضع التراجع والامتهان الذي قلص المسافة كثيرا بين الكائن البشري والحيوان، لاسيما من حيث تحكم الغريزة، وتيقظ حس الافتراس والتبذل.

إن ولع الإنسان اليوم بتجديد جهاز النقّال مثلا، وشغفه بتشغيله طوال اليوم، لهو وجه من هذه الكلبية البافْلوفيّة التي جرّتنا إليها ثقافة التسوق. إن قوة الإنسان تتبدد على هذا النحو الانسياقي دون أن يعي ذلك.

 الخدمة، وروحانية الإسلام:

كلفت روحانية الإسلام الإخلاد إلى السكينة في حلقة الذكر، وإلى التأمل في حضرة الترتيل القرآني، وإلى التجنيح عند التحول من سكينة الصلاة (بوجهَيها الجهْري والسري) إلى سكينة الذكر وتأدية المعقبات، فضلا عن التنفل آناء الليل وأطراف النهار، فساقنا ذلك إلى وضع من الاستجمام الذي يتخلل يومنا، ويورثنا الصلابة الروحية والمعنوية، ويحفظ مخزوننا من القوة والحيوية، عكس ما تفعله هذه الثقافة العولمية التي تستنـزفنا على نحو درامي خطير.

 روحانية الإسلام كفلت الإخلاد إلى السكينة في حلقة الذكر، وإلى التأمل في حضرة الترتيل القرآني.

إن فضيلة الصمت والقصد في الكلام التي ظلت ممدَّحة إلى عهد قريب في ثقافات العالم، قد عصفت بها ثقافة الاتصال، بحيث أحالت الإنسان إلى كائن ثرثار، لا قدرة له على التركيز، لأن استرساله في المكالمات، والمواجهات الشبحية، يستهلك حتما ما له من احتياط ذهني ومرصود عقلي ووجداني كان في الوسع أن يتيح له تنفيذ شيء نافع، ودائم.. إن الاستغراق في مواقف التواصل قد شغل الإنسان وحرمه من أن يجد بهجة الامتلاء.

——————————

المصدر: سليمان عشراتي: “الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن”، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، ص: 171-173.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.