من أشهر شبهات الغرب أن المسلمين عندهم خوف شديد من الله، أمّا النصارى فالرب عندهم هو رب المحبة. نعم، الإله لا يختلف باختلاف الشرائع والناس، فالله واحد أحد منزه عن الجنس والعدد، لكن أتباع الشرائع كثيرًا ما يحاولون تصوير إلههم بأنه يختلف عن إله الآخرين ليثبتوا علو إلههم؛ أما المسلمون بوصفهم مؤمنين بالحساب فيدعون الله بقلوب ملؤها الخوف والشوق أيضًا، ويتتبعون الهدي الإلهي، ويتوكلون على الله، فيشعرون بانبساط القلب النابع من الرجاء، ويعلمون أنهم إذا اتبعوا الهدي الإلهي فلا خوف عليهم في الآخرة إن شاء الله تعالى، فيبذلون أقصى ما لديهم ليراقبوا الله في حياتهم كأنهم يرونه «فإن لم نكن نراه فإنه يرانا».
لولا الطمأنينة العظيمة عند الفرد لما استطاع بلوغ الدرجة الأسمى وهي الرضا.
إن الله هو الحق المطلق لا يحتاج إلى ما يثبت علو مكانته، فكم من الأدلة على قدرته المطلقة وإحاطته بكل الأشياء وما يدور من حولنا، وعالم المخلوقات ليس ما نراه فحسب، فقد عرفنا الإسلام بقوى خفية كثيرة في الكون وما حوله وفي المجموعات الشمسية، ويؤكد القرآن كثيرًا أن كل ما في الأرض والسماء خلق من أجلنا، ويخص الصالحين والصالحات بأنهم لا يمسهم من خلقه سوء ولا ضرر.
ولم يستطع بداية كثير من قراء القرآن أن يصدقوا أن للبشر قدرة على تكثير القوى العديدة من حولهم، واستغلالها فيما ينفعهم وفي صنع كثير من وسائل الفناء، فكل شيء يمكن أن يتكاثر بالتعاون بين القوى أو بدونه بأن يتكاثر عن طريق إنتاجه هو، والباعث لكل إنسان في سعيه إلى نشر ذريته أو إلى القضاء على أعدائه في الأرض هو الرغبة في ضمان الحياة أو السعادة الأبدية، لكن القرآن ينبهنا بأن هذا ليس سبيل السعادة والعظمة، فلا مسوغ لاضطهاد أي إنسان في أي مكان جريًا وراء الأوهام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (سُورَةُ الفَتْحِ: 48/10)، ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (سُورَةُ الفَتْحِ: 48/14).
يرى كولن أن التفكير الإنساني السطحي قد ينتج حيرة وجدلًا في الرسالة القرآنية.
فنعمة الله ورحمته عامّتان، ولكن هذا لا يعني أن الله لن يعاقب من يحيك المكايد، ويرتكب الشر ضد أبرياء أو أشياء هي مظهر للنعم الإلهية في الأرض. نعم، يعجب كثيرون قائلين: كيف يمكن للإله الرحيم أن يقسو بعقاب من اكتسب إثمًا، فهل هذه مفارقة إذ قضى الله بالنقص في البشر وقيد حريتهم في إدراك جوهر الوجود الإنساني وعلاقته بالله وبالكون؟!
إن التفكير البشري الساذج قاصر في كثير من الجوانب؛ وهذا يؤدي إلى كثير من الفهم الخاطئ حتى في القضايا المادية في الحياة، فما بالك بالعوالم الروحية الأكثر تعقيدًا في فهم واتباع التوجيهات الخفية التي ينطوي عليها كلام الله؟ لقد فوض الله كثيرًا من الطاقات والقدرات لمنظومة القوى الطبيعية وللجنس البشري عامّة وللأمم والأفراد خاصّة، وأرشد الناسَ بالأنبياء إلى ضرورة العناية بالمهتدين ونبذ ما في غيرهم من خصال ذميمة؛ ولتوضيح هذا أكثر للعامة يكرمنا القرآن بقصص السابقين، فمعظم الناس المؤمنين وغيرهم يعرفون أن في القرآن كثيرًا من القصص المذكورة في الكتب المقدسة الأخرى.
ليس سهلًا أن نفهم حكمة سرد القصص في الكتب المقدسة، ومن السهل التلاعب بتفسير آيات معينة في أي كتاب ديني وإساءة توظيفها لأسباب أو مصالح شخصية، دع عنك بعض التناقضات الواضحة، فكثيرًا ما نجد عبارات وأحكامًا معقدة ومركبة في تفاسير الكتب المقدسة، وهذا مردّه قصور في طريقة التفكير أو التفسير، وليست لدينا طريقة تجريبية تستطيع فهم ما يقوله الله في تلك الكتب بدقّة، كما أن الأفكار المسبقة لشخص أو جماعة قد تؤدِّي إلى تأويلات مختلفة فيما يستنبط من عبارة النص أو إشارته في الكتب المقدسة؛ وفي الأمثلة التي يقدمها رسول الله لتأويل الآيات ما يزيل تلك المعضلات، وإذا بلغ الناس الغاية في المعرفة والإخلاص والدّقة عند البحث عن أسرار المعاني العميقة لرسائل الكتاب والسنة فقد ينعمون بمعرفة خاصة ونمط حياة أعلى وأسمى، ولكن ضغوط الوضع السياسي والاقتصادي غيَّبت حتى عن العلماء الرسائل الأساسية الكليّة للقرآن.
ويرى كولن أن التفكير الإنساني السطحي قد ينتج حيرة وجدلًا في الرسالة القرآنية. نعم، قد يجد قارئ القرآن مفردات لغوية في القرآن ظاهرها التناقض غير أن الدراسة الدقيقة تكشف أنها دلالات على أن العواقب تختلف باختلاف نوعية الأفعال والمواقف، ولا يمكن قصر جوهر الرسالات على تلك التعبيرات، فالمبدأ الجوهري الذي نعتمده نحن المسلمين المخلصين للصمود أمام مكر الأشرار المعروفين هو هو، أما غير المعروفين فقد ذكر الله مرارًا أن من جنود ربك من يقينا ممن يمكرون السيئات لمحو الإنسانية والألفة بين الجماعات والمجتمعات المدنية، ويشير القرآن لتلك النقاط في حوادث وقصص وردت في الكتب المقدسة الأخرى أيضًا: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 14/5-7).
كثير من علمائنا بحاجة إلى تدريب جيد يفي بالتعامل مع الازدواجيات الأيديولوجية التي تتراءى لأول وهلة في مواضع من القرآن وفي هذه الحياة؛ فبعض الكُتّاب ذوي الخلفيات الدينية لا يفهم المعنى الأعمق لعدالة الله بمآلاتها الكاشفة عن كثير من النعم والمظاهر القاسية لمنظومة العدالة الطبيعية؛ فاجتهد كولن وأبحر ليفهم ويُفهِم محبّيه كيف يمكن السير في أعمالهم على السبل المباركة التي شرعها الله، وكيف يمكن حماية الناس من مخططات القوى الشيطانية الشريرة ومكايد المفسدين المضرة بالناس وببيئتهم.
ولا يمكن لأي متكبر أو جاهل أن يسير على طريق الحكمة والعمل هذا. نعم، الإسلام ليس اسمًا للمثل والمبادئ، بل هو رؤية لحياة أفضل وأطهر من أجل الناس جميعًا أيًّا كان العرق أو الدين أو الجنس، فالعثور على هذا الطريق فرض عين والدعوة إليه فرض كفاية.
“إن الذين حدّدوا موقعهم أمام الله سبحانه، هم في توازن دائمي سواء في حياتهم الدينية أو في علاقاتهم ومعاملاتهم مع الناس أو في مراقباتهم النفسية الخاصة بهم”.
“…وقد ربط القرآن الكريم بآياته المختلفة، كون المؤمن مؤمنًا حقًّا، بمدى تنسيقه لكلامه وسلوكه وعالمه الداخلي بل جميع أطواره وفق الصدق، ومدى نسجه لها جميعًا حول الصدق، وكذلك أكدت الآيات الكريمة أن هذا التنسيق والتنظيم بالصدق هو أساس سعادة الدنيا والآخرة[32]”.
وكولن على قناعة راسخة بأنه من السهل الدعوة إلى التشريع والقيم الدينية على أساس رسائل القرآن الظاهرة والباطنة، ولكن ما أصعب إدراك قيمتها أو اتباعها في سياق الواقع السياسي والضيق الاقتصادي، ففي الحديث الشريف: “لَنْ يُدخِل أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ”[33]، وبرهن الإسلام بشتى الطرق على أنه لا ولاية أو قداسة تعد كفارة لذنوب الفرد أو الجماعة أو الأمة، وهذا لا يعني أنه يقلل من شأن القوى والطاقات الروحية للأتقياء الأنقياء، فحياة التقوى تختلف عن نمط حياة الفسق التي تغوي أيّما غواية وتشبع هوى أصحاب الذنوب.
وليس في جهاد محبّي كولن الفكري والروحي أية رغبة في الحكم أو السياسة في تركيا أو غيرها، لكن خُطَب كولن وكتاباته حرب فكرية مبتكرة دقيقة جدًّا ضد ألاعيب حفنة سياسية وعسكرية للاستيلاء على المال العام، وهو يفرق بين مشيئة الله المطلقة ومنظومة العدالة القائمة للقوى الإلهية أو الشيطانية في الأرض وفي المجموعات الشمسية المعروفة للعقل وغير المعروفة[34].
والمؤسف أنَّ حكوماتٍ إسلاميَّة كثيرة ما زالت تتصرف بطرق غير مسؤولة ألبتة، وتسيء إدارةَ المال العامّ، فإذا بكثيرين لا يجِدُون كسبًا طيبًا أو تصيبهم عدوى الفساد، ولا علاقة لهذا بسوء فهم المسلمين للنظام الديمقراطي أو سيادة القانون كما يظن أكثر الغربيين، فجل الزعماء وحكام المسلمين لا يكترثون بشعوبهم مطلقًا، ومن مؤشرات وجود هذه الظاهرة الاعتقاد السائد بين النخب الحاكمة وأوساط المال والأعمال الحديثة بأن معظم الجماهير عبء اقتصادي لا لزوم له، وتحويل ثروات الشعب إلى الغرب لحسابهم الخاص، يقول يلدريم:
“خلافًا لما في معظم أنحاء العالم تسود في الشرق الأوسط فكرة الدولة المستأجرة لوفرة الثروات والطاقة الطبيعية، وهي لا تعتمد على رعاياها في مواردها المالية أي الضرائب، فتحصل الدولة والنخبة الحاكمة على مواردها من بيع الثروات الطبيعية في الأسواق العالمية… ويؤدي عدم اعتماد الدولة على المجتمع إلى غياب المساءلة الديمقراطية أمام الشعب”[35].
الإله لا يختلف باختلاف الشرائع والناس، فالله واحد أحد منزه عن الجنس والعدد.
نعم، نظام الدولة القومية في تركيا استثناء من هذه الظاهرة، فهي تفصل تماما بين آليات الدولة والمصالح المجتمعية، فرغم كل أشكال الإيذاء السافر والعنيف لمشاعر الجماهير الدينية استطاع المفكر «فتح الله كولن» أن يدعو شعبه بنية حسنة وإشارات فياضة بالمودة إلى محاولة التوحيد بين المجتمع والدولة بدلًا من إدخال قضايا يغلب عليها الطابع الديني في السياسة وألاعيبها، وهذه الحكمة تفتقر إليها الحركات الإسلامية المعاصرة في مناطق كثيرة من العالم.
إن صلة الروح الإنسانية بخالقها مسألة دقيقة ورقيقة، فلولا الجمع بين الخوف من سخط الله ورجاء محبته ورحمته في القلوب لما صمدت أية قضية عظيمة في الأرض طويلًا، ولولا الطمأنينة العظيمة عند الفرد لما استطاع بلوغ الدرجة الأسمى وهي الرضا، ومعناها الاجتهاد الدؤوب لتحقيق الأفضل في أسوأ الظروف، وبناء حياة ناجحة بلا معصية.
ويُعدّ كولن مثالًا مضيئًا في هذا المقام؛ فهو لم يخرج على حكومته أو شعبه قط، بل حقق أهدافًا دينية وروحية لم يستطع كثير من الدعاة والسياسيين المعاصرين إدراك قيمتها الحقّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جلال الدين الرومي: الديوان الكبير، رقم الغزل: 563.
[2] فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-3، «الخُلّة»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 268-275.
[3] فتح الله كُولَن: التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح-3، «الولي وأولياء الله»، نشر دار النيل التركية، إسطنبول 2012م، (لما يترجم عن التركية)، ص 72.
[4] فتح الله كولن: التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح-1، ص 22.
[5] http://fgulen.com/en/press/interviews-claims-and-answers/25016-claims-and-answers
[6] Ali Ünal, «Foreword,» Key Concepts in the Practice of Sufism: Emerald Hills of the Heart, Vol. 3, M. Fethullah Gülen, New Jersey: Tughra Books, 2009, p. ix.
[7] Ali Ünal, Ibid., Vol. 3, p. x.
[8] Ali Ünal, Ibid., Vol. 3, p. xii.
[9] فتح الله كولن: التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح-1، ص 20.
[10] فتح الله كولن: المصدر السابق، ص 22.
المصدر: مايمول أحسن خان، فتح الله كولن: الرؤية والتأثير تجربة فاعلة في المجتمع المدني، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.