إن الإسلام يَعتبر العدلَ والاستقامة -في أوسع أُطُرهما- نمطَ حياةٍ للفرد والعائلة والمجتمع ، نعم، إن الفرد الذي رَبَطَ حياتَه بالإسلام، يفكر في استقامةٍ ويعيش في استقامة، ويسعى للبقاء في إطار الحق دائمًا، ويتخذ موقفه ضد الظلم والحيدِ عن الحق، بدءًا من نفسه، ويسعي جاهدا للحفاظ على حقوق الآخرين مثلما يسعى للحفاظ على حقوق نفسه، بل يرعاهم أكثر بدقة متناهية. فيعيش حياة موزونة وكأنها مشدودة إلى ميزان.
إن مجتمع عصر السعادة والمهندسين العظام لتاريخ أمتنا، هم الذين مثلوا الإسلام حق التمثيل، سواء في حياة “الفكر والحركية”، أو في عالم الوجدان.
جريمة بحق الإنسانية
والإسلام يعُدُّ المساواة مَطلبا للحق تعالى ولازمًا من لوازم توقير الإنسان، ويَعُدُّ الإخلالَ بها أو إبطالها جرمًا عظيمًا بحق الإنسانية. فهو يتخذ موقفا واضحا ضد التمييز بسبب اللون أو العِرق أو الإقليم أو الطبقة الاجتماعية، ولا يَفْـتُرُ في الكفاح الفكري ضد هذا الفهم المنحرف في كل مجال. والإسلام يهتم اهتماما بالغا بمراعاة فوارق الاستعداداتِ والمهارات ويشجِّع على تنميتها، ويَرعى تكافؤَ الفرص والاستفادةَ المتساوية من الإمكانات. فهو يرفض الكيانات القائمة على أساس الأصل والأرومة، ويُبطل -إبطالاً باتا- الحاكميةَ لفئة معينة كنوع من الأوليغارشية (أي حكم الأقلية) ولو في أي وحدة من وحدات الحياة. إنه يفسح السبيل للمواهب الفردية ويحفز النجاح، ويَعُدُّ ذلك من ضروراتِ ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ﴾(الزخرف:32) ولكنه يواصل الكفاح ضد الأفكار المونارشية .
الإسلام يحتضن كل فرد وفئة بنفس المستوى من الدفء والحنان. ويأخذ بعين الاعتبار حاجاتِ الجميع وطلباتِهم في خط سويّ واحد،
المساواة
الإسلام يحتضن كل فرد وفئة بنفس المستوى من الدفء والحنان. ويأخذ بعين الاعتبار حاجاتِ الجميع وطلباتِهم في خط سوي واحد، وينادي بصوت جهوري أنْ ليس إنسانٌ فوق إنسان، ويؤكد بلا كلل على المساواة وتكافؤ الفرص معًا. ويحمل حملةً لا هوادة فيها على إخماد الاستعدادات في دياجير الإهمال، أو تكبيل القابليات وشلِّها في قيود الميلاد غير النخبوي. ويقف منتصبًا حيال الصعود والرقي من غير حركيةٍ داخلية للفرد أو جهدٍ صادق منه، ويعلن على الملأِ أنَّ هذه الحال غير أخلاقية، ويُرجِع هذه السلوكيات اللاأخلاقية إلى بؤس الروح وانحطاطه.
منهج الإسلام في انتزاع البؤس
والإسلام يسعى إلى انتزاع البؤس والانحطاط والذلة من الأرواح، بإزالة الأسباب والدوافع المادية، وبتحفيز قوة الإرادة الفردية بمشاعر الإيمان والمعرفة والإحسان. نعم، إن صيانة الروح من كل أنواع الدناءة والبؤس والانحطاط، إنما يتأتى باللجوء إلى الدرع السابغ المكوَّن من الإيمان القوي والمعرفةِ الواسعة والمراقبة الدائمة. وإن بلوغ الروح بهذه التجهيزات إلى الإشباع والاطمئنان يَفتح عين الإنسان على أمور حياتية فائقة الأهمية وفوق أمور البدن والجسمانية بأبعاد شاسعة. وعلى الضد، فالمحرومون من التجهز بهذا الجهاز يتعسر -أشد العسر- صونُهم للقيم الإنسانية وصمودهم أمدًا طويلاً. فبؤسُ الروح وانحطاطُه يبعِد الفرد عن ذاتيته، فيكون عرضة للانجراف إلى هنا وهناك، والانصبابِ في هذا القالب أو ذاك، وينجرُّ إلى انفصام لا مفر معه من الوقوع في خدمة أبواب الأسياد، والاسترقاقِ لهم عاجلاً أو آجلاً.
الإسلام ينادي بصوت جهوري أنْ ليس إنسانٌ فوق إنسان، ويؤكد بلا كلل على المساواة وتكافؤ الفرص معًا.
كيف نجمع شملنا من جديد ؟
إن مجتمع عصر السعادة والمهندسين العظام لتاريخ أمتنا، هم الذين مثلوا الإسلام حق التمثيل، سواء في حياة “الفكر والحركية”، أو في عالم الوجدان. فقد نشأوا وتربوا في ظل القرآن والإقليم الفياض للإسلام، وعاشوا أعمارهم في أفقٍ صعبِ المنال يَفصل بين الفناء والخلود. ونحن نؤمن بأنا إذا تَفَهَّمنا الحركيةَ التي أوجدتها -أو توجدها- العقيدةُ الإسلامية في القلوب المؤمنة، فسنفهم الأسباب والدوافع الحقيقيةَ للهبوط والصعود أو السقوط والارتقاء على مستوى الفرد أو المجتمع، بل وسندرك -من جديد- الأسسَ المهمة التي نجمع بها شملنا ونرجع بها إلى وعينا ونلحق بالقافلة التي تأخَّرنا عنها. وأنموذجُنا الذي نَحتذِي به في هذه القضية هي أصولنا الذهبية التي حَملتْ الراياتِ في مراحل الارتقاء كافة، وفي المقدمة رجال عصر السعادة (النبوية). فإذا استَقْوَينا -في خط فهمهم ذاك- بماضينا التليد كمصدر سرعةٍ منطلقة “عن قوة الطرد المركزي”، وتَمَسَّكْنا بجذورنا المعنوية الذاتية أشد التمسك، “وتوكَّلنا على الله، وتشبثنا بالسعي والعمل، واستسلمنا للحكمة الإلهية” -ولا بد من ذلك-، فحينئذٍ لا شك ولا ريب في أن القمم التي تبدو وكأنها عصية على العبور ستتمهد، وستنبسط السهول بلا عوائق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 100
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر ، ونوصي الباحث بالرجوع إلى الكتاب .