إن أي محاولة للإحاطة بشخصية ومدرسة الأستاذ فتح الله كولن تضعنا أمام تحدٍّ حقيقي؛ فالرجل فلتة من فلتات هذا العصر، وقد أعطى في كل المجالات ما يجعله مدرسة قائمة بذاتها، يصعب على الباحث أن يلملم شتات أفكاره بسهولة. ومع ذلك، فإن الغوص في مشروعه يكشف عن “مركزية” واضحة شكّلت المنطلق والغاية لكل هذا العطاء، وهي: مركزية القرآن في بناء الوعي الإيماني.
يُطرح كثيرًا في توصيف مدرسة الأستاذ كولن أنها امتداد طبيعي لمدرسة العلامة بديع الزمان النورسي. ورغم صحة هذا القول في أصله وجذوره، فإني أرى أن في هذا القول “تجوزًا كبيرًا”. نعم، الأستاذ كولن استوعب الرؤية الفلسفية والإيمانية العميقة لرسائل النور، ولكنه تجاوز ذلك بمراحل كثيرة.
لقد انتقل الأستاذ كولن مما يمكن تسميته “فقه الرؤية” عند النورسي، إلى “فقه التنزيل” العملي والتطبيقي. لقد ولج الأستاذ مجالاتٍ وأبدع فيها، وأنتج “عمرانًا بعد إنسان”، وهي أبعاد تطبيقية لم تكن هي المشروع الأساسي عند الشيخ النورسي. هذا الانتقال من “الفكر” المجرد إلى “العمران” الملموس هو السمة الفارقة الأولى لمدرسته.
وإذا أردنا أن نرى هذا المنهج واضحًا، فقد قلتُ لبعض إخواني إن الأستاذ كولن في كتابه “النور الخالد” (في السيرة النبوية) قد “فضح نفسه”! بمعنى أنه كشف بوضوح تام عن “المنهج” الذي يعمل به، والذي أسس عليه كل ما بنى من أعمال ورجال وعمران. فبينما نجد في “البيان الخالد” (تفسيره) خلاصات فكرية عميقة، نجد في “النور الخالد” التطبيق العملي والمنهجية الحركية والتربوية لمشروعه.
إن “مركزية القرآن” عند الأستاذ ليست مجرد قراءة تدبرية، بل هي منطلق لتأسيس رؤية كونية شاملة ترتكز على ثلاثية مترابطة: الله، والكون، والإنسان. فالوعي بالله وصفاته العليا، والوعي بالكون كتجلٍّ لهذه الأسماء، والوعي بالإنسان كثمرة لهذه الرؤية؛ كل هذا ينتقل بالوعي الإيماني من مجرد التصديق النظري إلى “تجربة وجودية” شاملة يعيشها الفرد قلباً وعقلاً وسلوكاً.
ولتفعيل هذه الرؤية، يرتكز الأستاذ كولن على منهاج قرآني لبناء الوعي، يمكن رسمه في ثلاثة مناحٍ محورية أسميها “الثلاثية الذهبية”:
1 القراءة الوجدانية (التزكية): وهي قراءة ترتكز على التزكية الراقية التي لا تخطئها العين في كتاباته. إنها التجربة الصوفية التربوية التي تحتاجها الأمة اليوم بشدة، والتي تدمج الروح بالعلم.
2 القراءة العقلية (التدبر): وهي قراءة تدبرية لفهم سنن الكون، تجمع بين الواقع والغيب، وتتجاوز القراءة السطحية إلى فهم المقاصد.
3 القراءة العُمرانية (التفعيل): وهنا يكمن البون الشاسع بين حركة الخدمة وغيرها. هذه القراءة تنطلق من “التربية بالفعل” لتحوّل المعرفة القلبية والعقلية إلى سلوك حقيقي وآثار مادية ملموسة.
هذه الثلاثية (الوجدانية، العقلية، العمرانية) لا يمكن تجزئتها لفهم مشروعه. كثير من المشاريع المعاصرة قد نرى فيها بريقًا في جانب واحد، لكننا نرى هذه الرؤية الكاملة واضحة في “مشروع الخدمة” كتابةً ووجدانًا وواقعًا وعمرانًا.
ما هي إذن ثمرة هذا الوعي؟ لقد جاهد الأستاذ نفسه وأجهدها في أعمال كثيرة، لكن غايته التي كان يعلنها دائمًا، والتي قلما نسمعها عند غيره، هي “رضا الله عز وجل”. هذا الهدف (الرضا) هو الذي جعل منه خطراً في أعين أصحاب الرؤى المادية المقيتة. لم يكن يسعى لما يسعى إليه “الأقزام” من مكاسب سياسية أو دنيوية، بل كان يبحث عن “عملة” لا يعرفها الكثيرون: رضا الله.
هذا السعي للرضا أنتج ثمرات عملية، أهمها تحويل الإيمان من شعور فردي ميت إلى “فعل حي” ينتج حضارة، وتأسيس ما أسميه “الأخلاق الجماعية”. كان بإمكان الأستاذ أن يعيش في زاويته منعزلاً يبحث عن الرضا الفردي، لكنه انطلق إلى الإنسان والعمران، ليحمل “واجب الاستخلاف” ومسؤوليته. لقد انطلق من “الأنانية” الفردية (أنا خير منه) إلى “الجماعية” والعمل التعاوني، رافضاً “الحدود الجغرافية الوهمية” التي خُطّت في يوم غفلةٍ بقلم رصاص.
إن خصوصية رؤية الأستاذ كولن تكمن في جمعه الفريد بين التجربة الصوفية الروحية، والتحليل العلمي التربوي، والانطلاق العملي إلى فضاء “العمران” وتكوين “الإنسان الكامل”. رحم الله الأستاذ الذي بحث عن “رضا المستخلِف”، وترك لنا مشروعاً متكاملاً لا يزال قادراً على تحرير الإنسان وبناء الحضارة.
