في عالَم “الإنسان” الضعيف، وضمن حدود “المخلوق” المحتاج، يستحيل أن نفصل “الفكر والحركية” عن خطِّ الزمن؛ فكلُّ فكر يكون ضمن وقت معيَّن ولا بدَّ؛ وكلُّ حركة تكون في نطاق زمني بيِّن ولا ريب؛ ولا تنفصم العلاقة السَّننية بين “الإنسان” و”الزمان” إلاَّ بأمرٍ من الملك الديان؛ ولا يكون ذلك إلاَّ في حالات استثنائية نادرة، من قبيل “المعجزات”، أو “خوارق العادات”.

الفعل والثمرة

ولعلَّ الحوار العلميَّ الفلسفيَّ العقديَّ الذي جمع العالمين الكبيرن: ابن رشد والغزالي؛ في البحث عن علاقة “السبب بالمسبَّب” هل هي قهرية جبرية؟ أم هي إلفية اعتيادية؟ لعلَّ هذا الحوار هو وجهٌ آخر من أوجه البحث في العلاقة بين “الإنسان والزمن”؛ ذلك أنه يعالج الفعل الإنسانيَّ وعلاقته بالثمرة الواقعية.

القارئ لتراث الأستاذ فتح الله يبهره ذلكم الاهتمام الشديد والاحتفاء الفريد، بـ”العيد” وما حول العيد.

ويؤكِّد فتح الله على هذه العلاقة تأكيدا بديعا، في الكثير من مقالاته وخطاباته، معتمدا أسلوب التصريف والتمثيل والتصوير؛ من ذلك قوله: “هناك شعلة إلهية تنير الطريق أمام العقل، وتفتح له آفاقًا جديدة، ففي ضوء هذه الشعلة يمكن قطع طريق سنَة في ظرف ساعة واحدة… هذه الشعلة هي الفكر“.

ومن ثم فالورع يعرَّف بأنه “عدم الغفلة عن الله ولو طرفة عين“؛ ثم إنَّ التحرك أبدا في دائرةِ “لله، ولوجه الله، ولأجل الله”، يحوِّل “الثواني والدقائق والساعات والأيام في هذا العمر الفاني أجزاءً من زمانِ طريق البقاء، وتغدو وسائلَ للسعادة الأبدية”. وفي مقام التمييز والاصطفاء، من مدخل وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ(القَصَص:68) نقرأ هذه المفاضلة العجيبة التي جاء فيها: “دقيقة واحدة من تأمُّل الجمال الإلهي يعادل آلاف السنوات من العيش السعيد في الجنة”؛ وباعتماد القياس نقول: إنَّ دقيقة واحدة -في الدنيا- من التفكُّر فيما أمرَ الله أن نتفكر فيه تفُوق آلاف السنين من أيِّ عمل آخر من أعمال العقول والقلوب والجوارح.

روح السفر

وفي سياق آخر، ينوِّه الأستاذ فتح الله بمن سماهم “ذوي الأرواح التي عزمت على السفر إلى الله تعالى“، فيذكِّر أنَّ أمثلَ صفاتهم وأظهرها أنه “لا يمكنهم أن يغفلوا ولو للحظة واحدة عن السفر، وعن تصوُّر السفر، والمعاني والغايات الجليلة التي تُستهدف في ذلك السفر”. فهم بالتالي دائمو التفكير في المنطلقات والمآلات، متَّقدو الأفئدة والألباب؛ لا يعيشون سبهللا، ولا يَحيون كما اتفق.

أسعد اللحظات عندي في الليل هي اللحظات التي أؤدّي فيها الصلاة

ولا نجد إنسانا من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، اغتنم -ويغتنم- ساعات عمره في التفكير والتفكُّر، وفي التأمُّل والتدبر، أفضلَ من رسول الله صلى الله عليه وسلام؛ فهو الذي عاش على الدوام وهو يحمل عاطفة الشوق والوجد لقيام الليل؛ ليتذوق حلاوة المثول بين يدي خالقه في تلك الساعات من الليل”. ولقد كان -فداه أمي وأبي- “يضع جبهته على الأرض، ويبتهل لربه ساجدًا لساعات طويلة“. وممَّا رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه في قيام الليل، كان يتلو أواخر سورة آل عمران: إِنَّ فيِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُوليِ الْأَلْبَابِ * اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فيِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(آل عمران:190-191)؛ فيبلل لحيته وثيابه، بل وحتى موضع سجوده بكاء وخشية.

وصحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جاؤوا على إثره، وتخرَّجوا في مدرسته، ولم يحيدوا عن خطه ولم ينحرفوا عن نهجه؛ فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه، وهو الذي “أركع دولتين عظيمتين، هما الفرس والروم” “لم يتوقف لحظة عن مجاهدة نفسه…” وعن الفكر، والمحاسبة، والنظر…

الحثّ الدائم

ولم يتوان فتح الله طرفة عين عن حث أصحاب الهمم على التفكر، ونهْيِهم عن إضاعة الوقت فيما لا يفيد ولا يغني؛ ومن ذلك وصفه للأبطال في كلِّ عصر بأنهم “يقضون أعمارهم تحت زخّات الإلهام… فيتجرَّعون أذواق ولذائذ وحظوظ البقاء في الفناء، في كلِّ لحظة، وفي كلِّ مرة” وما أبطالُ اليوم إلاَّ السائرون في طريق الحقِّ، العاشقون لدعوة الحقِّ، الدائبون في خدمة الخلق.

ثم إنه يوصي كلَّ واحد من هؤلاء بالبحث بلا كلل، والسؤال بلا ملل، والتفكر في كل وقت وآن، بلا تردد ولا توقف؛ فيقول لكلِّ واحد منهم: “ابحث دائمًا عن مناصب ومناقب جديدة لروحك التي ستدوم وتبقى إلى الأبد. ولا يغيبن عن بالك لحظة واحدة الاحتفاظ بهذه المناقب والفضائل وعدم فقدانها”.

أسعد اللحظات

والأستاذ فتح الله يتحرَّى أوقات النفحات الربانية من مثل وقت الأذان، والسحر، وعرفات، والعيد… وغيرها؛ وهو يدعو إلى اهتبالها، والتملِّي من جمالها، والاستنارة بجلالها؛ بلا حدٍّ ولا قيد؛ فهي هبة السماء إلى الأرض، وعنوان الحبِّ الأبدي والشوق السرمدي. فنقرأ له قوله في هذا الشأن: “أسعد اللحظات عندي في الليل هي اللحظات التي أؤدّي فيها الصلاة”، ولا شك أنه في ذلك يقتدي بالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، ويتمثل قوله: «أرحْنا بها يا بِلال»، وقوله: «وجُعلت قرَّة عيني في الصلاة». ولقد عُرف عن الأستاذ أنه لا يرى النوم الكثير في الليل، وإنما يوصي بالإقلال منه، ويستنهض الهمم لقيامه، وقطع المسافات في جوفه؛ وهو نفسه كان يفعل ذلك دائما وأبدا.

لم يتوان فتح الله طرفة عين عن حثّ أصحاب الهمم على التفكر، ونهْيِهم عن إضاعة الوقت فيما لا يفيد.

ساعات العبادة

أمَّا عن “الأذان”؛ فنقرأ صورة فنّية جميلة جاء فيها: “الأذان، هو الصوت الحقيقيُّ والموسيقى الحقيقيَّة لهذا البلد، التي لا تصْمت في أيِّ ساعة من اليوم، والتي تعبِّر عن نفسها في كلِّ وقت بأبعاد مختلفة…” ويبسط هذا المعنى بقوله: “ألفنا في هذا البلد منذ الأمس إلى اليوم أن ننتظر ساعات العبادة، وأن نستمع إلى أصوات الأذان؛ كأنها صرير أبواب السماء”. وهو ينقلنا إلى العالم العلويِّ، وإلى ربوع عالم الملائكة، من خلال لحظات الأذان السعيدة، ويجعلنا ننغمس فيها بكلِّ وجداننا، ولا نستمع إلى كلمات المؤذن مجرَّد استماع فج، فيقول مشوِّقا ومبشِّرا: “في معظم ساعات الأذان وأوقات العبادة نحس كأنَّ ألوان العالم الآخر، وأنفاس الملائكة -التي تسمو بأرواحنا وتطير بها- تملأ جوانحنا، فينقلب الوجود آنذاك إلى حال تنتشي فيها الأرواح، وينقلب الزمن إلى زمن سحريٍّ، يحمل لنا جمالا غامضا مليئا بالأسرار”.

أمَّا “عرفات” فهي مظهر آخر من مظاهر الرحمانية والرحموتية، وهي عنوان آخر من عناوين القرب والشوق والعشق؛ مَن لم يجرِّبها ولم يعشها، ومن لم يحلم بها ولم يتشوق إليها، فهو مغبون محروم؛ ذلك أنَّ “ الدقائق الحانية المليئة بالعشق والوجد والشِّعر (في عرفات) تبرق من منافذ ومن عيون أرواحنا على الدوام وتلتمع”…

نسمات العيد

والقارئ لتراث الأستاذ فتح الله يبهره ذلكم الاهتمام الشديد، والاحتفاء الفريد، بـ”العيد” وما حول العيد؛ ولذا نقرأ له الكثير من المقالات في هذا الشأن، منها: “عندما تنبض القلوب برقَّة”، و”الشهر الماثل بالمغفرة”، و”العيد السعيد”… وغيرُها كثير؛ ومما ورد في هذا الباب أنه “في ساعات العيد ودقائقه الزرقاء زرقة السماء، نستمتع -بجانب جميع اللذائذ الجسدية المشروعة- ونأخذ نصيبنا من موائد الفكر والمشاعر، ونستمع إلى تناغم أرواحنا”. ولا بدَّ أن ينوَّه أنه “يعيش أصحاب القلوب المؤمنة الذين أدركوا العيد دقائقه وثوانيه النورانية التي تعدل السنوات، ويشعرون في جوِّ الفرح والحبور المحيط بهم أينما ذهبوا”…

ولا يفوت الأستاذَ أن يلفت الأنظار إلى الأطفال كيف يحيون هذه الساعات السعيدة من العيد، والأطفالُ دوما هم المظهر الأرقُّ، والمثال الأصدق؛ فيقول في ذلك: “ينتهز الأطفال ساعات العيد ودقائقه المفتوحة على الجميع، والمتميزة بالمسامحة، ليشاركوا بعواطفهم الجياشة وبأصواتهم التي تشبه زقزقة العصافير…”.

لكل مقطع حظه

وهكذا، تنال الساعةُ، والدقيقة، واللحظة، وطرفة العين… وغيرها من أجزاء الزمن، حظًّا وافرا من العناية والاهتمام، ومن التفنُّن والإبداع، في فكر الأستاذ وفعله؛ حتى إنها لتنزَّل إلى عالم الخدمة، أوامرَ لطيفة، ودعواتٍ حفيفة؛ تحوِّل تلكم الشرائح الذهبية إلى طاقة فعَّالة، وإلى وجود حضاري مثمر، وتُحيل الدنيا ميدانا خصيبا للمنافسة، والمسابقة، والحرص على فعل الخيرات، واجتراح المبرات، واغتنام النفحات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: الزمن والوقت، نصوص ومفاهيم مؤسسة على الرؤية الكونية لفكر الأستاذ فتح الله كولن، د. محمد باباعمي، دار النيل للطباعة والنشر

ملاحظة: العبارات الملونة باللون الأسود الداكن هي عبارات الأستاذ فتح الله كولن مقتبسة من بعض مؤلفاته.