لا وقت للنوم في تركيا
تشهد تركيا حالة نهوض حضاري شامل، لتلحق بأول دولة إسلامية غادرت مربع الانحطاط والتخلف إلى التقدم الحضاري المنشود، وهي ماليزيا، غير أن نهضة تركيا ستكون آثارها عظيمة، لأنها أكبر من ماليزيا مساحة وسكانا، ولأنها أغنى في ثرواتها البشرية والطبيعية. ونظرًا لعبقرية الجغرافيا والتاريخ فإنها ستصبح عملاقًا خلال بضعة عقود.
تشهد تركيا نهضة اقتصادية كبرى في عصر الركود الاقتصادي العالمي، حيث تضاعف متوسط الدخل الفردي والقومي خلال فترة وجيزة، انعكست على التحسن الكبير الذي شهدته حياة المواطن التركي، وتحسن الخدمات التي تُقدم له في مجالات الصحة والتعليم والاستثمار، فضلاً عن ارتفاع منسوب الحريات والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان.
وانعكس ذلك كله على الدور الكبير الذي صارت تلعبه تركيا على المستويين الإقليمي والدولي، حيث صارت تلعب دورًا مميزًا وبالغ الأهمية، وتساهم بفاعلية في صناعة حاضر العالم ولا سيما في منطقتي وسط آسيا والشرق الأوسط.
ومن المعلوم أن الذي يصنع هذه التجربة العظيمة هم الإسلاميون، سواء كانوا أصحاب المشروع السياسي، أو أصحاب المشروع المدني الحضاري وعلى رأسهم تيار الخدمة الذي أسسه ويقوده المفكر والداعية والمربي العظيم فتح الله كولن الذي حصل على المركز الأول على مستوى مفكري وعلماء العالم عام 2008 في استبيان أجرته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
1- الوتد أعظم من الجبل
من الحقائق المعلومة بالضرورة في علم الجيولوجيا أن المساحات المغمورة من الجبال وهي المسماة بـ”الأوتاد” أكبر من المساحة المنظورة من هذه الجبال، فإن نسبة تمدد أي جبل في عمق الأرض تساوي من 10 إلى 15 ضعفًا لارتفاع الجبل فوق سطح الأرض، وبهذه الأوتاد اكتسبت الجبال وظيفتها الواضحة في التسمية القرآنية لها بـ”الرواسي” التي تساهم في تثبيت الأرض بجانب الجاذبية!.
وفي تركيا فإن أكثر القراء العرب يحيطون علمًا بالمشروع السياسي للإسلاميين الأتراك، وهي المساحة المنظورة من هذا المشروع، أما الأوتاد فلا يعرف معظم هؤلاء أبجدياتها وهي الممثلة بمشروع تيار “الخدمة” التربوي الاجتماعي العظيم، ولذك يمكن القول ابتداء بأن “الخدمة” لافتة متواضعة لتيار إسلامي مدني عريض يسجل حضورًا متعاظمًا في تركيا على المستويين الأفقي والرأسي، أو الكمّي والكيفي، من خلال مشاريع تربوية ومعرفية واجتماعية وصحية وإعلامية وثقافية عصية على الوصف، إلى درجة أنها أشبه بدولة داخل الدولة، لكنها بعيدة عن الأغراض السياسية تمامًا.
2- الجسر المعلّق بين تركيا والوطن العربي
يمكن القول إن تركيا إحدى عجائب العالم، وإن أعجوبة تركيا هي إسطنبول، وإن الجسر المعلق الذي يربط الشطر الآسيوي بالشطر الأوربي من المدينة هو أعجوبة إسطنبول.
وكنتُ في مناسبة احتفائية بمجلة حراء التركية -أقيمت في مدينة عدن- بحضور رئيس تحريرها نوزاد صواش قد ذكرتُ بأن إسطنبول تمتلك جسرًا آخر أطول وأعظم لأنه يربط بين أهم قوميتين في العالم الإسلامي وهما: التركية والعربية، هذا الجسر هو مجلة “حراء” الثقافية الشاملة التي تصدر من إسطنبول باللغة العربية وتوزع حوالي أربعين ألف نسخة في الوطن العربي، ويساهم في الكتابة المتميزة فيها ثلة من كبار المفكّرين العرب والأتراك.
هذه المجلة وجهت لي عام 2010 في شهر “مايو” دعوة لزيارة تركيا للتعرف على مشاريع الخدمة عن قرب، ووجهت لي عام 2011 “يوليو” دعوة كريمة أخرى للمشاركة في ورشة علمية ضخمة لدراسة أفكار فتح الله كولن عن كثب مع قرابة ثلاثين من المفكرين والباحثين العرب توزعوا بين المغرب والجزائر ومصر وتونس والأردن واليمن ولبنان والأردن والسعودية وأوربا، إضافة إلى العشرات من الأتراك الذين جاؤوا من داخل تركيا ومن مناطق أعمالهم في أوربا وأمريكا وآسيا الوسطى.
الجدير بالذكر أن مجلة “حراء” هي المجلة العربية الصادرة من الأكاديمية العلمية ومجموعة “قَيْنَق” التي تتبعها عشرات المجلات الثقافية والمتخصصة، وذلك بالعديد من اللغات العالمية، وهي جميعها مجرد لبنة في الجدار الثقافي لتيار الخدمة الذي يمتلك بنيانه العديد من الجدر الاجتماعية والاقتصادية والصحية والإعلامية والتعليمية، حيث يساهم هذا التيار بقوة في صناعة حاضر ومستقبل تركيا وكذا العالم الإسلامي، بل والعالم أجمع، حيث يقود -مثلاً- ألفي مدرسة تتوزع في حوالي مائة وستين دولة في الكرة الأرضية، إضافة إلى جامعات ومعاهد ومراكز أبحاث ومؤسسات حوار ومنتديات وصحف وقنوات فضائية ودور نشر وشركات تجارية عديدة وبنوك ومستشفيات.
وكانت مجلة “حراء” قد عقدت عدة اجتماعات تعارفية وحوارية في مصر والجزائر والمغرب واليمن والأردن ولبنان والخليج العربي، لكن الورشة التي عقدتها في إسطنبول في الفترة من 20 -25 يوليو 2011 هي الأحدث والأضخم، مما جعل هذه المجلة جسرًا بالفعل ساهم في تعريف العرب بالأتراك والعكس، انطلاقًا نحو إعادة اللحمة بإقامة زيارات متبادلة ومشاريع مشتركة.
3- الليل سبع ساعات
في الصيف يصلي سكان تركيا المغرب في التاسعة مساء، ويصلون العشاء في الحادية عشرة مساء ويؤذن للفجر في الرابعة صباحًا، أي أن الفرق بين العشاء والفجر هو خمس ساعات فقط، وجملة ساعات الليل لا تتعدى السبع ساعات، وهذا يعني أن ساعات النهار طويلة، حيث تناهز السبع عشرة ساعة.
ماذا يفعل الناس بكل هذه الساعات في النهار؟ وكم ينامون في الليل؟
من يتتبع تركيا عن كثب يلاحظ أنها أصبحت في السنوات الأخيرة ورشة كبرى، فبعد أن كانت تستورد كل شيء صارت تصدر كل شيء، حتى أن صادراتها تضاعفت مرات عديدة خلال العقد الأخير، ويكفي أن نعرف أن الليرة التركية وفرت بضعة أصفار، فقد كان الدولار بمئات الآلاف من الليرات، أما اليوم فإن الدولار يساوي ليرة ونصف.
يبدأ الدوام الرسمي في الدوائر الحكومية في الثامنة صباحًا وينتهي في الخامسة مساء، أما في مؤسسات الخدمة فيبدأ رسميًا في السابعة صباحًا وينتهي في السادسة مساء، أي أن مؤسسات الخدمة تتفوق على مثيلاتها بساعتين، أما أفرادها فإنهم يتسابقون على الإنجاز والإنتاج، وقد رأينا حجم الإنجاز المبهر الذي قام به هؤلاء المجاهدون في ساحات العمل والإنتاج وفي ميادين التعليم والتربية والتغيير، فكثير من هؤلاء لا يرون أهاليهم إلا لِمامًا، وقد قابلتُ أحد العاملين في الخدمة فذكر بأنه كان يعمل في “قيرغيزستان” لمدة أربعة عشر عامًا، فاستدعاه إخوانه في إسطنبول للمجيء إليهم فظن أنهم يريدون إراحته من عناء العمل بعد كل الجهود التي قام بها في ذلك البلد، وأنهم لذلك ربما أحالوه للتقاعد، لكنه فوجئ بأنهم أوكلوا إليه عملاً يحتاج إلى عشرة أضعاف الجهد الذي كان يقوم به في قرغيزستان، ولذلك فإنه لا يتذكر بأنه عاد إلى منزله قبل الثانية عشرة مساء، وهناك من ينامون في مكاتبهم لسويعات قليلة.
وهكذا يواصل رجال الخدمة الليل بالنهار في عمل حثيث في شتى المجالات لخدمة بلدهم وأهاليهم وأمّتهم.
إنهم أصحاب الهمة الذين حققوا قفزات عالية، إنهم طلائع “الجيل الذهبي” الذي ربّاه كُولَن وبشّر به، إنهم يسابقون الزمن، يُسرجون القناديل ويُشعلون الشموع من أجل تقريب الفجر، يستخدمون معاول هدمهم ضد صروح الليل البهيم من خلال الأمر بالمعروف أكثر من النهي عن المنكر، بإيجاد البدائل في كل الساحات والميادين الحياتية.
4- تيار “مدني” يعيش الفترة “المكية”
الخدمة هو تيار مدني حضاري، لكنه من حيث العزائم يعيش أحكام الفترة المكية، فالزكاة مثلاً المعلومة هي في عرفهم إنفاق البخلاء، فقد قابلنا مجموعة من التجار وأخبرونا أن أستاذهم كولن علّمهم أن الزكاة المعلومة في مثل هذه الظروف هي عمل البخلاء، وأن الأمر يحتاج إلى تطبيق أحكام الفترة المكّية، ومن ذلك الإنفاق بلا حدود، والتحرك بدون حدود، والتضحية بدون حدود.
إن التسابق بين هؤلاء على استنقاذ الفجر من بين براثن الليل يجعلنا نقول بثقة بأن الأتراك قادمون، فإن الفارق بين زيارتي السابقة واللاحقة لإسطنبول لا يزيد عن سنة وشهرين، لكن الفارق على الأرض كان كبيرًا، كأنني غبتُ سنوات، وهذا واضح في كل زوايا مدينة إسطنبول التي صارت متحفًا مفتوحًا وبستانًا كبيرًا، رغم أنها تضم بين أحضانها أقل بقليل من الشعب اليمني كله (17 مليون نسمة) إضافة إلى الأرقام الكبيرة التي أنجزها الاقتصاد التركي على مستوى العالم حتى صار الاقتصاد الرابع عشر عالميًا.
أما بالنسبة لأصحاب الخدمة الذين استضافونا، فقد كانوا يتحدثون عن ألف مدرسة في 140 بلدًا في العالم، صارت هذا العام (2011) ألفين في 160 بلدًا في الأرض، وكانت القنوات الفضائية سبعا وصارت الآن عشر قنوات، وكانت الجامعات ثمانيا وصارت الآن إحدى عشرة جامعة، وصحيفة “زمان” كانت تطبع حوالي 900 ألف نسخة زادت هذا العام عن المليون. وهكذا فإن الأرقام تتوالى، والأعمال تتبارك، والمؤسسات تتناسخ، والخطط تزداد طموحًا.
إنهم يطمحون لبناء خمسين جامعة، ويطمحون إلى التأليف والترجمة والطباعة بمائة لغة في العالم، ويطمحون أن يكون لهم سينما عالمية، وأن تكون لهم جائزة بحجم جائزة “نوبل” بعد خمسين سنة، وهناك طموحات كثيرة وعالية.
إنهم أولاد الشيخ فتح الله كولن الذي لم يتزوج، لكن الله وهبه كل هؤلاء الأولاد الذين يسابقون الريح ويطوون الزمن في مواجهة الليل، إنهم أعادوا للمسلمين عامة والأتراك خاصة ثقتهم بنفسهم وبدينهم وثقافتهم، إنهم يساعدون المسلمين على الانغراس في قلب العصر، ناقلين إياهم من الهوامش إلى المتن.
هؤلاء هم أبناء “فتح الله” وأحفاد محمد “الفاتح” الذين يقودون اليوم عملية ضخمة لـ”فتح” العقول والقلوب.
5- تبييض وجه تركيا
أبناء فتح الله اليوم أزالوا السواد الكالح عن وجه تركيا، وأعادوا له بياضه وتألقه.
أصبح الظلام محصورًا ومحاصرًا، كل يوم تتسع مساحات النهار، وتزداد قناديل الفجر، مبشرة بنهار حضاري إنساني شديد الألق.
إن مؤسسات الخدمة هي الأولى في تركيا، فهم يمتلكون عددًا من المؤسسات التي تحتل المراكز الأولى في تركيا وبعضها على مستوى الشرق الأوسط برمته.
وصحيفتهم “زمان” هي الأولى على مستوى تركيا ويريدونها الأولى على مستوى العالم الإسلامي، ومطابعهم هي الأكبر. ووكالة “جِهَان” للأنباء هي الأولى، ودار نشر “زَنْبَق” هو أكبر دار نشر للكتاب المدرسي في تركيا، واتحاد “تُوسْكُون” لرجال الأعمال والصناعة هو الأول والأكبر في تركيا.
أما المدارس والجامعات فهي أساس كل هذا التفوق، وهذه بعض الأرقام التي تجسد تفوقها في إيجاد الإنسان الجديد، الإنسان المتفوق في عبادة الخالق وخدمة الخلق:
- توجد في تركيا 33 ألف مدرسة أساسية حكومية وأهلية وتقوم الحكومة بعمل ترتيب لكل هذه المدارس وفق معايير موضوعية دقيقة، فحصلت 38 مدرسة من مدارس الخدمة على مراكز متقدمة ضمن المائة المدرسة الأولى، ولم تخرج بقية مدارس الخدمة عن الألف الأولى في الترتيب بين سائر مدارس الدولة.
- توجد 9 ألف مدرسة ثانوية حكومية وأهليه في تركيا، دخلت خمس وعشرون مدرسة من مدارس الخدمة ضمن المائة الأولى.
- وزعت الحكومة اثنتين وستين ميدالية على المدارس المتفوقة، حصلت مدارس الخدمة على ست وأربعين ميدالية منها.
- تقيم الحكومة “أولمبيادا” سنويا للمتفوقين، ويأتي ثلثا المتفوقين في هذا الأولمبياد من مدارس الخدمة، ولهذا يتنافس الأهالي على هذه المدارس، ولاسيما أن معظم من يمثلون تركيا في المسابقات الدولية ينتمون إليها، وقد حصلوا على كؤوس وميداليات كثيرة شاهدْتُها بأمّ عيني عندما زرتُ ثلاثًا من هذه المدارس، وعلى رأسها مدارس “الفاتح”، وقد حصلت على شهادات تقدير من كل رؤساء تركيا المتأخرين.
- تدخل جامعة الفاتح التابعة للخدمة ضمن أول عشر جامعات من بين 140 جامعة حكومية وأهلية في تركيا.
ورغم أن هذه المدارس تلتزم بمنهج الحكومات الرسمية في كل بلد، إلا أن ما يميزها هو الأستاذ، ويفخر قادتها بأن الضمير المستتر في مدارسهم هو التعليم إلى جانب التربية القيمية السلوكية.
ويؤكد نوزاد صواش رئيس تحرير مجلة حراء أن العمل التربوي الناجح في مدارس الخدمة ليس فيه أسرار بل أسباب.
وأعتقد أن أهم سبب بعد الإخلاص أنهم اتجهوا لتعليم روح القرآن وليس لتحفيظ القرآن الذي يعمد إليه كثير من العرب على حساب التدبر والتعلم للأسف.
ويكفي أن نعرف أن في باكستان حوالي سبعة مليون حافظ للقرآن الكريم، لكنهم لم يساعدوا على الرفع بمستوى باكستان، هذا إن لم يكن بعضهم من أسباب ضِعة باكستان بسبب سوء الفهم الذي قد يحيلهم إلى قنابل موقوتة، حيث تنفجر في الزمان والمكان الخاطئين!!
هذا وحده كان علة إحدى أكثر فرق المسلمين إخلاصًا، وهي فرقة الخوارج التي ملأت مساجد المسلمين عبادة وبكاء، لكنها أبكت المسلمين، فأراقت الدماء، وانتهكت الأعراض، واستباحت الأموال، وخرّبت الديار، وهي تظن أنها تُحسن صنعًا، بسبب البوصلة الخاطئة الناتجة عن حفظ القرآن دون تدبره وتعلمه، ولذلك قال عنهم -كما يؤكد سائر العلماء الكبار-: “يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم” وقال “تراقيهم” أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
6-أكبر متحف في العالم
أعتقد أن إسطنبول هي أكبر متحف في العالم، فهي المدينة الوحيدة في الكرة الأرضية التي تقع في قارتين، حيث يرتبط الشطران الآسيوي والأوربي عبر جسرين معلقين في الهواء، وتغرق قصورها ومنازلها ومساجدها وقلاعها وسط غابات من الشجر المنسق الجميل الذي يغرق بدوره وسط غابات من الأزهار الملونة والجميلة.
وتمتاز المدينة -ولا سيما الشطر الأوربي منها- بأن عبق التاريخ يعطر أجواءها، ففي كل حارة من حواريها -التي تضم سبعة عشر مليون إنسان بين جنباتها- يوجد ما يدل على أن أممًا مرت من هنا، حيث أن أجيالاً تركت بصماتها هناك بقوة، وقد ذكر لي “أن تركيا ممرّ الأقدار والأقوام”. ويبدو لي أن هذه المقولة تتجسد في إسطنبول أكثر من غيرها، ولذلك صارت محل حب واحتفاء بل وعشق أغلب الأتراك، حتى أن أديبًا تركيًّا كبيرًا أعلن عشقه لها، فأراد محاوره أن ينتزع منه إعجابًا ولو بسيطًا بأي شي في العاصمة أنقرة حتى تتوازن الصورة قليلاً مع إسطنبول، فسأله: “ما الذي يعجبك في أنقرة؟” قال ذلك الأديب: “الشارع الذي يؤدّي إلى إسطنبول”.
وبالتأكيد أن هذا الأديب محق، فإن الله جمع لهذه المدينة من مقومات الجمال والإبهار ما يتكفل باعتبارها متحفًا كبيرًا، لأنها جمعت بين جمال الطبيعة وعبقرية الجغرافيا حيث يفصل البسفور بين آسيا وأوربا، إضافة إلى الآثار التاريخية، أما المساجد فهي ما زادتها جمالاً وإجلالاً، فكيف إذا عرفنا أن فيها ما يزيد عن أربعة آلاف مسجد، وكلها بذات الطراز المعماري العثماني الأخاذ، بمآذنه البيضاء السامقة في عنان السماء، ولو حسبنا في الحد الأدنى أن لكل مسجد مئذنتين، فإن عدد مآذن إسطنبول الجميلة يكون ثمانية آلاف مئذنة!! ولكل مسجد في إسطنبول حكاية، وكل مسجد تحفة بحد ذاته، ويدير هذه المساجد خرّيجو كليات الإلهيات، ويراعي المؤذّنون المقامات في أذانهم، حيث يختارون لكل وقت المقام المناسب، ففي صلاة الفجر مثلاً يستخدم المؤذنون مقام الصبا الحزين..
أما عن النظافة والهدوء في هذه المساجد فتخيّل ولا حرج، حيث ينعكس الوعي الشعبي على كل شيء في هذه المساجد بما في ذلك عدم مقارفة البدع عند قبور الأولياء، فقد زرتُ مقام أبي أيوب الأنصاري مثلاً ولم أر شيئًا من البدع التي تُقترف عند قبور الأولياء في بلداننا العربية، كما يحدث عند قبر الحسين أو السيدة زينب في مدينة القاهرة على سبيل التمثيل. وزاد الإسلاميون هذه المدينة بهاءً؛ بخدماتهم التي طرّزوا بها هذه المدينة: مدارس وجامعات ومستشفيات ومؤسسات مختلفة.
وتسبب إسطنبول الصدمة الحضارية لزائرها العربي ولاسيما اليمني، لكن الله هيأ لنا نحن اليمنيين أمرًا يحفظ لنا شيئًا من التوازن، وهو الحضور البهيج لشخصيتين يمنيتين في العقل التركي، الأولى: هي شخصية الصحابي الجليل أبو أيّوب الأنصاري الذي حاول فتحها في خلافة عثمان بن عفان t ومات وقُبر عند أسوارها، وقبره الآن ومسجده يقعان في قلب المدينة، ويوجد واحد من أضخم أحياء المدينة باسمه رضي الله عنه، وقد زرتُ قبره ومسجده، فشعرت برأسي يرتفع لأول مرة منذ دخولي تركيا.
الشخصية الثانية: هي للتابعي اليمني “أويس القرني” الذي يحبه الأتراك بشكل عجيب، لأن الرسول أوصى الصحابة الذين سيدركونه بأن يطلبوا منه الدعاء لهم، كما فعل عمر بن الخطاب t عندما قابله.
كنتُ في مطلع المقالة قد ذكرتُ بأني في المرة الأخيرة دُعيت لحضور ورشة علمية من قبل مجلة حراء، ولأهمية ما دار في هذه الورشة وللقيمة العلمية البالغة لأوراقها ومداخلاتها، فسأخصص لها بإذن الله مقالتي القادمة، فهي مليئة بالدروس والخبرات والعبر التي نحن أحوج الناس إليها.
المشروع الحضاري للخدمة في “ورشة”
في المقال السابق عرجنا على بعض المشاهدات والانطباعات التي سجلتُها في زيارتي لإسطنبول، ولاسيما التي لاحظتها بين زيارتي العام الماضي وزيارتي لها هذا العام (2011).
في زيارتي هذا العام لإسطنبول، قام الإخوان الذين استضافونا بالتعريج بنا في جولات مكّوكية على بعض مشاريع الخدمة وبعض معالم إسطنبول، ومنها: مسجد وقبر أبي أيوب الأنصاري t، بَانوراما فتح إسطنبول، مسجد السلطان أحمد، ومتحف أياصوفيا.
وتلا ذلك ست أيام من الدهشة العلمية وسط حشد من الأوراق البحثية لدراسة تجربة الخدمة على المستوى النظري والعملي، من قبل عدد كبير من كبار المفكرين والباحثين العرب والأتراك، وأبناء الخدمة في تركيا والعالم.
لقد كانت الحصيلة كنزًا معرفيًّا ضخمًا ومعينًا لا ينضب من التجارب والخبرات، مما أشعر الجميع بالاستغراب أن يكون بيننا تجربة إقلاع حضاري بهذه الضخامة ثم لا نعرف عنها نحن مثقفي العرب إلا النزر اليسير، وغالبيتنا لم يسمعوا إطلاقًا عن هذه التجربة.
1- قطرات من أمطار الخدمة
ولأهمية ما دار في هذه الجلسات التي استمرت لستة أيام متوالية، بما يقارب العشر ساعات كل يوم، فسأحاول في هذه العجالة تسليط الضوء عليها، بحيث نقطف من كل بستان زهرة، ونقدم ولو قطرات بسيطة للقارئ الكريم من هذه البحيرة الكبرى، لعل عاطشًا يروي بها ظمأه، أو تدله على المصدر ليغترف بنفسه حتى يرتوي.
خُصص اليوم الأول بجلساته الأربع وأوراقه الثمان ومداخلاته ومناقشاته لاستعراض “قراءات عربية وغربية للتجربة، أهم القضايا والتساؤلات، البحث عن إجابات” وهذا يعكس لهفة أبناء الخدمة لمعرفة صدى أعمالهم عند الآخرين، حيث قدموا هذا المحور على التعريف “بكُولَن الشخصية والرؤية” والذي لم يتم إلا في اليوم الثاني.
بدأت الجلسة الأولى بآيات من الذكر الحكيم بصوت عذب لقارئ تركي قدير، ثم بكلمة ترحيبية من قبل الأستاذ مصطفى أوزجان الذي يشرف على عدة مؤسسات مدنية في مقدمتها جامعة الفاتح ومستشفى “سَما”، وهما من المؤسسات النموذجية.
ولما كانت السنابل الممتلئة دائمة الانحناء، فقد كان في قمة التواضع وهو يخاطبنا نحن العرب كأبناء للصحابة وعلماء للإسلام، طالبًا منا التوجيه والمشورة والنقد والنصيحة، وهذه من أبرز علامات الكائنات الحية والمتطورة، وقد كان هذا الأمر ديدن كل المتحدثين الأتراك.
ركز أ. مصطفى على إبراز توجه الأستاذ كُولَن في إعادة قراءة الإيمان، والبدء بترجمته في مؤسسات عبر ما يمكن تسميته بـ”مأسسة الإيمان”، انطلاقًا من “معقولية القرآن” التي نادى بها قبل كولن بديع الزمان النورسي (تـ/1960م)، بحكم أن القرآن هو الحقيقة الأبدية الوحيدة، وذلك بإيجاد الجيل القرآني المعاصر الذي رأى كولن أن النجاح في إيجاده يعني أن المسلمين سيغيرون العالم إلى الأفضل من جديد.
واختتم مصطفى أوزجان كلمته الرائعة بدعوة المفكرين العرب إلى مساعدتهم في بلورة فكر عقلاني مشتق من القرآن والسنة.
كان مدير الجلسة وصاحب إحدى الورقتين فيها هو المفكر المصري المعروف د. إبراهيم البيومي غانم الذي أكد أننا جميعًا جئنا للمذاكرات وليس للمحاضرات، وللمدارسة وليس للدرس، وكان وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة حاضرًا مع ثلة من أعلام العلوم السياسية بهذه الجامعة أبرزهم امرأتان: الأولى: د. نادية مصطفى رئيسة القسم، والباحثة النابهة د. باكينام الشرقاوي، إضافة إلى ثناء البنا وهي حفيدة الإمام الشهيد حسن البنا والتي كانت تتنقل بين اللغات العربية والإنجليزية والتركية كالفراشة.
يبدو أن استعراض جميع الجلسات والأوراق والتعليقات سيحتاج إلى كتاب لو خضنا في التفاصيل، ولذلك سنستعرض بسرعة أهم ما بدا لكاتب هذه السطور أنه أهم.
ذهب المفكر المغربي د. سمير بودينار إلى أن مشروع الخدمة كما في فكر كولن وممارسات تلاميذه يتميز بثلاث خصائص، الأولى: الإيمان، الثانية: العصر فهو ميزة لا عقبة، ولذلك سيكون القرن الحادي والعشرون قرن الإسلام. والثالثة: خاصية الإنسان، وهو الإنسان الجديد الذي تعمل كل مؤسسات الخدمة متضافرة على إيجاده بالفعل وليس بالشعارات.
وبعد استعراض د. إبراهيم غانم لبعض رؤى كولن ذات الصلة بالإسلام والعصر والإنسان وفكرة المستقبل دلف إلى أن “النص” إذا استجمع كل شروط الخطاب الناجح فإنه يصبح “نصرًا”، وهذا ما يحدث في واقع تيار الخدمة الآن.
ولفت المفكر المغربي د. محمد جكيب إلى أن العرب يعيشون الآن صدمة اكتشاف المشروع الحضاري التركي، كما فعلوا بالأمس مع أوربا والغرب، حيث كانوا يطرحون سؤال: “لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟” في ضوء الثقافة الغربية، أما اليوم فيطرحونه في ضوء الواقع التركي. ومع ذلك فإن القراءة الانطباعية لمشروع كولن من قبل العرب ماتزال هي الحاضرة برأيه، في مقابل اختفاء القراءة العلمية وإثارة الأسئلة.
وأكدت د. نادية مصطفى في ورقتها أنها تلقت صدمة الاكتشاف لتيار الخدمة بالتدريج طيلة ست سنوات، وذكرت أن حالة الثورات العربية تستدعي أكثر التعرف على حركة كولن والتجربة التركية عامة رغم كونها حركة إصلاحية، حيث أكدت التجربتان التونسية والمصرية في الثورة أن التغيير السياسي وحده لا يكفي، وأن التغيير الحضاري ضروري، وهذا ما تذهب إليه حركة كولن.
وشارك الأستاذ السابق بجامعة أكسفورد البريطانية د. إحسان يلماز بورقة أبرز فيها دور تيار الخدمة في أوربا وكيف أنه منح الأتراك الثقة بذاتهم وبثقافتهم، ووفر لهم الرؤى الكلية ودفعهم للالتحام بالسنن، في سياق إعمار الأرض وتحويلها إلى جنة وارفة الظلال وفق المثال الذي يسعون للوصول إليه في الآخرة.
ومن خلال عودة د. باكينام الشرقاوي إلى مئات الأدبيات الغربية لمعرفة رؤية الغرب لكولن ومشاريع الخدمة، قدمت صورة متكاملة لهذا التيار في العقل الغربي المتراوحة بين الإعجاب الشديد والخوف القوي من أن يكون هذا التيار امتدادًا للدولة العثمانية التي غزت أوربا طيلة بضعة قرون. وقدمت في هذا السياق بعض الملاحظات النقدية لتيار الخدمة، والتي أتمنى أن يحتفي بها أبناء التيار أكثر من احتفائهم بالإطراء وإن كان مستحقًّا.
2- كولن.. مغناطيس الخدمة في تركيا
بدأ اليوم الثاني بترحيب نوزاد صواش كعادة الأتراك في الترحيب الشديد والكرم البالغ، ولأن جلسات اليوم كانت للتعريف بمؤسس التيار كشخصية وكرؤية، فقد بدأ الأمر بعرض فيديو لبعض خطب كولن، حيث بدا كثير البكاء والإبكاء إذ كانت الأصوات ترتفع بالعويل إلى حد النحيب في أحد مساجد “إِزْمِير” وهو يخطب عن غربة القرآن سنة 1990م، حيث أجاد كولن في استجاشة العواطف واستثارة المشاعر ثم أجاد طرْقها قبل أن تبرد بمطرقة العقل وتشكيلها بالأنشطة والمشاريع والأعمال، ولاسيما وسط أصحاب الأموال الذين لهم شأن كبير في هذا التيار الكبير وأنشطته العريضة.
ويبدو من استعراض محطات كولن ومشاريع الخدمة أن أبناء هذا التيار يولون الرئيس التركي “تُورْكُوتْ أُوزَال” احترامًا وتقديرًا كبيرين، فقد بدأ التيار بالتعملق بالفعل في عهده، بتبنّيه لعدد من المشاريع الكبرى في مختلف المجالات التي خاضت الخدمة غمارها.
وفي ورقة المفكر التركي أنس أَرْكَنَه -وهو أحد المتخصصين في فكرة الخدمة- أوضح أن كولن لا يشتغل بالسياسة لأنه صاحب مشروع مدني حضاري يحتاج إلى البعد عن السياسة، لكنه لا يناهض السياسة ولا يعادي أصحاب العمل السياسي. وأبرز بشكل طريف كيف أفسد كولن على الشباب لهوهم وعبثهم، وحوَّلهم إلى نسخ جادة، بحيث شاخوا قبل الأوان، حتى أن والده -والد أنس- كان يقول له: لماذا أنت يا بني كالكلب المحروق تنتقل من شارع إلى شارع؟!
وكانت الجلسة الثالثة في اليوم الثاني تحت إدارة كاتب هذه السطور، وقدمتُ فيها ورقتان: الأولى للمفكر الجزائري د. محمد بابا عمي عقد فيها مقارنة بين كولن ومالك بن نبي، ركز فيها على اختلاف الظروف الموضوعية، وداعيًا إلى استخراج الحِكَم لا إطلاق الأحكام.
أما الورقة الأخرى فقد كانت للمفكر والأكاديمي التركي كُوكْهَان بَاجِيك حول قراءة كولن لبعض المفاهيم والمصطلحات المعاصرة. وأفضى إلى تأكيد تجديد هذا المفكر الداعية، مع بحثه عن المشترك الإنساني والمؤتلف الإسلامي، وحث على ضرورة إيجاد قاموس لمصطلحاته وهي الدعوة التي كان قد أطلقها د. بابا عمي وصارت إحدى أهم توصيات هذه الورشة التي فاقت الكثير من المؤتمرات.
وفي ورقة المفكر الجزائري د. عمّار جَيدل أوضح أن أدبيات كولن تمتلئ بمصادر البحث الحضاري، ومن ذلك الأخذ بالأسباب، وأكد أن الذي يريد تحقيق شيء بدون الأخذ بالأسباب إنما يُخصِّب الأوهام!
أما المفكر الأردني د. سليمان الدقور فقد قدم قراءة رائعة لمقالة “رسالة الإحياء” الواردة في كتاب كُولَن “ونحن نبني حضارتنا” كما فعلت من قبل الدكتورة المغربية فريدة زمرُّد مع مقالتَي: “الحركية والفكر” و”نحن نقيم صرح الروح” الواردتين في كتاب “ونحن نقيم صرح الروح”.
وأكد د. الدقور أهمّية الإدراك للحراك، رافضًا الحراك بدون إدراك، أو الإدراك بدون حراك، واستنبط من فكر كولن الأمور المطلوبة في التغيير.
3- صُنَّاع الروائع العملية
في إطار نفس الورشة كانت لنا جلسات مع عدد من رموز الخدمة في عدد من المجالات، ومنها المجال الإعلامي والاقتصادي والخيري والتعليمي، وقد أدهشنا جميعهم بالأرقام والحقائق التي ترفع الآمال بمستقبل مشرق لهذه الأمة، وإن كانت تسوق قدرًا من الإحباط عند المقارنة بما هو قائم في بلداننا العربية، ولاسيما في يمننا التي تقبع في أحد المراكز الثلاثة الأخيرة في معظم المفردات المرتبطة بالتنمية البشرية والاجتماعية.
في الجانب الإعلامي، قدم عبد الحميد بِيلِيجِي (رئيس وكالة جهان للأنباء) ورقة عن الممارسة الإعلامية من خلال مجموعة زمان الصحفية ووكالة جهان للأنباء التي صارت الأولى في تركيا، أما صحيفة “زمان” فيباع منها يوميًّا ما يزيد عن مليون نسخة في تركيا وخارجها، حيث تُطبع في نفس الوقت بعدد من اللغات في 15 مدينة في تركيا وآسيا وأوربا وأمريكا، وبطاقم يزيد عن سبعمائة موظف محترف، لتحتل المركز الأول في تركيا بدون منافس، إذ أن الصحيفة الثانية لا تطبع سوى نصف هذا العدد.
وكنا قبل ذلك قد زرنا مقرّ هذه الجريدة في مبناها الذكي الذي يتفوق في نمط معماره وفي التكنولوجيا المتقدمة في تصميمه وتوفير الخدمات له المرتبطة بالإضاءة والتهوية والأمن والشفافية وسائر الخدمات الأخرى. ويتكوّن المبنى من سبعة طوابق ضخمة في قلب إسطنبول ودورين أرضيين، وتقدم الصحيفة أرقى الخدمات التي تقدمها أعرق صحف العالم.
وقدم “رضوان كِيزِيل تَبَه” فكرة عن شبكات تليفزيون “سَمَانْيُولُو” وتعني بالتركية “درب التبانة” -وهو نائب المدير العام للشبكة- وتتكون من عشر قنوات فضائية بعدد من اللغات في تركيا وأوربا وآسيا وأمريكا، وقد بدؤوا منتصف هذا العام بارتياد إفريقيا عبر افتتاح قناة فضائية في العاصمة الكينية نيروبي.
وقد بُشِّرنا بأن العمل جار لإنشاء قناة عربية تابعة للمجموعة، وأن أهم عائق إنما هو ضعف الأرشيف العربي في الظرف الراهن والذي يتسق مع فكر الخدمة، بحيث لا يكون تقليديًّا وعظيًّا كما في القنوات الدينية العربية ولا يكون إباحيًّا تغريبيًّا كما في سائر القنوات الأخرى الحكومية والتجارية.
وقدم فِكْرَت ياشار (رئيس قسم النشر الأجنبي في مجموعة قَايْنَاق) ورقة عن مجموعة حراء وأخواتها من المجلات الثقافية، وكيف بدأ الأمر سنة 1979 بمجلة “سِيزِنْتِي”، وتطوّر إلى إنتاج وبيع أشرطة وعظ كولن، ثم متاجر لتوزيع الأشرطة والكتب في كل أنحاء تركيا. ووصل إلى إيجاد شركات متخصصة في النشر والتوزيع والتسويق، وفي طباعة الكتب المتخصصة، ومنها الكتب الدراسية، حيث صارت مطابع الخدمة تستأثر بطباعة 70-80 % من الكتب الدراسية في كل تركيا عبر عدة دور أهمها دار “زَنْبَق” وهو أكبر دار بهذا الشأن في تركيا.
وهناك عشرون دار نشر للكتاب في كل المجالات، إضافة إلى عشرات المجلات بلغات عدة، أهمها مجلة “سِيزِنْتِي” بالتركية وتطبع: 800 ألف نسخة وهي الأولى في تركيا، ثم الأمل الجديد: 100 ألف نسخة، ومجلة للأطفال هي الأولى في تركيا أيضًا بـ50 ألف نسخة، ومجلة حراء بالعربية: 40 ألف نسخة، ومجلة باللغة الروسية: 10 ألف نسخة، وأخرى بالألمانية: 7500 نسخة، والعمل جار لإصدار مجلات بالفرنسية والبرتغالية والإسبانية.
أما الكتب فقد صدرت ملايين النسخ بـ 42 لغة، والأستاذ كولن يحثهم على النشر بمائة لغة، وفي كل لغة صدرت عدد كبير من الكتب، كالإسبانية التي صدر بها أكثر من 50 كتابًا حتى الآن.
4- دهشة بلا حدود
وكانت هناك أوراق مدهشة أخرى حول: التوجيه الروحي الرسالي في مشاريع الخدمة فكرًا وممارسة التي قدمها د. فاتح، وثانية عن التمويل الذاتي، العمل الخيري، العمل التطوعي للأستاذ إبراهيم.
وقدم الأستاذ نظام الدين (وهو خبير التعليم في آسيا الوسطى) ورقة عن التعليم هناك وكذلك فعل الأستاذ علي عن التعليم خارج تركيا فكرًا وواقعًا، امتلأت الورقتان بالأرقام المدهشة والمعلومات الغزيرة والحقائق المثيرة، لأن رسالة التعليم هي الأصل في تيار الخدمة، ويكفي أن نعرف أن هذا التيار يدير حوالي ألفي مدرسة وعددًا من الجامعات في مختلف أصقاع العالم (160 دولة).
وفعل الأستاذ نعمان مثل ذلك في ورقته اليوم الرابع عن التعليم داخل تركيا فكرًا وممارسة، حيث أسر القلوب والعقول، ولاسيما أن الحاضرين جميعًا سبق لهم أن زاروا بعض المدارس والجامعات، في اكتشاف للممارسة قبل قراءة الفكر والتنظير، فكانت الحقائق أبلغ من الكلمات حتى أنني رأيت في مدارس أساسية من المعامل والملاعب ما لم أجد قريبًا منه في جامعاتنا فضلاً عن مدارسنا، لدرجة أنني سخرتُ من نفس عندما حدثتها بأن أطلب عمل اتفاقية موائمة بين جامعة تعز -التي أنتمي إليها- وبين روضة أو مدرسة أساسية من مدارس تيار الخدمة!!
أما الجامعات فهي فوق الوصف، وقد زرتُ جامعة الفاتح مرّتين ورأيت فيها العجب العجاب، حتى أن فيها أكثر من اثنين وسبعين مختبرًا علميًّا مجهزة بأحدث الوسائل والتقنيات والأجهزة.
وأصدق قارئي العزيز أنني عندما قارنت بين التعليم -خصوصًا- في تركيا وفي بلدنا، هجمت عليَّ موجة من الإحباط كادت أن تصبح يأسًا لولا مقاومتي لها بتذكر أن اليأس محرم، وبمعرفة أن تركيا قبل ثلاثة عقود كانت شبيهة جدًّا ببلدنا، وبتأسية ذاتي أن الذين يقودون عملية التغيير في تركيا هم من أبناء الإسلام الذين نهلوا من ديننا الذي بين أيدينا وتأسوا في الممارسة بالمنهج الذي تبعه أسلافنا العرب وهم من أوصلوا إلى الأتراك كل تلك الخيرات.
5- كولن يُطلق: “هل مِن مُغيث؟!”
في اليوم الرابع جلسنا مع أحد مديري العمل الخيري والإغاثي، حيث بسط لنا الحديث عن جمعية “كِيمْسَ يُوكْمُو” وتعني بالعربية: “هل من مغيث؟!” وهي إحدى مؤسسات الخدمة ومن أكبر الجمعيات الخيرية في تركيا والشرق الأوسط، ومن أنشطتها على مستوى العالم، حيث ساهمت في تجسيد عالمية تيار الخدمة، ووصل نشاطها إلى كثير من بلدان العالم الإسلامي ولاسيما في إفريقيا الفقيرة والمنكوبة، فقد أجرت هذه الجمعية -على سبيل المثال- آلاف العمليات الطبية في السودان، فأعادت البصر لثمانية آلاف سوداني كانوا قد أصيبوا بالعمى نتيجة أحد أمراض العيون الخطيرة.
وتعدى نشاط هذه الجمعية العالم الإسلامي إلى الدائرة الإنسانية، حيث حضرت في العديد من الكوارث، كما فعلت في زلزال “هَايِتِي” في أمريكا اللاتينية، وزلزال “اليَابَان”، حيث مازالت تبني الآن مدرسة في إحدى المناطق المنكوبة هناك، ورغم رفض اليابان المساعدات الأجنبية ووضع شروط صعبة لقبولها فقد كانت جمعية “هل من مغيث؟!” على موعد مع الإنسان الياباني حيث تمارس الحوار بجانب الإغاثة. وذكر أنهم في حوارهم مع بعض المسؤولين اليابانيين سمعوا بعض هؤلاء يقولون: “نحن اليابانيين من فرط ثقتنا بأنفسنا نسينا الله، فهذا الزلزال ذَكَّرَنا بالله!”.
ولما كانت هذه الجمعية تنتمي إلى أرضية إسلامية، فإنها تفهم بالتأكيد حديث المصطفى في هذا الشأن: “من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة”، ولذلك فإن القائمين عليها يبدعون في ابتكار الأفكار والآليات التي تحقق المقاصد بالكفاءة الناجعة.
ومن البرامج المبتكرة التي تقدمها هذه الجمعية برنامج “الأسرة الشقيقة”، حيث تأخذ الجمعية أسرة غنية لزيارة أسرة فقيرة وتقنعها بتبنّي مطالبها ومعالجة كل مشاكلها مباشرة وبدون واسطة. وهناك آلاف الأسر مرتبطة ببعضها بهذه الطريقة.
وهناك مشروع “المتمسّكون بالحياة من جديد” لإكساب الفقراء حرفة مفيدة تساعدهم على إعالة أنفسهم ثم المساعدة في إعالة غيرهم، كالخياطة والمشاريع التجارية الصغيرة.
الجدير بالذكر أن المدارس التركية في العالم ولاسيما في البلدان الفقيرة تصبح كل واحدة منها نواة لعمل خيري معين، من خلال إعفاء الفقراء النابهين من الرسوم، وتقديم العون المادي لبعض الطلبة، وتقديم السكن الخيري لكثيرين، ثم تقديم كل أشكال العون والدعم في الأعياد والمناسبات كالذبائح والكسوة في عيدي الأضحى والفطر، والمساهمة في جهود الإغاثة والإيواء أثناء الحروب والكوارث، كما حدث في الفيليبين وأفغانستان وقرغيزيا.
ولهذا فإن المساعدات التي تقدمها هذه الجمعية العالمية نوعان، آنية: كأعمال الإغاثة؛ ومستمرة: كبناء المدارس والمستشفيات والمستوصفات والمساجد وحفر الآبار وغيرها، مع إيلاء جهود مميزة لمحاربة الفقر وتحويل العاطلين إلى منتجين، كما أشرنا سابقًا.
6- عولمة الحوار
من الأمور التي يوليها تيار الخدمة اهتمامًا خاصة ورعاية فائقة الاهتمام بإشاعة ثقافة الحوار وإيجاد المؤسسات المتبنية للحوار بين المختلفين حزبيًّا ومذهبيًّا وفكريًّا ودينيًّا فقد رأى كولن بتشريحه لمشاكل تركيا أن الفُرقة من أهمّها، بسبب غياب ثقافة الحوار وادعاء كل طرف أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وعلى مستوى العالم رأى أن العولمة -عكس ما يقال عنها- ستؤدّي إلى إيقاظ القوميات والوطنيات والمشاعر الدينية في كل العالم، ولهذا لا بد من الحوار، حتى لا يتحول التعدد إلى تناقض وتنابذ.
وقد خصصت الورشة جلسة لهذا الموضوع تحدث فيها علمان من أعلام الحوار في التيار:
- الأول: مصطفى يَشِيل: وتحدثت ورقته عن “الحوار البيني في تركيا”. وهو رئيس وقف الصحفيين والكتاب. هذا الوقف هو المؤسسة الأولى المهتمّة بالحوار، وتأسس عام 1994م على يد كولن مع 17 من المفكرين، ليصبح رئيسه الفخري.
كنت قد زرت هذا الوقف في مايو من العام الماضي (2010م)، وكانت لنا جلسة مع أ. مصطفى، وأخبرنا أن هذا الوقف تتبعه سبعة منتديات حوارية متخصصة داخليًّا وخارجيًّا.
وقد زرته في يوليو من هذا العام (2011)، واستمعت إلى ورقة رئيسه، حيث صارت المنتديات التابعة له تسعة، أولها وأهمها: منتدى أبَنْت للأكاديميين، وقد عقد حتى الآن 24 مؤتمرًا دوليًّا، وله سمعة ممتازة في تركيا بين سائر الأوساط، حتى أنه لا يوجد إعلامي لا يتواصل معه كما أفاد أ. مصطفى، بما فيهم عتاة العلمانيين الذين كف أكثرهم عن مهاجمة كولن وأبناء الخدمة بسبب هذا المنتدى وجلسات وندوات ومؤتمرات الحوار التي أقامها لمناقشة سائر القضايا التي تثير الجدل وسط الأتراك. وهناك منتدى خاص بالحوار مع الإسلاميين الأتراك والأقليات داخل تركيا. ومن أهم هذه المنتديات منتدى “ديالُوج أَوْراسيا” ويضم 14 دولة آسيوية وأوربية وله مكاتب في هذه الدول، ويتولى قيادته كل عام شخص من هذه الدول بطريقة دورية، ويصدر مجلتين بالتركية والروسية.
وهناك منتدى مركز الدراسات والبحوث، ويختص بالدراسات المرتبطة بالحركة وتوفير المواد المصورة حولها. ويؤرشف لكل ما كتب عن كولن والخدمة وله برامج عدة، من أهمها: أسلمة المعرفة، كيف يقرأ كولن القرآن؟ وهناك منتديات خاصة بالإعلاميين وبالمرأة، يناقش كل واحد منها القضايا ذات الاهتمام وسط هذه القطاعات أو المهن.
هذه المنتديات تنتظم تحت راية “وقف الصحفيين والكتاب” ولقياداته لقاءات مع مؤسسات حوارية دولية ثنائيًّا وجماعيًّا، كما فعلوا في مايو 2011م عندما نظموا مؤتمرًا في إسطنبول استدعوا له رموزًا حوارية من 180 دولة في العالم.
وتقيم هذه المنتديات أنشطة كثيرة جدًّا لدعم فكرة الحوار، كالمؤتمرات القرآنية، والحفلات التكريمية، والمعارض، والرحلات من وإلى تركيا، والزيارات، والمهرجانات، والمسابقات، والملتقيات، وساعات الشاي، وبرامج تليفزيونية وأولمبياد التآلف والمسابقات.
- الآخر: د. أحمد كوروجان: وهو ناسط في موضوع الحوار في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد زاد دهشتنا بورقته التي سلطت الضوء على بعض المناشط الحوارية التي يتبنّاها أبناء الخدمة في أمريكا وتجربة العيش المشترك، حيث أوضح أنهم يمتلكون قنوات ومدارس ومراكز بحث وجمعيات إغاثة كلها تخدم هذا الهدف بجانب مراكز الحوار المتخصصة.
وأوضح أن هذه المؤسسات تمتلك في أمريكا 130 نشاطًا، منها: المؤتمرات الدولية، والإفطارات، والزيارات إلى تركيا لحضور الكثير من الفعاليات على الطبيعة بما فيها حفلات الحناء. وكذا الجوائز، والمسابقات، وقراءة الكتب، ومدرسة الحوار، والجمعيات الدينية والخيرية، والحفلات، والندوات، والمحاضرات، والمناظرات.
مسك الخدمة
ولما كان العمود الفقري لكل هذه الأنشطة الاجتماعية والتربوية والصحية والثقافية هو المال، فإن رجال المال والأعمال هم أبطال الخدمة، وكانت الجلسة الأخيرة في هذه الورشة عن الممارسة الاقتصادية في الخدمة قدمها رئيس اتحاد جمعيات رجال الأعمال والصناعيين الأتراك المشهورة بـ”توسكون” رضا نور ميرال.
وقد بدأ بعرض فيديو قوي عن “توسكون” وهي أكبر جمعية من نوعها تضم 50 ألفًا من رجال الأعمال والصناعة ويديرون مائة ألف شركة، بعضها الأولى في تركيا في مجال عملها.
تأسست هذه الجمعية عام 1992م باتحاد عدد من الجمعيات من مدن تركية عدة، وظلت تنمو حتى أصبحت الأولى والأهم في تركيا، حيث تضم 160 جمعية في 80 مدينة تركية، ولها أنشطة في 140 دولة في العالم، وهي الجمعية الأجنبية الوحيدة المعترف بها رسميًّا في الصين.
وتستضيف توسكون آلاف التجار سنويًّا في تركيا من أنحاء العالم (11 ألف تاجر 2010م) ولها أنشطة تربوية وتدريبية كثيرة، حيث أقامت 1500 نشاطًا شارك فيها 160 ألف شخص، وتبنّت العديد من البرامج مثل “جسور التجارة” التي تربط آلاف التجار الأتراك بعشرات الآلاف من التجار في أنحاء العالم.
وتتولى توسكون استضافة عشرات الرؤساء من كل أنحاء العالم في تركيا، والترتيب لزيارات الرؤساء الأتراك إلى كافة بلدان العالم. وقبل هذا وبعده فإنها تقدم الخبرات والمشورات والنصائح لأعضائها التجار بما يحقق الأرباح لهم والفائدة العامة للمجتمع في ظل التواؤم مع القيم الإسلامية.
ويتسابق هؤلاء على تبنّي مشاريع الخدمة في سائر دول العالم، من خلال مجالس الهمة التي يتنافسون فيها على الإنفاق.
وكانت لنا في الليلة التي قبلها جلسة مع عدد من التجار الذين يسمونهم بـ”الأصناف” ممن يتبنون مشاريع الخدمة “حوالي ثمانية تجار”، وكانت لنا نقاشات معهم، أوضحت لنا مدى تفانيهم في الخدمة وتنافسهم على حب كولن، حيث تتلمذ الجميع على يديه وأحبوه حتى الثمالة، حتى أن أحدهم وهو يتحدث عنه لم يستطع التحكم بعاطفته فبكى ثم حاول العودة إلى الكلمة، وبعد كلمات قليلة انفجر باكيًا ولم يستطع المواصلة فأعطى الميكروفون لزميله.
الجدير بالذكر أن بعض هؤلاء يمتلكون مجموعات تجارية ضخمة، بحيث يحتلّون المركز الأولى في تركيا، وأخبرنا أحدهم أن مجموعته التجارية والصناعية تضم حوالي عشرين ألف موظف.
ويركز هؤلاء في خدمتهم داخل تركيا وخارجها بشكل خاص على المشاريع التربوية، لأنها الطريق لإيجاد الإنسان الجديد وتغيير العالم كما وجههم لذلك كولن بعد أن كان الإنفاق الديني عندهم محصورًا على بناء المساجد وتوقيف مغاسل للموتى.
وقد أجمع هؤلاء التجار على أن أستاذهم كولن هو مَن علّمهم أن أفضل استثمار هو الإنسان، وأن الزكاة ليست 2.5% من المال وإنما نصف المال أو ثلثاه أو ثلثه، وهكذا، وأن الإنفاق ينمّي المال. وذكر بعضهم قصصًا لتجار منهم بدؤوا بعربة أو محل صغير وأصبحوا بعد سنوات من كبار التجار.
ونتيجة للنماذج التي قدمها هؤلاء ذهب بعض المفكرين العرب إلى أن هؤلاء يذكرونهم بالصحابة الكرام، وقد أدركتُ بدوري أن جمع كولن بين القلب والعقل وبروز البعد العملي في شخصيته هو العامل الأساس في تحويل إيمان هؤلاء إلى أعمال صالحة ومؤسسات خدمية، فصاروا يعيشون الإسلام في حين مازال الطابع الغالب على التدين العربي المعاصر يتركز حول التدين اللاهوتي والحديث عن الإسلام.
أختم هذه الومضات بدعوة قادة الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي عموما وفي اليمن خصوصًا للذهاب إلى تركيا للاطلاع على تلك التجربة الثرية عن كثب والاستفادة منها، ولو كانت لي قدرة مالية لأخذتُ هؤلاء على حسابي الخاص، لأن الرائي ليس كمن سمع.
Leave a Reply