توطئة: ما “الخدمة”، وما طبيعتها؟ وكيف تُحَدَّد هويتها؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تُطرَح دائما. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، نذكر منها المكانة التي تحتلها حركة “الخدمة” في عمق الواقع التركي باعتبارها فعالية إنسانية ذات جذور في المجتمع، وباعتبارها نسيجا من مؤسسات ومنظمات فكرية وثقافية وإنسانية واجتماعية، متكاملة في أهدافها وأنشطتها ومناهجها، قدر تباعدها واستقلال بعضها عن بعض، زيادة على سمْعتها الطيبة في تركيا وفي آسيا وأوربا وأمريكا وإفريقيا.. دون أن يغيب عن الذهن أن “الخدمة” مجرد إطار نظري بدأ في يوم من الأيام وتحوَّل بفعل ما نُفث فيه من طاقة روحية وحركية وفكرية وثقافية إلى واقع حركي متميز.. وبعبارة أخرى إن “الخدمة” مجرد فكرة تحولت إلى مشروع انبعاث حضاري يحرك أمة بكاملها ويستهوي الصديق ويثير حفيظة العدو. كل هذه العناصر تجعل من طرح أسئلة “الخدمة” أمرا ملحا، وموضوعا جديرا بالاهتمام.
إن الأسئلة المتعلقة بماهية الخدمة وخصوصياتها وطبيعة العلاقة التي تربطها بفكر الأستاذ فتح الله كولن، قضية معرفية ذات أهمية دقيقة.والإجابة على هذه الأسئلة يفتح الباب لفهم حركة اجتماعية هي اليوم من أهم الحركات في العالم.
أولا: إشكالية تصنيف “الخدمة”
قضية تصنيف “الخدمة” قضية صعبة جدا. فهي بداية لا تعتبر طائفة دينية في مقابل مصطلح (Sect) في اللغة الإنجليزية الذي يعنى “الجماعة الدينية” التي تبني لنفسها ممارسات وطقوسا دينية تميزها عن غيرها، وتكون في الغالب متمحورة حول شخصية تمتص كل الاهتمام وكل عناصر النجاح. زيادة على أن الطائفة الدينية جماعة منغلقة على ذاتها وحريصة على أن يظل عالمها الداخلي مجهولا وسريا وغامضا. لكن دعوة “الخدمة” أبعد ما تكون عن دائرة الطائفة الدينية، وعن الطائفية بصفة عامة، وهو الحكم الذي يُجمِع عليه أغلب من درس “الخدمة” من هذه زاوية من علماء الاجتماع الغربيين، إذ يؤكدون أن حركة “الخدمة” ليست طائفة دينية (Sect)، لأن بنيتها مختلفة بصورة كلية عن خصوصيات الطوائف الدينية وخاصة الطوائف السرية.
الأدبيات التي تقدم الخدمة أدبيات مستقاة من أدبيات الأستاذ فتح الله كولن ومن تراثه الخطابي ومن التاريخ الحركي لهذا “الرجل الظاهرة” كما يعتبره العديد من المثقفين الأتراك. وأهمّ ما يلح عليه فتح الله كولن في هذه الأدبيات هو تأكيد الانتماء إلى عمق التقاليد الإسلامية التي استطاعت نسج إحدى أكبر حركات التغيير التي عرفتها الإنسانية على مدى تاريخها الطويل. فالمتأمل في خطاب الأستاذ فتح الإصلاحي التغييري، والمتنعم فيه سيقف على حماس عميق ورغبة واسعة، بل وعقيدة راسخة بأن التقاليد الإسلامية كما تذوقها الرسول والصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعا، ومجمل المؤمنين، قادرة على تغيير العالم كله وليس تركيا ومنطقة الأناضول والعالم الإسلامي فحسب.
لا يريد هذا التحليل إبراز شخصية الأستاذ فتح الله عنصر مركزيا في حركة “الخدمة”، فيُظَنّ بأن الخدمة وشخصية الأستاذ فتح الله هما وجهان لعملة واحدة. والحال أن الحديث ليس عن شخصية في علاقتها بجماعة مجتمعية، بل إن الأمر يتعلق بخطاب إصلاحي تغييري انطلق منذ ما يزيد عن خمسين سنة خلت، فأحدث تغييرا جذريا في نمط تفكير فئات واسعة من المجتمع التركي ليتطور الأمر فيما بعد إلى حالة وعي حركي عم كل فئات المجتمع، أو إلى صحوة مدنية استشعرت عمق الخطاب الذي زرعه الأستاذ فتح الله كولن، فتوافق الخطاب مع آثار تقاليد دفينة في “لاوعْي” المجتمع و”لاشعوره” فانطلق يحاول تحويل الصحوة إلى حركية فعالة. فهل تمكنت الخدمة من أن تبني خطابها خاصة؟
في الواقع لا يمكن الحديث في هذا المقام عن خطاب واحد، وإنما يمكن الحديث عن خطابات كثيرة شارحة أو مفسرة أو مؤولة لخطاب الأستاذ فتح الله كولن، تبعا للمجالات الإنسانية والحقول المجتمعية التي تتحرك فيها الخدمة بمختلف مؤسساتها. بعبارة أخرى لقد أَسست مؤسساتُ الخدمة -كل واحدة على حدة- خطابا تفسيريا لخطاب الأستاذ فتح الله كولن، لكن بالحفاظ على الأصل في إطار تفاعل واسع مع هذا الخطاب.
قد يبدو مجال التربية بمستوييه “الفكري الفلسفي” أي فلسفة التربية، “والمستوى التربوي التعليمي” المجال الحيوي الذي ركّز عليه خطاب الأستاذ فتح الله كولن في بداياته الأولى. فقد كان المجال التربوي المجال الأول الذي دشن به نشاطه الحركي الإصلاحي، ولذلك يصعب الحديث عن خطاب خاص بالخدمة باعتبارها الإطار المفهومي الإصطلاحي الذي يرمز إلى الحركية التي تأسست انطلاقا من خطابه.
ولذلك يتوجب على من يشتغل بقضية هوية حركة الخدمة التمييزُ في هذه الأسئلة بين تلك الأسئلة التي يثيرها المثقف الغربي، وتلك التي يثيرها مثقف مسلم من العالم العربي أو من أي بلد إسلامي آخر. إذ الملاحظ أن المثقف الغربي عندما يتساءل عن هوية الحركة تميل أسئلته إلى التركيز على طبيعة الحركة من جهة الطائفية ومن جهة كونها ديانة جديدة. في الوقت الذي لا يثار فيه هذا الأمر بالنسبة للمثقف المسلم لمعرفته اليقينية بأن الحركة هي إحياء لتقاليد إسلامية أصيلة، وبأن خطاب الأستاذ فتح الله يؤكد بأن الكتاب والسنّة والمصادر الأخرى هي الأساس الذي يقوم عليه الفكر والحركية عنده. ثم إن قرب هذا المثقف من حقيقة الإسلام يمكّنه من أن يدرك بأن خطاب الأستاذ فتح الله أبعد ما يكون عن الخطاب الطائفي أو الخطاب الذي يريد بناء دين أو عقيدة أخرى غير العقيدة الإسلامية. وهذا هو ما يبرر وقوف هذه الدراسة طويلا عند الجانب العقدي في فكر الأستاذ فتح الله كولن وعند مصادره الإسلامية. وأما المثقف الغربي فيطرح مثل هذه الأسئلة من أجل الفهم، لأنه بعيد بصورة ما عن طبيعة المنظومة التي يرتكز عليها خطاب الأستاذ فتح الله كولن.
ما سنحاول القيام به في تحديد تعريف الخدمة، وبناء معالم هوية واضحة لها هو المزج بين ما قادنا إليه الفهم المتكون مما وقفنا عليه في السنوات الخمس الأخيرة بالاتصال المباشر بمؤسسات الخدمة، وبالتواصل المعرفي مع عدد من رجال الخدمة وأطرها الذين أجابوا على مختلف الأسئلة، بالإضافة إلى النقاشات العميقة مع عدد من المهتمين بالخدمة وبفكر الأستاذ فتح الله كولن، أو من خلال التأمل فيما بين السطور؛ زيادة على عنصر مهم في التكوين وهو محاولة الانغماس في فكر الأستاذ فتح الله من خلال ما ترجم إلى العربية، إلى جانب رصيد مهم من الوثائق والدراسات والبحوث عن الخدمة أنجزها باحثون ومهتمون من أوروبا وأمريكا، وهي الدراسات والبحوث التي استطاعت تفكيك مكونات الخدمة ونمط اشتغالها. الأمر الذي يسمح لنا بإنضاج رؤية خاصة وواضحة عن الخدمة وعن هويتها.
ثانيًا: بذور الهوية والتاريخ
إلى أي حد نستطيع وصف حركة الخدمة بالجماعة؟ وإذا كانت كذلك فهل تنطبق معايير الجماعة ومفاهيمها عليها؟
كثيرا ما نسمع من بعض المثقفين الذين يتابعون الشأن التركي، ممن تعرفوا على الخدمة يصفون الأستاذ فتح الله بأنه أبو الإسلام الاجتماعي في مقابل أربكان الذي يعتبر في نظر هؤلاء أبا الإسلام السياسي.
قد يكون هذا الوصف المتعلق بالأستاذ فتح الله صحيحا، لكنه لا يمكن أن يفصح عما قدمه المجتمع المدني -وما يزال- في إطار “الخدمة”. ولا شك أن مفهوم “المجتمع المدني” مفهوم ينتمي إلى تقاليد التطور الذي آلت إليه المجتمعات المعاصرة في ظل الثورة الصناعية، وفي ظل فكر الحداثة. فهو نوع من ردة فعل تجاه الإغراق في الحياة المادية، وردة فعل ضد التهميش الذي طال فئات من المجتمع الإنساني في ظل الزحف الكبير للثورة الصناعية وخاصة في المجتمعات الأوربية. وإذا كانت هذه الحال تنطبق إلى أبعد الحدود على المجتمع الصناعي في أوربا، فإن الأمر يختلف جذريا عما كان يجري في تركيا وفي غيرها من المجتمعات الشرقية وخاصة المجتمعات الإسلامية. إذ رغم كل محاولات التحديث التي تلت الثورة ومحاولات تغيير نمط التفكير ومحاولة ربطه بنظام لائكي مستمد من النظام الفرنسي على الخصوص، مع الحرص على بناء نظام مناعة يحد من أيديولوجية الحداثة، وقادر على التحرك في دائرتها والتغذي على خلفياتها الفكرية.. رغم كل ذلك فقد ظل المجتمع التركي يخفي في أعماقه بذور الهوية والتاريخ، أو بالأحرى إن ظلال مقومات التاريخ والهوية الثقافية ظلت موجودة في عمق الإنسان التركي أو لنقلْ في عمق المجتمع بصفة عامة، بل حتى في عمق المجتمع المدني بمفهومه التركي وليس بمفهومه العلماني.. ولذلك عندما أتيحت الفرصة لمقومات الهوية والمقومات التاريخية لكي تعبر عن نفسها في مظاهر حضارية لا تتعارض مع النظام اللائكي للدولة فعلت ذلك بكل قوة مستفيدة مما أضافته السلطة المعنوية للأستاذ فتح الله كولن من صدق وروحانية وهمة.
وحتى في فرنسا التي تعتبر مهد النظام اللائكي كان الإحساس الديني يبرز بين الفينة والأخرى في صورة أشكال معقدة للصراع بين الكنيسة والنظام العلماني، بسعي الكنيسة وبعض رجالاتها إلى التعبير عن ضرورة إدراج التربية الدينية في المناهج الرسمية للتعليم والتربية، أي في التعليم الذي تتبنّاه الجمهورية الفرنسية بالمتابعة. لقد كان جزء من المجتمع المدني في فرنسا المتدثر بتقاليد الأسرة والعائلة والدين يحاول بكل قوة ألا يترك للدولة وللنظام اللائكي التفرد وحده بتربية الأجيال، بل ذهبت بعض المواقف إلى حد التشكيك في أن يكون الطفل مُلكا للجمهورية ولنظامها التربوي، ملحّة على أن الأسرة هي صاحبة الحق في هذا الطفل قبل الدولة على اعتبار الروابط الأسرية المتصلة بالدم موجودة قبل المواطنة التي تربط الناس بروابط اجتماعية فحسب. ولهذا فإن المجتمع الفرنسي ظل يقاوم النظام اللائكي انطلاقا من تقاليد الأسرة والدين، وما يزال.
ويكاد يكون الوضع مشابها لما دار في تركيا، فالنظام العلماني اللائكي الذي أنتجته الثورة الكمالية (كما يطلق عليها) وجهت تركيزها إلى التربية والتعليم وإلى محتواه، مع العلم بأن الفصل بين الدين والتعليم في إطار تعليم عصري كان بدأ منذ العهد العثماني خلال مرحلة التنظيمات التي لامست قطاعات مهمة منها الجيش والإدارة وكذلك التربية والتعليم. وقبل ذلك كان نظام التعليم في عهد الدولة العثمانية موزعا إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: هو صنف التعليم الديني العتيق المعرف بـ”المدارس” (Medrese).
الصنف الثاني: هو صنف التعليم الذي يدرس المنطق والحساب وعلم الفلك، وكان معروفا بـ”المكتب” (Mektep).
الصنف الثالث: ويطلق عليه مدارس القصر، ويَتعلم فيه أبناء أطر الدولة من الأمراء وكبار قادة الجيش (Enderun Mektepleri).
وأهم تحول عرفته المدرسة باعتبارها الوسيلة الأولى لإحداث التغيير وخلق نمط تفكيري محدد هو ذلك التحول الذي وقع سنة 1927م حين ألغيت المدارس الدينية، لتجمع المؤسسة التربوية في إطار وكالة المعارف (Maarif Vakaleti) أي ما يقابل وزارة التربية. ويعتبر قانون 2 مارس 1924م قانون توحيد الدراسة، قانونًا فرَض توحيد النظم التربوية، فركّز على ضرورة أن تكون التربية تربية وطنية. والذي يُدرَك ضمنيا من هذا القانون هو اعتبار التربية الدينية تربية غير وطنية. والحال أن تركيا في هذه المرحلة كانت تريد بناء وطن تركيا على أسس جديدة مقطوعة عن الماضي التاريخي والديني.
ثالثًا: الخدمة والمجتمع المدني
لم تخرج الحكومات المتعاقبة عن هذا الإطار ولم تبتعد عنه، ولم يعمل فتح الله كولن ولا الخدمة على الوقوف في وجه هذا القانون وكل القوانين التي تسير في خطه أو تفسره، بل على العكس من ذلك لقد عملت الخدمة على تكييف حركيتها بأسلوب لا يتعارض مع التوجهات العامة لقيم النظام العلماني اللائكي ولقيم الدولة بصفة عامة، بما في ذلك قوانين التربية والتعليم. بمعنى أن الحركة قد ظلت منذ نشاطاتها الأولى تعمل على أن تكون منسجمة مع النظام القائم وعلى ألا تدخل في مواجهة معه، لذلك ظل الأستاذ فتح الله كولن منذ أنشطته الحركية الأولى حريصا على عدم الإتيان بما قد يفسَّر بأنه يريد تأسيس حركة ضد النظام العلماني القائم في تركيا. ومن هنا يُطرَح السؤال الآتي، هل حركة “الخدمة” حركة مجتمع مدني؟
سعى محمد شتين (Dr. Muhammed Çetin) باعتباره أحد المهتمين بظاهرة الخدمة من زاوية علم الاجتماع إلى أن يبين طبيعة الخدمة من خلال كون المجتمع المدني مجالا يشمل كل تلك المنظمات والنوادي والمجتمعات الناشطة إزاء نظام الحكم: على أساس أن منظمات الحركة الاجتماعية (SMO) ليست منظمات أو مؤسسات ربحية، ولكنها مؤسسات تقوم على أساس التوافق من أجل مشاريع تقدم “خدمة” للمجتمع أفرادا وجماعات، وعلى أساس التعاون من أجل هذه الخدمة المقدمة في جو من محبة الآخرين ومبدأ الإيثار. وهي منظمات ومؤسسات تحرص على تحمل المسؤولية تجاه الآخرين والمجتمع الذي ينتمون إليه موظِّفة الحيز المتاح ومحترمة له. من هنا فإن الحركة تعمل على تكييف بنيتها وفق تطلعات الجماهير خدمة للمجتمع بمؤسسات وشركات خاصة تحقق تطلعات كل أفراد المجتمع بمرونة كبيرة. بمعنى أن الخدمة توظف مؤسساتها وإمكانيتها لإقامة جو يسوده التعاون ونشر المبادرة الحرة ومساندة المشاريع التربوية، والمشاريع التي تعود بالنفع على كل أفراد المجتمع.
الخدمة معروفة بمساعي إيجاد الحلول لمشاكل المجتمع في المجالات الحيوية، وتكثيف الجهد في هذا الإطار بملامسة الحاجات المشتركة بين جميع أفراد المجتمع كالتربية والتعليم.. ومن هنا تكون الخدمة عنصرا متحمِّلا لجزء من المشاكل التي تواجه الدولة، بل عنصرا مساهما في الحلول. فالخدمة هنا لا تقف على طرف النقيض مع الدولة، بل تساهم مساهمة فعالة مع الدولة في البرامج التي تهم أفراد المجتمع، لتكون من خلال ذلك العنصرَ الفعال في وضع قاطرة التنمية والنهوض على السكة. فهي حركة تصنع ما يمكن الاصطلاح عليه بالرأسمال الاجتماعي (Social Capital)، لكن دون أن تكون الخدمة بديلا عن الدولة، بل مكملا لعملها ونشاطها.
الخدمة ليس لها أي أطماع أو رغبة فيما هو سياسي، فهي تحصر نشاطها فيما يصنع سعادة المجتمع وينمّي أسس الدولة على ركائز قوية على المستوى الاجتماعي والتنموي.
وهناك نقطة مهمّة جدا يتوجب التنبيه عليها وهي أن الحركة ليس فيها أعضاء ينتمون إليها كما ينتمي الأعضاء إلى الجمعيات المنغلقة على ذاتها، لأن الخدمة مجرد أفكار يقتنع بها الناس وينطلقون منخرطين فيها أحرارا في كل ما يقومون به. فالحركة تشجّع الناس على أن يظلوا منفتحين على المحافظة على علاقاتهم وعلى حياتهم الاجتماعية، بغض النظر عن طبيعة الناس الذين يتعاملون معهم.
إن الخدمة من هذه الزاوية إطار منفتح لا يضع قيودا على المتطوعين في تنزيل فلسفتها. وحتى عندما يرتكب أحدهم ما يعرقل حركية الخدمة، فإن الحديث عن نظام للعقاب يبدو أمرا صعبا لعدم وجود تراتبية تنظيمية معينة. قد يكون هذا الفرد منتميا لمؤسسة من مؤسسات الخدمة، ولتكن مدرسة، فإن المدرسة هي التي تتّخذ في حقه ما يجب، ولكن في الغالب الأعم لا يمكن الحديث عن نظام للعقاب، فالمخطئ يجد نفسه خارج إطار المنظومة الفكرية ومنظومة القيم التي تحرك الخدمة. ولو لم تكن “الخدمة” مجرد فكرة معقولة انخرط الناس في تفعيلها لما تمكنت من ذهنيتهم هذا التمكن.
رابعًا: الخدمة ليست جماعة صوفية
إن الحركة أبعد ما تكون عن الطريقة الصوفية التي تستوجب شيخا وطريقة ومريدين وحلقات للذكر.. والأستاذ فتح الله كولن أبعد ما يكون عن ادعاء الولاية الصوفية، فهو -وكما كان الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي- حريص على ربط الناس بروح الفكر. فقد ربط الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الناس بالقرآن الكريم من خلال رسائل النور، ووجه اهتمام الناس ومحبّتهم إلى رسائل النور وليس إلى شخصه، وحتى عندما مات قُدّر لقبره ألا يعرف مكانه إلى اليوم. والأمر نفسه يسير عليه الأستاذ فتح الله كولن، فهو يحرص على أن يربط محبّيه وعموم أفراد المجتمع التركي وعموم أفراد المجتمع الإنساني بالقيم النبيلة القائمة على البذل والعطاء وعلى المحبة وعلى الخدمة. وهي قيم متكاملة في القرآن الكريم وفي سيرة الرسول وفي سيرة صحابته الكرام رضوان الله عليهم. ولهذا اعتُبر التاريخُ وأبطاله الوسيلةَ الفعالة في بناء الإنسان الكامل في مشروع الأستاذ فتح الله الإصلاحي.
يرى محمد شَتِين أن الطريقة تقتضي قيام الشيخ بتعيين خلفه ووجود تراتبية ما، وهو أمر غير موجود في الخدمة. وإذا كانت الطرق الصوفية وخاصة الطرق المعروفة لها سلسلة شيوخ حتى تنتهي إلى شيخ مؤسس للطريقة، ويحفظ المريدون في الغالب أذكارا وأورادا يرددونها بإذن الشيخ، لا شيء مما ذُكر موجود في حركة الخدمة. لأن المنخرطين من المتطوعين في الخدمة يرتبطون بالأستاذ بعلاقة احترام وتقدير. فهم يحترمون الأستاذ فتح الله لأنه عالم ورجل صدق ضحّى بحياته من أجل أن يؤسس عالما واسعا يسوده التسامح والارتباط بالله، وتنتفي فيه الخلافات والصراعات، ولذلك كانت الخدمة بعيدة عن جو التكية وتقاليدها.
لم تعمل الخدمة منذ بداياتها على تمييز نفسها بأسلوب معين في العبادة ولا في اللباس. وبقي الأستاذ فتح الله يلح على ضرورة أن يظل فرسان الخدمة أفرادا من المجتمع. بمعنى أن الانخراط في الخدمة وفي العمل التطوعي لا يعني انسلاخ الناس عن المجتمع الذي ينتمون إليه، وقطع كل علاقة مع أفراده ومؤسساته. وما يؤكد هذه الأبعاد هو حرص الأستاذ فتح الله على حصر العلاقة في الأبعاد التطوعية بغضّ النظر عن طبيعة التوجه الفكري والعقدي للمنخرط. ولذلك وجد في طائفة العلويّين على سبيل المثال من يؤمنون بأفكار الأستاذ فتح الله ويتحركون في إطار رؤيته بما يخدم مصالح الفئة الاجتماعية التي ينتمون إليها.
نظرا لإلحاح موضوع هوية الحركة على الباحثين والمهتمّين، ونظرا كذلك إلى الجوانب المتعلقة بما له ارتباط بالخدمة في علاقتها بالواقع الذي تتحرك فيه، فإن قضية الهوية ملحة جدا ولا تكاد تخلو دراسة تتناول “حركة الخدمة” من وقفات تعريفية. ومرد ذلك هو إلحاح القضية على الدارسين. فالأستاذ محمد أنس أركنة الباحث المتخصص في علم الاجتماع يؤكّد أن الحركة قد تمكّنت من بناء شخصيتها الخاصة إذ يقول: “إن حركة فتح الله كولن شكّلت منهجها وطريقتها المستقلّة في نشاطها الديني والاجتماعي. والملامح الثقافية التي شكلتها هذه الجماعة ملامح أصيلة نابعة من نفسها مع كونها مرتبطة بالتراث”.
بيّنا في مكان سابق في هذا المبحث أن الحركة مرتبطة ارتباطا قويا بروح الإسلام. فقد عمل فتح الله على مدى سنين طويلة على ترسيخ القيم الإسلامية السامية وعلى تزكية الأنفس بربطها بحقيقة الدين وصفائه الإسلامي، وعمل في الوقت نفسه على إبعاد أنظار الجماهير عن كل ما هو أيديولوجي، لأن غرضه لم يكن هو تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية، لأنه كان -وما يزال- يعارض بكل قوة تحويل الدين والإسلام على الخصوص إلى أيديولوجية، ولذلك يرى الأستاذ محمد أنس أركنة أنه من الخطأ النظر إلى حركة الخدمة أو دعوة الأستاذ فتح الله كولن على أنها حركة تتحرّك ضمن أيديولوجية إسلامية تقليدية. يقول مبرزا موقف الأستاذ فتح الله بخصوص هذه النقطة: “لنؤكّد أولا بوضوح أن حركة فتح الله كولن لا تملك بنية أيديولوجية، ولم تسْع إلى تأسيس أيديولوجية دينية أو سياسية. فقد عارض تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية، أو تفسيره على هذا النحو. لذا كان من الخطأ النظر إلى حركته كحركة دينية تتحرك ضمن أيديولوجية إسلامية تقليدية”.
يؤكد محمد أنس أَرْكَنَة أن الإسلام الأيدولوجي كان ردة فعل تجاه أيدولوجيا الاستشراق التي عملت على اعتبار “جميع الثقافات والحضارات خارج الحضارة الغربية نوعا من الوحشية والتخلف. وهذه الثقافة السياسية -التي تعودنا عليها منذ عصرين- كانت عملية تمييز سطحية بين الغرب و”الآخرين”. وقد استند الاستشراق مدة عصرين إلى هذه الأيديولوجية في علاقته مع أقطار العالم. إن الاستشراق ليس سوى أيديولوجية سعت منذ القرن التاسع عشر حتى الآن إلى تسهيل التوسع السياسي والعسكري والاقتصادي للغرب، وتأمين التحول الثقافي الذي يستلزمه هذا التوسع. أي إن الاستشراق كان قد عمل آثار هذا الاستعمار العالمي في جيناته، وهكذا ولدت في العالم الإسلامي الأيديولوجية الإسلامية التقليدية مقابل هذا الاستعمار والاستغلال”.
ومن هنا يمكن القول إن أنس أركنة يلمّح إلى أن الخدمة لا تدخل في هذه الدائرة من جهة أنها ليست ردة فعل وأنها لا تنظر للغرب نظرة عداء، بالإضافة إلى بعدها الإنساني العالمي، كل ذلك يجعل الحركة بعيدة عن الأيديولوجية السياسية التي تميز حركات الإسلام السياسي. ولذلك فالأستاذ أنس يذهب إلى مَوْضَعة فتح الله ورؤيته الفكرية وحركة الخدمة في إطار التحول الذي يعرفه العالم المعاصر، من خلال ما يمكن أن نطلق عليه ما بعد الأيديولوجيا الأمبريالية والاستعمار ومركزية الثقافية الغربية، أو ما بعد أيديولوجيا الاستشراق بالنسبة للعالم الإسلامي.. وذلك من خلال توجه التفكير إلى أيديولوجية أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية وأكثر ارتباطا بالقيم، بمعنى أن فكر الخدمة منسجم في هذا المنطلق مع ما يروج إليه في كافة المنتديات الدولية، ولذلك فالخدمة ليس لها حاجة في توظيف قيم الإسلام التي تنطلق منها في إطار أيديولوجية، يقول:”لا شك أن الوضع العالمي الحالي مختلف عن الوضع والظروف السياسية التي ولّدت الاستشراق وولّدت الأيديولوجية الإسلامية التقليدية. فقد انفصل الوضع العالمي عن الأسس الأيديولوجية التي ارتبط بها الاستشراق الكلاسيكي، واتجه نحو وضعٍ أكثر إنسانية وأكثر أخلاقية إلى قيم عالمية مشتركة. لذا فمن الخطأ الوقوع في خوف وقلق مما يجري حاليًّا في العالم الإسلامي واعتباره نتيجة للمغالبة السياسية ثم تهديدا للعلاقات الدولية، ولاسيما حركة فتح الله كولن، لأن الآلية الأساسية في هذه الحركة هي ماهيتها الدينية والثقافية والاجتماعية البعيدة عن الصبغة السياسية والأيديولوجية. وقد بقي الأستاذ فتح الله كولن طوال حياته بعيدا عن الفعاليات السياسية وعن الأهداف السياسية، ولم يقدم الإسلام في أي وقت من الأوقات كأيديولوجية سياسية، بل رأى أن هذا الأسلوب من التبليغ والدعوة، سيلحق ضررا بالدعوة الإسلامية، وكرر شرح موقفه هذا مرارا وتكرارا سواء في خطبته للجماهير أو مقالاته”.
وانطلاقا مما تقدم يمكن القول إن مشروع الخدمة ليست حركة دينية مثل الحركات الدينية الأخرى التي تنظر إلى الحداثة نظرة رفض وعدم قبول، هذا في الوقت الذي نجد فيه الأستاذ فتح الله ينظر إلى الحداثة من الزاوية الإيجابية. بل نلاحظ سعيا إلى نوع من المصالحة مع الفكر الحداثي مع تكييفه وفق المنظومة الإسلامية التي لم يتوقف طيلة حياته على الإلحاح على ضرورتها في كل سعي إلى النهضة والانبعاث وفي كل مشروع إصلاحي.
قد تبدو حركة الخدمة وخطاب الأستاذ فتح الله ميالين إلى نوع من حياة الزهد والتصوف، وقد كتب الأستاذ فتح الله الكثير في التصوف، لكنه في إطار الخدمة كان حريصا على ألا يميل بها جهة أن تكون جماعة بالمعنى المعروف وألا يميل بها حتى تصير طريقة صوفية تواكلية. وقد يبدو الأستاذ فتح الله في مختلف مظاهر حياته رجلا زاهدا في الدنيا وناسكا بسبب الخلوة التي ألزم نفسه بها، لكنه لم يفرض مطلقا على محبّيه وتلامذته أن يكونوا مثله أو أن يعتزلوا المجتمع في زوايا وتكايا، بل على العكس من ذلك ظل دائما يحث الناس على أن يكونوا أفرادا من الناس وأن ينخرطوا في الحياة والمجتمع ويساهموا في إصلاحه وتغييره دون أن يتكلموا عن الإصلاح والتغيير. يقول أنس أركنة: “مع وجود بعض أوجه التشابه بين الآليات الرئيسية لحركة فتح الله كولن والطرق الصوفية التقليدية في استعمال بعض المفاهيم المتعلقة بالتربية الروحية والحياة القلبية، إلا أنها تختلف عنها في مجال تشكيل حركة مدنية مؤثرة، وفي طرز التثقيف، وفي منهجية سلوكيات الحركة. إن حركة فتح الله كولن حركة مجهزة بآليات الحركات المدنية، وفيها الكثير من المفاهيم التصوفية: الفكرية منها والعملية، مثل التواضع والتضحية والإخلاص، ونذر النفس للخدمة، والتوجه نحو الحق تعالى، والعيش لإسعاد الآخرين، وتقديم الخدمات دون مقابل، والتوجه نحو الحياة الروحية المعنوية والقلبية، ولكنها لا تجعل الإنسان يتقوقع على نفسه، بل يتوجه إلى الآخرين وإلى المجتمع أيضا”.
يؤكد أنس أركنة أن الحركة بعيدة عن أن تكون حركة صوفية، وبالأحرى أن تكون طريقة صوفية تتمركز حول شيخها وتدخل معه في علاقة شيخ بمريده، أي أن تتلقى من شيخها كل عناصر تَرقّيها من أذكار وغيرها من المظاهر التي تميز الطرق الصوفية كالتوجه “نحو العالم الداخلي الخاص والخفي للإنسان، وتحاول إضعاف علاقة سالكيها مع الشؤون الدنيوية ومع الحياة الاجتماعية ودفعهم إلى الحياة الروحية وتجاربها المختلفة وتحمّل المعاناة في هذه السبيل”.
يؤكد أفراد الخدمة وخاصة النخبة من الرجال الذين تربّوا في كنف الأستاذ فتح الله كولن وتلقّوا عنه مباشرة المعرفة والسلوك، أن الأستاذ فتح الله قدوة لهم في كل أمر. وأول ما يقف عليه المتابع والباحث في حديث هؤلاء التلاميذ عن أستاذهم هو ذلك التطابق الذي يجدونه في أستاذهم بين ما يقوله وما يفعله، فقوله وفعله شيء واحد ووجهان لعملة واحدة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
يؤكد تلامذة فتح الله كولن والمقرّبون منه جميعًا وتتطابق أحكامهم وأوصافهم حول مثالية تشبع أستاذهم بالقيم والأخلاق الإسلامية وزهده في الدنيا وارتباطه بالله، وتعلّقه بشخص رسول الله ، بل يؤكدون بأن تقدير الأستاذ لشخص الرسول واحترامه وحبه له ليس له مثيل، ويتجلى ذلك في حرصه على إحياء سنّته بتطبيقها على نفسه قبل الغير.
هذه المظاهر ومظاهر أخرى عرفانية تؤكد بأن الأستاذ فتح الله يعيش في أبعاد روحانية واسعة، لكن دون قطع علاقته بالواقع، فذهنه يقظ يتابع كل شيء من مجريات وأحداث، ويجهد نفسه في إيجاد حلول لها في ضوء اقتناعاته العقدية والفكرية والثقافية، وفي إطار التوازنات الدولية، وفي إطار يراعي روح العصر ولا يصطدم معه؛ بل هو حريص على أن تكون الخدمة هي التعبير الأرقى عن قدرة الإنسان المسلم على التكيف مع المحيط المحلي والعالمي في إطار إيجابي من خلال القفز على كل التناقضات التي يفرزها، والتركيز على العناصر الإيجابية والعمل على توظيف كل ذلك توظيفا سليما.
وأتصور بأن تعامله مع الحداثة ونظرته إليها يتم من زاوية إيجابية بعد إخضاع معطياتها للمنظور الإسلامي.
خامسًا: الخدمة نظام اجتماعي جديد
بناء على ما تقدم يُطرَح السؤال الآتي: هل تستجيب “الخدمة” للمعايير التي يضعها علم الاجتماع لتصنيف الحركات والجماعات؟
يرى الأستاذ أنس أركنة أن طبيعة العلاقات التي تنتجها الخدمة وتتحرك في إطارها تتجاوز ما يطلق عليه ماكس ويبر (Max Weber) “وضع العلاقات الدينية والاجتماعية على أساس عقلانيّ”. يقول متحدثا عن طبيعة العلاقات التي تسُود حركة الخدمة: “ومن هذه الزاوية فإن العمق الديني وشعور العبودية، يحملان أهدافا اجتماعية أكثر شمولية وتكاملا. ويطلق “ماكس ويبر” على هذا الأمر -حسب المصطلحات والمفاهيم التي طورها- تعبير “وضع العلاقات الدينية والاجتماعية على أساس عقلاني”. ولكن هذا التعبير لا يستطيع الإحاطة بديناميكية حركة فتح الله كولن الاجتماعية والثقافية والعقلية إحاطة تامة”.
على هذا الأساس يتأكد أن حركة فتح الله كولن هي نظام جديد أو بنية جديدة نابعة من عمق المنطلق الفكري والعقدي الذي تنطلق منه. ولذلك فإن النموذج التفسيري الذي يفسرها ينبغي أن يكون نابعا من ذاتها، إذ ينبغي مساءلة الخدمة من الداخل باعتبارها ظاهرة وُلدت دون أن يكون للفكر والرؤية وأوجه التطبيق والتنزيل أدنى مساحة تفصل بينهما. فالخدمة هي حركية رجل جعل من عدم الفصل بين المعتقد والسلوك اليومي منهجا للإصلاح، مع اشتراك الناس في همّ الإصلاح والبعث الذي حمله بين جوانحه، بل لنقلْ إنه قد احتفظ لنفسه بكل الإخفاقات والصعوبات التي تواجه كل مشروع خلال مرحلة البناء وأثناء رحلة التشييد الطويلة، لكنه أشرك في الوقت نفسه الناس في النجاح، ولم يستأثر به ليصنع سلطة لنفسه ونفوذا، إدراكا منه أن النجاح لا بد أن يكون رأسمال يوحد الوطن ويوحد العالم دون أن يكون في الخطاب ما يشير إلى هذه الرؤية الموحدة. فقد ظلت الوحدة وحدة معنوية افتراضية تلتقي عند حقيقة واحدة هي القيم الإنسانية السامية.
يلحّ أنس أركنة على بناء معالم هوية حركة الخدمة، بتنفيذ ادعاءات علم الاجتماع الذي تأسس في ظل الفلسفة الوضعية وفي ظل التطور الصناعي، ويلح على أن ظاهرة الجماعة في تركيا وفي العالم الإسلامي لا ينبغي تفسيرها بمعطيات غريبة عن الوسط الذي نشأت فيه. وفي ضوء ذلك يناقش أنس أركنة تفسير “تونيس” الذي حلل الجماعة والمجتمع فخلص إلى أن السلوك الإنساني ينبغي تناوله من زاويتين: الزاوية الأولى هي زاوية طبيعة الروابط التي تكون الجماعة والمجتمع. والزاوية الثانية هي زاوية كيفية تغير إرادة الإنسان في الجماعة وفي المجتمع. ورصد ثلاثة روابط تطبع الجماعة، هي صلة القرابة أي الدم، وصلة الجوار، وصلة الصداقة، وتبدو العائلة أهم مظهر يطبع الجماعة، وأهم ما كانت تتميز به هذه الروابط قبل الحداثة هو أنها كانت روابط قوية ودافئة وحميمية، وكانت قائمة على أساس من التعاون والتلاحم والترابط، وكانت تنتج الأعراف والتقاليد المشتركة، “لكن كلما توسّعت المجتمعات ذات الطابع الصناعي وسيطرت على الحياة، تقلّصت أشكال الجماعات الريفية وانحلّت الواحدة بعد الأخرى وبدأت الروابط العقلية بالحلول محل الروابط والتقاليد الريفية، أي يظهر في المدينة شكل آخر من الروابط والجماعات الاجتماعية”.
تبرز الروابط العقلية في نظر تونيس علاقة متحكمة في نظام الجماعة والمجتمع في ظل المجتمع الصناعي وفي ظل الحداثة، في مقابل الروابط الطبيعية أو العاطفية أو ما يطلق عليه الإرادة الطبيعية في مقابل الإرادة العقلية. ومن هنا فإن المجتمعات المدنية وليدة الإرادة العقلية للإنسانية، وهي نتيجة مباشرة للحداثة والثورة الصناعية حين “حلّت روابط عقلانية في هذه المجتمعات محل الروابط القديمة المتمثلة في التعاون والتساند. إن الأفراد في مجتمع المدينة غرباء بعضهم عن بعض، والروابط بينهم منقطعة، وبالتالي فالعلاقة بينهم ليست دافئة كما كانت في الجماعات التقليدية في الريف، بل هي روابط ومخططة وموضوعة على أسس عقلانية. الفرد هنا موجود لنفسه فقط ومعزول عن الباقين، والعلاقات قائمة على المصالح المتقابلة، وتسند إلى المنافسة وإلى البيع والشراء، ونرى هنا نموذج الإنسان التاجر الساعي دائما وراء الكسب والربح، بدلا من الفرد والإنسان العاطفي الباحث عن الصداقة والمستعد للبذل”.
ألحّ في إطار تناوله لمفهوم الجماعة والمجتمع على دينامكية المجتمع وعلى ديمومته، لأن الناس يكونون جماعات عندما يكون هناك مصالح مشتركة. والرغبة في تكوين مجتمعات وخدمات وُجدت قبل الحداثة، لكن الجماعة المتكونة وفق هذا النمط فقدت هويتها. فـ”ويبر” يعتقد أن الفعالية الاجتماعية تظهر من خلال الجماعة التي تتحكم فيها الروابط العاطفية في مقابل المجتمع الذي تتحكم فيه الروابط العقلانية، ويعلّق أنس أركنة على ذلك بالقول: “على الرغم من التحليلات العميقة لـ”ويبر” فقد أظهر الزمن أن ظاهرة “الجماعة” تستمر في الوجود حتى في أكثر المجتمعات حداثة وعقلانية ولكن على أشكال وصور مختلفة”.
وانطلاقا مما تقدم وعلى أساسه نلاحظ بأن محمد أنس أركنة يخرج بملاحظة مركزية وهي أن الذين حللوا مظاهر الجماعة حللوها من زاويتين مختلفتين: الأولى علمية معرفية قد لا تنسحب جميع معطياتها على طبيعة الجماعة في العالم الإسلامي عموما وفي تركيا.. وأما الزاوية الثانية فهي زاوية توظف مفاهيم علم الاجتماع من منطلقات أيديولوجية أو توظف مفاهيم علم الاجتماع من أجل الترويج لقضايا ورؤى أيديولوجية تذهب على حد اعتبار الإسلام والجماعات الإسلامية خطرا يهدد الحداثة وقيمها، بل تعتبرها تيارا يسير في تيار معاكس لتيار سير الحداثة، خاصة في ظل اقتناع فكري مطلق بأن العالم يسير بخطوط حديثة نحو ترسيخ قيم الحداثة.
يقول أنس أركنة بأن العديد من علماء هذا التيار يؤمنون بأن “الإسلام أكبر خطر وأكبر عدو للمدينة الغربية. وهذا التصرف تصرف أيديولوجي تماما، فهم لا يحاولون الفهم، بل يحاولون “خلق أعداء”. كما أن هذا التصرف تجديد لعملية خلق “الجهة الأخرى” أو “الطرف الآخر” المعادي الذي قام به المستشرفون في القرن التاسع عشر. ويسهل هنا فهم السبب وراء محاولة العديد من التحاليل الاجتماعية، وبإصرار نجد تكوين الجماعات أمرا سابقا للحداثة، والحداثة عندهم تشكل أفضل وأنضج صفحة في التاريخ الإنساني، ولم يبلغ الإنسان وكذلك المجتمع مرتبة الكمال إلا بفضلها، وأن نموذج الدولة والمجتمع وطرز الحياة والصناعة وصلتْ بفضلها إلى المرحلة الأخيرة والنهائية التي يمكن للإنسان أن يصل إليها. لذا فكلّ حركة وكلّ تنظيم اجتماعي لا يتقبل هذه الحداثة فهو رجوع إلى الوراء”.
لا يقف أنس أركنة هنا في موقع المدافع عن الخدمة ولكنه يعمل على إبراز المعطيات التي تتيح تصنيف الحركة أو تصنيف الخدمة تصنيفا سليما ودقيقا وموضوعيا. وأكثر من ذلك يحرص على أن يكون التصنيف علميا.. وفي هذا الإطار يعمل على إثبات الصفة الدينية للخدمة، إذ يعتبرها حركة دينية، بل يعتبر الدين عنصرا أساسيا في الخدمة. وهي باعتبارها حركة معتدلة، حركة تُسقِط بعض ادعاءات علم الاجتماع الذي يميل إلى القول بأن الدين يسير نحو الانحسار في ظل الحداثة وبأن تأثيره سينزوي بعيدا، بل إن علم الاجتماع يعتقد أن الدين في ظل الحداثة يعيش مرحلة الاحتضار ويعيش سنواته الأخيرة.
بنت الفلسفة نظرتها الفلسفية على أساس عقلي واعتبرت الدين جزء من العهود البدائية للإنسانية، وروجت لفكرة أن الإنسان “عندما ينتقل إلى عهد التنوير وعهد العلم، فإن الدين سيزول حتما ويختفي، وأن الدين ليس سوى خرافة من الخرافات”.
الشاهد فيما تقدم هو أن حركة الحداثة كما يتم تبنيها في المعتقدات الأيديولوجية تعتبر الدين عنصرًا لا مكان له في ظل المجتمع الصناعي. لكن هذه الرؤية لا تستطيع أن تُثبِت صلابَتها مع نموذج حركة الخدمة، باعتبار الدين العنصر المركزي الذي ينطلق منه الأستاذ فتح الله كولن في بناء الفعالية الإنسانية في العصر الحديث دون أن يكون لهذه الفاعلية أي تصادم أو تعارض مع قيم العصر.. بعبارة أخرى إن الأستاذ فتح الله كولن عمل على تأكيد أن قيم الإسلام هي فوق قيم العصر وبإمكانها طيّها ووضعها تحت جناحها.
لقد سعى الأستاذ فتح الله كولن على مدى سنوات طويلة إلى بناء حركة على أساس هوية جديدة لست هوية أزمة أو ردة فعل على أزمة العلاقة مع الحداثة، بل هوية اجتماعية ذات أهداف اجتماعية. يقول أنس أركنة: “إن الوعي الإسلامي مشترك عام فوق الجماعات والفرقاء، ولا يمكن إرجاعه إلى مصلحة جماعية معينة أو فريق بعينه. وإذا كنّا نعني بالوعي عدم الاكتفاء بتديّن بسيط فهذا صحيح، وهو يتماشى مع أسس الإسلام القرآن والسنة والاجتماع، وهو يشكل جوابا أو حلا لهوية المسلم التي تعرضت للتخريب بسبب الانحدار الاجتماعي – الاقتصادي، والاجتماعي – الثقافي. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون هذا الوعي بديلا ضد الأزمنة الاجتماعية والثقافية وإنتاج الهوية السياسية هو من وظيفة الأحزاب السياسية. ولا يمكن اختصار أهداف الدين الإسلامي على نطاق الفرد والمجتمع إلى مجرد وعي سياسي. ثم إن أبسط الأهداف الدنيوية ومثلها مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر مع الحياة الأبدية ومع السعادة الأخروية. ولا يمكن للأهداف الدنيوية الضيقة والعقيمة والأهداف السياسية استيعاب أهداف الإسلام الممتدة إلى اللانهاية واحتضانها، فليس من الصحيح قراءة تصاعد الوعي الإسلامي على ضوء الأهداف الدنيوية والسياسية البحتة لأن هذا يعني هدم مثل الإسلام اللانهائية والأبدية، وهذا ما لا يقبله حتى المسلم الاعتيادي”.
انطلاقا مما تقدم نستطيع القول إن الأستاذ فتح الله كولن قد عمل على بعث القيم الإسلامية الأصيلة كما عاشها الصحابة الكرام وجيل السعادة في كنف الرسول . لكنه أثناء الحركية المرتبطة بالإنسان كانت معالم حركة جديدة تتأسس، حركة لا تستطيع مناهج علم الاجتماع ولا علم السياسة ولا كل نظريات العلوم الوضعية، ولا فكر الحداثة أن تفسر نظامها الداخلي وأن تخضع مكوناتها لمصطلحها وتفسيراتها، وذلك لأنها استطاعت أن تبني لنفسها نموذجها الخاص أو لنقلْ إنها قد أعادت بعث نموذج ناجح وجد من قبل، من خلال العودة إلى التاريخ. فصنعت الحركة نموذجها الذاتي.. ولذلك فإن السعي إلى فهم حركة الخدمة ينبغي أن يكون انطلاقا من الداخل، أي انطلاقا من نموذجها الداخلي الخاص. ومن ثمة ففهم هوية حركة الخدمة يحتم الدخول إلى عالمها الذاتي الخاص وتحليلها وفهمها على هذا الأساس.
سادسًا: نموذج حركي جديد في ظل نموذج بشري
من أهم ما يميز “الخدمة” هو أنها تمكّنت أن تبني نموذجها البشري الخاص وفق صورة طلبت في التاريخ. فالتاريخ عنصر فعال في هذا النموذج البشري. وفي مقال الأستاذ فتح الله كولن بعنوان “حركة نماذجها من ذاتها” ترجم إلى اللغة العربية (في سنة 2008) نلاحظ أن الأستاذ فتح الله كولن يلفت الانتباه إلى طبيعة النموذج الإنساني الذي يؤثث “الخدمة” التي استطاعت أثناء شق طريقها من أن تبني نموذجًا بشريا في رحمها. لقد تكوّن هذا الإنسان في رحم ولادة هي رحم إسلامية منطلقا وقلبا وقالبا، وفي رحم مرتبطة بالخالق وبالإسلام وبالقرآن والسنة وبالتاريخ. ولذلك استحقت هذه النماذج البشرية صفة “الإنسان الجديد”.
يؤكد الأستاذ فتح الله على ضرورة أن يتم الاهتمام بهذه الحركة وأن يعتنى بها، يقول: “إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي. فقد قررت فئة قليلة ملَكَ الحبُّ قلبَها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعًا في وقت لم يخطر فيه هذا بخاطر أحد.. انطلقت دون أن تهتم بآلام الغربة وبفراق الأحبة، ملؤها العزم والثقة… طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة… قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريّو الرسل “خضْنا دروب الحب فنحن مجانين…” (الشاعر نيكاري). ذهبوا وهم في ميعة الشباب يحملون آمالاً وأشواقًا دنيوية تشتعل في قلب كل شاب والتي لها جاذبية لا تقاوَم، فضلا عن هذه الفترة النضرة من مرحلة الشاب.. ذهبوا في عصر طفت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، وهم يكبتون تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم باشتياق إلى وصال آخر أقوى منها وأكثر التهابًا وتوهجًا وهم ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ويسيحون حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول”.
يثير الأستاذ الانتباه إلى تلك الحركة القوية التي نشأت في رحم الخدمة ثم انطلقت نحو الآفاق البعيدة تحمل رؤية وعمل حركة تحمل قيما إنسانية جديدة، تحمل حضارة وعمرانًا، تحمل محبة تبشر بميلاد إنسان جديد. لقد كان “هدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضـوان الله تعالى وحظوظهم كحظوظ الربانيين والصحابة”.
يعتبر الأستاذ فتح الله كولن أن الخدمة فضاء يساعد الإنسان على أن يعيد اكتشاف ذاته، ويعيد اكتشاف هويته وماضيه وتاريخه، لأن هذه النماذج البشرية التي تحرك الخدمة هي نماذج لم تستعر لنفسها هوية ولم تبحث لنفسها عن قدوة في تربة غير التربة التي توجد فيها وولدت فيها، وبذلك كان هذا الجيل هو الجيل الذي ستكتشف الإنسانية بهم نفسها من جديد وستأخذ مكانها الصحيح في كيان الوجود. لذا كان هؤلاء هم الجيل المرتقب، وهم الجيل الذي تنتظره الإنسانية في كل مكان… إنهم جيل المستقبل وأبناؤه.. أيا كان تقييم الناس إيّاهم، فالمستقبل المنور حامل بأسرارهم”.
إنهم صناع الإنسان وصناع المستقبل الإنساني المشرق من جهة ما يحملونه إلى كل إنسان في هذا العالم من عناصر إيجابية يحاصرون بها العناصر السلبية، يقول الأستاذ فتح الله: “فهم ينيرون القلوب الظامئة أينما حلّوا أو ارتحلوا، وينبّهون الفطر السليمة والظاهرة إلى ما وراء أستار الأشياء والحوادث، ويسقون السجايا السليمة القيم الإنسانية”.
إن معالم عالم جديد تلوح في الأفق وستبنى ركائزه بسواعد هؤلاء. وليس هذا فحسب فإن هذه النماذج قادرة على أن تصحح ما أفسده الإنسان، ولن نبالغ إذا قلنا إن نماذج الخدمة ستعيد توجيه الحداثة في الاتجاه الصحيح من خلال إعادة العلاقة الوثيقة بين القلب والعقل وبين القلب والعلم، “فيكون كل من الوجدان والمنطق أحدهما بعدا مختلفا للآخر، وتوضع نهاية للنزاع بين ما هو مادي وما هوي ميتافيزيقي، حيث ينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه، ويتم اكتشاف التداخل بين الأوامر التشريعية والأسس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له. وسيسود جوّ من السكينة والهدوء -الذي لم يتحقق تماما حتى الآن- في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت، ونصب نسائمه على جميع البشرية لن ينتهك عرض، ولن يداس على شرف، بل سيسود الاحترامُ القلوبَ، فلا يطمع إنسان في مال إنسان آخر، ولا ينظر نظرة خيانة إلى شرف آخر، سيصبح الأقوياء عادلين”.
يظن البعض إن هذا خطاب مثالي حالم، وهو فعلا حلم الأستاذ فتح الله وحلم الخدمة، لكنه حلم آخذ في التحقق. وكل يوم يمر على الحركة هو حلقة تضاف في سلسلة الوصول إلى الهدف المرسوم دون أن تكون الخدمة حركة حالمة أو حركة طوباوية. فقد نجحت على مدى أربعين سنة، واستطاعت أن تكوّن لنفسها تراثا قويا مفعما بثقة الناس فيه. إن الرأسمال الحقيقي الذي استثمرت فيه الخدمة واستثمر فيه الأستاذ فتح الله كولن هو الإنسان المؤمن بضرورة أن يقدم لغيره ولمن في حاجة إليه منفعة عامة دون ربطها بمصلحة دنيوية أو مصلحة سياسية. النماذج البشرية التي صنعت الخدمة صنعت أهم عنصر في الخدمة وهو أن صناعة الخير وصناعة الحضارة ليس لها غاية إلا الفوز بالآخرة، ثم انْسَ ما صنعت من خير وانْسَ أنّك نيست كذلك.
وقد يُظَنّ أن هذا الخطاب المثالي يبشر بإنسان مجرد من إرادته ومجرد من حريته وأنه مجرد بطل يؤثث فصول رواية خيالية، لكن هذا النموذج البشري صورة فعلية وحقيقية. فهي صورة إنسان يتحرك في الواقع، يتواجد حيث لا يخطر على بال أحد أن يصل إليه إنسان.
يقدم الأستاذ فتح الله في مقالة بعنوان “الإنسان الجديد” خصوصيات هذا الإنسان الذي صنع “الخدمة” وصنعته “الخدمة”. فهو نموذج إنساني مختلف عن إنسان القرن الثامن عشر وإنسان القرن التاسع عشر الذي انجرف خلف مختلف الفانتازيات واصطدم بماضيه ومقوماته التاريخية. وهو ليس غريبا عن نفسه كإنسان القرن العشرين ولا منكرا لهويته، لأن هذا الإنسان الجديد سيكون في القرن الواحد والعشرين، صاحب الكلمة الفصل.
والجدير بالذكر في هذا الصدد أن هذا الإنسان الجديد الذي يتحدث عنه الأستاذ فتح الله كولن ليس حكرا على “الخدمة” ليتأكد الطابع الفكري للخدمة؛ أي إن الخدمة مجرد فكرة جرى تنزيلها في الواقع، بالنظر إلى الدور الذي قام به أبناء الخدمة في العقود الأخيرة وما يزالون من نشر لروح التسامح والحب والسلام، وأخْذ الوجود وخالق الوجود بعين الاعتبار، وارتكاز العلاقات الإنسانية على المستوى الفردي والجماعي. فإن روح “الخدمة” تتحرك في اتجاه الجريان في أوصال المجتمع الإنساني حيث يقول فتح الله: “سيولد إنسان جديد كل الجدة، إنسان يفكر ويحاسب، ويوازن ويدقق، ويعتمد على التجربة قدر اعتماده على العقل، ويثق ويؤمن بالإلهام والوجدان قدر اهتمامه بالعقل والتجربة.. إنسان يحاول دوما بروحه وبدنه الوصولَ إلى الأفضل، ويرغب في الوصول إلى الكمال والتكامل في كل شيء.. إنسان يسمو بالموازنة بين الدنيا والآخرة، ويوفق إلى الجمع بين عقله وقلبه فيصبح نموذجا جديدا لا مثيل له. ولا شك أن ولادة هذا الإنسان الجديد ليس بالأمر السهل، فلا بد من آلام مخاض وتوجّع وأنين. ولكن حين يئين الأوان فسوف تتحقق هذه الولادة المباركة حتما، ويظهر هذا الجيل الذهبي بيننا فجأة -كالخضر u- بوجهه النوراني الذي يشعّ كالبدر. فكما تنهمر الرحمة الإلهية من خلال الغيوم المتراكم بعضها فوق بعض، وكما تتفجّر المياه من ينابيع الأرض، وتتفتح زهرات الثلج وتنتشر في مواقع ذوَبان الثلج والجليد، وكما تتلألأ قطرات الندى وتتربع على الأوراق، سيسطع نور هذا الإنسان في سماء البشرية البائسة الحزينة لا محالة، ربما اليوم أو غدا أو بعد غد”.
ومن أهم مواصفات هذا الإنسان الجديد الذي بدأت مقدماته تلوح في الأفق أنه نموذج إنساني ثابت الرؤية راسخ القدم فيما يعتقد.. ليس من السهل زحزحته عن مكانه قيد أنملة أو أقل من ذلك، وفوق كل ذلك فإن “الإنسان الجديد رجل حرّ في تفكيره، حر في تصوّره، حر في إرادته، وحريته هذه مرتبطة بقدر عبوديته لله سبحانه وتعالى. ثم إن الإنسان الجديد لا يتشبه بالآخرين ولا يتمثل بهم، بل يحاول جاهدا أن يتزيّا بهويته الذاتية ويتزيّن بمقوماته التاريخية”.
إن الإنسان الذي تقوم حياته على هذه المواصفات الخاصة النابعة من عمق واقعه التاريخي والاجتماعي والثقافي والديني يملك قدرة كبيرة على التفاعل الكلي والتام مع عصره ومع معطيات العصر.. ومن هنا تبدو الحداثة بالنسبة له عالما يستطيع دخوله وإعادة توجيهه وتصحيح مساره وطبعه بطابعه الخاص. ولذلك كانت الخدمة ورجالها أكثر الناس انفتاحا على ما أوجده العصر من وسائط نفسية وتكنولوجية ووسائل إعلامية متقدمة. بل يمكن القول بأن الأستاذ فتح الله كولن كان سبّاقا إلى توظيف الإمكانات التي أنتجها الواقع المعاصر ووسائل النشر والإعلام ووسائل تكونولوجية حديثة، يقول الأستاذ فتح الله: “الإنسان الجديد سيقدم جميع وسائل الاتصال الحديثة، كتبا وجرائد ومجلات، وإذاعة وتلفازا ومنشورات للولوج إلى القلوب والنفوذ إلى العقول والدخول إلى الأرواح. ويثبت جدارته من خلالها مرة أخرى، بل ويسترد مكانته المسلوبة في التوازن العالمي من جديد”.
لقد أنجزت الخدمة نموذجها الإنساني انطلاقا من سبقها الخاص كما يطلق عليها أنس أركنة، فهي لم تستعن بأيّة إيديولوجية داخلية أو خارجية، لقد استمدت طاقتها من قوة شخصية الأستاذ فتح الله كولن المعرفية والدعوية والعلمية، ومن خطبه الحماسية وحركته المدنية ونشاطه الاجتماعي ومن الثقافة الذاتية ومن التاريخ الذاتي.
ولا شك أن أوساطا كثيرة من المجتمع التركي كانت تجد في شخصية النورسي وفي رسائله ما يجعلها مهيأة لاستقبال خطاب يوظف البعد الروحي لرسائل النور بمنهج جديد وبروح جديدة، إذ لم يكن الأستاذ فتح الله كولن بما أوتي من ذكاء وحصانة رأي وحكمة وعلم وبُعد نظر وروحانية أن يقف عند الشعار الذي رفعه الأستاذ بديع الزمان سعيد لنورسي وهو “إنقاذ الإيمان”. لقد كان عليه أن يتقدم بهذه القيمة السامية خطوات إلى الأمام حتى يجعل منها رأسمال حقيقي يغير وجه الواقع وينطلق نحو المستقبل. لم تكن مساهمة رسائل النور في صناعة الخدمة لنسقها الخاص مساهمة عضوية، بل كانت مساهمة روحية ومعنوية وفكرية. لقد كانت الحركة في حاجة إلى روح فذة ذات خصوصية كبيرة تستطيع فهم الأسس بروح قابلة لأن تتوجه إلى روح الحضارة.
سابعًا: حركة الخدمة وحركة النور
كثيرا ما توصف حركة الخدمة على أنها امتداد لحركة النور أو لنقل لجماعة النور التي تأسست حول رسائل النور، وحول أفكار الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي. وهنا يُطرح السؤال “إلى أي حد يمكن اعتبار الأستاذ فتح الله كولن تلميذا للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، واعتبار حركة الخدمة تفسيرا لرسائل النور وتأويلا لأفكار بديع الزمان سعيد النورسي؟”.
علما بأن الأستاذ فتح الله كولن لم يلتق بالأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، ولم تربطه بالتنظيمات التي تكونت بعد وفاته على يد كبار تلاميذه.
إن الأستاذ فتح الله كولن مؤمن بفكرة الاجتماع حول مائدة الإيمان من خلال رسائل النور، لكنه عمل على بناء منهجه التربوي الخاص، وسهر على تطويره وفق الآمال التي كان يطمح إليها. والدليل على ذلك هو الرعيل الذي تربّى في كنفه، والرجال الذين عبروا معه ساحل التجربة، وهم اليوم من أعمدة الخدمة وأُطُرها الذين يسهرون على تطبيق منهج الأستاذ الحركي والتربوي، ويسهرون على تطوير المنهج والتفكير مع الأستاذ فتح الله وفي تكييف هذا المنهج وفق معطيات الواقع الزمانية والمكانية.
لقد استطاع الأستاذ فتح الله كولن من خلال فكرة الخدمة التغلغل في عمق المجتمع دون أن يكون للحواجز الطبقية والفكرية والأيديولوجية والسياسية أي تأثير، أو أن تكون حائلا يمنع الناس من الاقتناع برؤيته. ولذلك فالخدمة اليوم مزيج من الناس والرؤى تلتقي عند فكرة الخدمة وروحها، “فكتل الجماهير التي تستند إليها حركة فتح الله كولن ليست طبقة معزولة -سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا- عن المجتمع، بل تكتسب التأييد والعون من الفئات والجماهير المختلفة الريفية منها أو الحضرية. إن قاعدتها الجماهيرية متكونة من الطبقات الدنيا والوسطى والغنية في الريف وفي المدن. أما جهاز الحركة فيسير من قبل أفراد متعلمين ومثقفين قد تخرجوا من الجامعات الراقية في المدن المختلفة. ولا تتصرف هذه الفئات المختلفة للحركة بدافع من مشاعر العزلة عن القيم الاجتماعية والسياسة المركزية للبلد، ولا تحمل أي ضغينة أو حقد للطبقة المنتجة التي تدبر البلد، ولا للأوساط الاجتماعية والاقتصادية الحاملة للقيم الغربية”.
وبالاتصال بهذه القضية -أي قضية بناء الخدمة لنموذجها الخاص- تثار قضية الإمكانات المادية التي تتوفر عليها الخدمة، والتي اعتبرت مدخلا لاتهام الأستاذ فتح الله والخدمة بكونهما يتلقيان الدعم من جهات خارجية نافذة وقوية. وهو الشيء الذي ما توقف الأستاذ فتح الله كولن على تكذيبه وعلى بيان أن من أسباب نجاح الخدمة في نشر أفكارها وتمكنها من الانتشار في العالم كله هو ابتعادها عن أن تكون أداة في يد جهة ما رسمية أو مستقلة محلية أو عالمية.
أما اعتماد الحركة على إمكاناتها الخاصة، فقد استطاعت على مدى خمسين سنة من أن تبني لنفسها سلطة مادية مستقلة. والمصدر الأول لأعبائها المادية هو كتل الجماهير التي آمنت بفكر الخدمة، وتأكدت بأن ما تتطوع به من جهد مادي أو معنوي يوجه التوجيه السليم الذي يعود بالنفع على الوطن وأهله. فالإنسان التركي والمنخرط في الخدمة ينفق بسخاء بكل حب ورضى وإخلاص، لأنه يعلم بأن لا شيء يذهب إلى جيب الأستاذ فتح الله كولن، ولا إلى جيوب المقربين منه. إذ من المعروف أن أيا من مؤسسات الخدمة سواء التربوية منها والإعلامية والاقتصادية والثقافية، لا تربطها بشخص الأستاذ أي رابط عضوي، بل هي مؤسسات مستقلة عنه، ومستقلة بعضها عن بعض.. بعبارة أخرى لقد أوجدت الخدمة نظاما مؤسساتيا يتحرك بعيدا عن الأشخاص، فالشخص يأتي ويذهب لكن عمل المؤسسة نفسها يبقى مستمرا.
يمكن إدراك هذه الأبعاد من خلال عملية التغيير لأطر الخدمة المستمر، فلا أحد يستمر طويلا في مهمة من المهام، وذلك من خلال مفهوم الهجرة التي اكتست في ظل فكر الأستاذ فتح الله كولن بعدا آخر جديدا ومتجددا باستمرار.
ومما لا شك فيه أن الواقع التركي المتأثر إلى حد بعيد بالظروف التاريخية التي أحاطت به والمتأثر بالتحولات القوية التي عرفها المجتمع، قد ساهم إلى حد بعيد في تكوين أنماط من الجماعات والحركات السياسية والدينية. حيث تبرز بعض الحركات الدينية التي يعتبرها المهتمّون ردة فعل ضد التحولات المجتمعية والسياسية.. الأمر الذي يسمح بالقول إنها متطابقة إلى حد بعيد مع توجهات نظريات علم الاجتماع العملية منها والأيديولوجية، لكن حركة الخدمة أو جماعة الخدمة -كما يسميها علي بُولاَج- ليست كذلك، يقول عن جماعة الأستاذ فتح الله كولن “هي جماعة تعتمد في مرجعيتها على الفكر والقائد معا، أهم ما تتميز به هذه أنها اجتماعية متنظمة، لديها استعداد للانفتاح على العالم. ليست طريقة صوفية، فغالبا ما يتم الخلط بين الجماعة والطريقة، وقائد الجماعة لذلك ليس بشيخ. إن النمط التنظيمي للجماعات تاريخي. ومن ثم فإن الظاهرة الجماعية التي تشكّلت على ضوء رؤى فتح الله كولن وأفكاره واحتوت على عدد كبير من التجار والصناعيين وأرباب الحرف لهو أعظم ميراث ورثه من التاريخ”.
يركز علي بولاج على ثلاث ملاحظات تميز فكر فتح الله كولن وتطبع الخدمة:
- الملاحظة الأولى هي أنه شديد التشبث بالقرآن والسنة. وهو يوظف خطابا ولغة أصيلة وقوية وراقية وليس علمانية كتلك التي توظف في كليات الالهيات في تركيا. فهي لغة الإسلام -كما يقول علي بولاج- أي أن الإسلام في عمقه لا يمكن تقديمه إلا بلغة مثل لغة الأستاذ فتح الله كولن.
- الملاحظة الثانية هي أنها معروفة بتشبثها بالتقاليد والعادات، في وقت لا تترك فيه التطور والتقدّم بل تعتبر ذلك أمرا صحيا وضروريا. فهي حركة إحيائية كما يقول علي بولاج.
- الملاحظة الثالثة في نظر علي بولاج هي أن الأستاذ فتح الله كولن لم يقم بإصلاحات في صميم الدين، بل هو متشبث بالأصول الإسلامية، وبالأحكام والأفكار الأبدية العالمية، ولذلك فهو “يعارض القراءة التاريخية للقرآن الكريم والهرمينوطيقا”.
وإذا كان علي بولاج يرى أن الأستاذ فتح الله لم يقم بإصلاحات في جوهر الدين لأنه متصل شديد الاتصال بالأصول ويعتبرها أصلا قويا في كل إصلاح وتغيير حقيقي، فإن هذا لا يعني بأن الأستاذ فتح الله كولن ليس مجدّدا. فلقد جدد في الروح التي يقدم بها القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة. هذا هو ما يؤكده الذين بحثوا في شخصية الأستاذ فتح الله كولن المفسر، وفي شخصية الأستاذ فتح الله المحدث. فهو ينهج منهج التوفيق بين العديد من الآراء التفسيرية، خاصة فيما يتعلق بالآيات التي تحتاج إلى تأمل كبير دون أن يكون ذلك مانعا لأن تكون له رؤى تفسيرية خاصة. فقد انتقد آراء المعتزلة وعارض آراء الخوارج من خلال تقديم ما يراه ضروريا من ملاحظات بخصوص بعض الآيات وخاصة تلك الآيات المتعلقة بالذات الإلهية والحساب وغيرها. الشاهد عندنا أن الأستاذ فتح الله كولن مجدد جدد في الروح، وجدد في منهج تنزيل أسس الإسلام بما يتلاءم وظروف العصر الحديث.
ثامنًا: إضافات نوعية في العمل الدعوي
يرى أنس أركنة أن الإضافات التي أضافها الأستاذ فتح الله كولن في فهمه للإسلام والدعوة هو أهم ما يميز حركة الخدمة باعتبارها جماعة تختلف في فلسفتها وفي منهجها عن باقي الحركات والجماعات.
ونذكر بعض الإضافات فيما يلي على سبيل المثال لا على سبيل الحصر داعين الباحثين للحفر والتنقيب في هذا المجال الواسع الرحب.
1–البذل والإنفاق
فلقد جاء الأستاذ فتح بعمق آخر لمفهوم الزكاة والإنفاق، فالزكاة كما يرى الأستاذ فتح الله كولن في حدود ما نص عليه الشرع هي “الحد الأدنى من الإنفاق”، ولذلك فإن تفسيره لقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾(المؤمنون:4) تفهم على أنها فتح لباب الإنفاق على نطاق واسع، وفي إطار ما يطلق عليه أنس أركنة “الفداء” الذي يعني العطاء دون حدود كما كان حال الرعيل الأول في العهد المكّي. فحدود الإنفاق مفتوحة، وهذا العنصر من أهم ما أضافه الأستاذ لمفهوم الجماعة، إذ ارتبط الفعل الحركي عند عدد واسع من الناس بالإنفاق.
2–هيئة المتولي
ارتباطا بالنقطة السابقة أوجدت الخدمة عنصرا آخر له أهمية دقيقة وهو “هيأة المتولي”، أو “مؤسسة المتولي” التي كونت العمود الفقري للخدمة. تحمّلت هذه المؤسسة مسؤولية إنشاء شركات مستقلة عن الأفراد وتتمتع بالمسؤولية المعنوية وفق أسس مستلهمة من نظام الوقف. لكنها أكثر تنظيما من نظام الوقف وأكثر اتساعًا في نشاطها، بل إن هذه الشركات قد تحولت بفضل مؤسسة المتولي إلى مؤسسات عالمية يُنهَج في تدبير شؤونها أكثر المناهج والأفكار تطورا في مجال الاقتصاد والتدبير. وتمثل هذه المؤسسات اليوم الواجهة الاقتصادية القوية للخدمة وهي تتحرك دون أي ارتباط عضوي يربطها بالأشخاص بما في ذلك الأستاذ فتح الله كولن نفسه.
3–الاهتمام بالتربية والتعليم
ولعل أهم إضافة أضافها الأستاذ فتح الله كولن هو تلك الروح التي زرعها في التعليم وفي نظام التربية. فقد ألحّ على ضرورة توجيه الناس وتوجيه الخدمة إلى الاهتمام بالتعليم واعتبار ذلك اختيارا إستراتيجيا. وقد نجح الأستاذ فتح الله كولن والخدمة في ابتكار أنماط جديدة للرفع من مستوى جودة التعليم والتربية وتكوين الأجيال، بينما كانت القطاعات الإسلامية بصفة خاصة أبعد القطاعات عن التعليم حيث كانوا يرونه مجالا دنيويا تشتغل به الدولة.
ظل الأستاذ يوصي بالتعليم ويحرص على إبراز أهميته، حتى صارت كل الاتجاهات الفكرية بما في ذلك الاتجاهات الإسلامية وغير الإسلامية تتطلع إلى فتح المدارس وتتنافس في ذلك. لقد جعل فتح الله كولن من التربية والتعليم هاجس كل أسرة تركية، لأنه ظل يلح في كل دروسه ومواعظه على أهمية هذا الموضوع وخطورته. لقد أعاد الأستاذ فتح الله صياغة المدرسة والمعلم والتعليم والعائلة كأسرة واحدة، وصاغ هذا النموذج في المعاهد التي أسسها، منتجا فلسفة تعليم تتداخل فيها المدرسة والأسرة، وفقا لنموذج وفلسفة تعليم وتنشئة إنسان يتحمل كل أنواع تضحيات سلك التدريس. هذا النموذج ربى عددا كبيرا من كوادر المدرسين الذين يخدمون ويمارسون التعليم بإخلاص في كل مكان في العالم.
4–القطاعات المهنية
ومن الإضافات الأخرى التي أضافها الأستاذ فتح الله لمفهوم الخدمة تنظيمه لقطاعات المهنيين، وهو القطاع الذي يعتبره أنس أركنة أكثر مجالات الخدمة توفيقا، وأكثر المجالات توفيقا لدى الأستاذ.. لقد أعاد الأستاذ فتح الله تنظيم هذه القطاعات وأعاد توجيهها في الاتجاه الأفضل بعد أن انحرفت عن الأهداف والقيم التي كانت تقوم بها في القديم من خلال ما كان يعرف بتعاونيات الفتوّة وجمعيات الأخوّة باعتبارها مسلكا صوفيا يقوم على قيم دينية سامية مثل الفداء والتكافل والصدق والعطاء دون انتظار البديل، وعلى التواضع والإيثار.
كل هذه القيم النبيلة عمل الأستاذ فتح الله كولن على إحيائها في أوساط المهنيين ودفعهم إلى تنظيم أنفسهم، ولعل أهم شيء يميز هذه القطاعات المهنية وأهم إضافة ميزت الخدمة هي تمكنها من امتصاص كل الاختلافات الفكرية والأيديولوجية والمذهبية والدينية في مجتمع حمل السلاح وأراق الدم من أجل اختلافاته وحزبيته سنين طويلة.
لقد نجحت حركة الخدمة في أن توحّد المجتمع التركي حول الجوانب المشتركة، وأن تقيم جوا من التعاون والتكامل بين جميع فئات المجتمع.
Leave a Reply