يعالج “علم اجتماع العلوم” “الجماعات العلمية” باعتبارها مجتمعات بشرية، ويمارس في تحليلها نظريات علم الاجتماع؛ ولعلَّ كتاب “ميشال دوبوَا”، المعنون بـ”مدخل إلى علم اجتماع العلوم” يُعدُّ مثالا حيا لهذا الحقل المعرفيِّ الخصب.

ولو أنَّ باحثا متخصِّصا أراد دراسة “الأكاديميا” باعتبارها “جماعة علمية”، معتمدًا مناهج هذا العلم في صورتها الكلاسيكية، لوقع في مفارقات لا حدَّ لها، ولاختلطت عليه المفاهيم قبل المناهج؛ وما ذلك إلاَّ للهوَّة التي تفرُق بين الجماعات العلمية “بمنظورها الغربي”، و”الأكاديميا” التي لا تخضع بالضرورة إلى هذا المنظور؛ والفرق لا يكمن في البعد النفسيِّ والاجتماعيِّ فقط، لكنَّه يتجاوز إلى الأبعاد المعرفية الإبستمولوجية، والقيمية المعيارية، بالخصوص… أي إنَّ نقطة الاختلاف ترتكز على جوهر الظاهرة وأساسها، لا على مجرَّد مظهرها وشكلها…

أروع عنوان لهذه الجماعة العلمية المختلفة، هو نفسه عنوانٌ لمقالٍ نشر في مجلة “حراء”، بقلم الأستاذ فتح الله، بعنوان: “حركة نماذجها من ذاتها”.

ثم إنَّ الميزة البارزة لهذا المثال البديع تتجلَّى من وصف الأستاذ في قوله: “مَن يدري! فقد يتحقَّق في المستقبل القريب، بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء، تأسيسُ الصلح بين العقل والقلب مرَّة أخرى.. فيكون كلٌّ من الوجدان والمنطق أحدهما بُعدًا مختلفًا للآخَر، وتوضع نهاية للنزاع بين ما هو مادّيٌّ وما هو ميتافيزيقيٌّ، حيث ينسحب كلٌّ منهما لساحته، ويجري كلُّ شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه”.

قد يعترض معترض بقوله: “إنما يصف الأستاذ هنا تلك الفئة القليلة التي “ملك الحبُّ قلبها”، فقرَّرت “أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب، وإلى أرجاء الأرض جميعًا” مهاجِرةً مجاهدةً، لا تلوي على أحد.

لكني أستدرك، وأقول: “هذا الوصف بعينه يليق بجنود “الأكاديميا” وقادتِها، كما يليق بأولئك المهاجرين المجاهِدين؛ فهؤلاء مهاجرون معنويًّا، وهم يبتغون نيل رضوان الله تعالى، ثم هم مسافرون في الآفاق عبر العالم، بفكرهم وجهدهم وأثرهم، حتى وإن بدت أجسامهم مستقرَّة في مكانها”.

إذن، لا سبيل للاعتراض هاهنا…

*       *       *

مِن شرفة مكتبي بالأكاديميا، الطابقُ الثالث، أطلُّ على مسجد عثمانيِّ اللمسات، بمئذنته الشامخة؛ ومن بعيد… عبر غابات “شَامْلِيجا” الصنوبرية، أسرح بالعين في سفوح “البوسفور” البلَّورية، وأتأمَّل بهدوء حركة الناس على جسر معلَّق جميل… جسرٍ يحمل الأجسام ويحمل الأحلام، يعبره العابرون: بعضُهم يتجرَّع الآلام، وآخرون يكادون يطوون الأرض بالآمال…

هذه الإطلالة، وهذا التأمُّل، طوَّر فيَّ فكرة “الرصد”، التي كانت -فيما يبدو- بذرة لـ”نموذج المنطاد”، إذ للعلوِّ المكانيّ أثر وأيُّ أثر… ودليلُ ذلك أني التزمتُ، من هذا “المرصد المعرفيِّ”، كتابةَ خاطرة مكثَّفة كلَّ أسبوع، بعنوان “نسمات البوسفور”، لتُنشر كلَّ ليلة جمعة في موقع “فييكوس”… ولا أدري هل بلَّغت المقصود، أم أنها تستمدُّ العجزَ من عجزي، وتصطبغ بصبغة ضعفي؟!

ثم آية ذلكم الاكتشاف، أنَّ القلب استجاب لتجليات الجمال، وأنَّ العقل لمس عرف الجلال؛ فخطَّت الأنامل محاولات فكريةً معرفية، تلامس من طرفٍ خفي الأدب، ولا تدَّعي أنها أدبية… من ذلك يُذكر: “معلِّمتي… ورقة الخريف”، و”زخَّات الثلج الأولى”، و”رسالة إلى الريح الصقيع”، “وحبيبتي اللالة”… وغيرها كثير.

من هذا المكتب المعلَّق، بنظرة معرفية عقلية ووجدانية، أرصد “الأكاديميا”، نموذجا ومثالا لما قد يسمّيه البعض “مركزَ تفكير”، ويسمِّيه آخرون “الجامعة البحثية”، ويقول البعض عنه إنّه “جماعة علمية”… تتعدَّد الأسماء وتتلوَّن، والمسمَّى هو عينُه، إنَّه “الأكاديميا”، كما هي عليه، على حقيقتها… لمن يعشَق الحقيقة على علاتها، يتشرَّبها بقلبه ووجدانه، ويعانقها بعقله وفكره.

1-الوادي المقدَّس

أحسب أنَّ نزع الحذاء في مدخل “الأكاديميا” يحمل دلالة فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي(طه:12-14).

لا أعرف مصدرا واحدا عالج مراكز البحث العلميِّ، بل وحتى الجامعات، اليومَ، بصيغتها المعاصرة، باعتبارها “واديا مقدَّسا”… إذ إنَّ خلع الحذاء، مثل التجرُّد من اللباس المخيط والمحيط في الحجِّ، يشير إلى ضرورة إظهار الخشوع والتواضع، ويدعو إلى إلغاء مظاهر الفروق والرتب، شكلا ومعنى… فـ”خلْع النعل” هنا، في الأكاديميا، عنوان التجرُّد من الارتباطات والعلاقات الأرضية، وشعارُ التنصل من الأوساخ والمتعلقات الدونية، ماديا ومعنويا؛ ليكون المرء مؤهَّلا لاستقبال نور السماء، نورِ الوحي… أمَّا مَن بقي عالقا بقاذوراته الدنيَّة، ملطَّخا بآثامه وذنوبه، فإنه لن يكون أبدا أهلا للمعرفة والعلم النافع، ولا سهلا للعرفان والعمل الصالح… فأبلغ وصف له، قوله تعالى: أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ(الأَعْرَاف:176).

*       *       *

العلم، بعد “عصر التنوير”، بالمصطلح المألوف “المتحيِّز” جدًّا، مرادفٌ لإنكار الدين، وثورةٌ على كلِّ دين؛ كما كان الدينُ، يوم انحرفت به القساوسة، عدوًّا للعقل والفكر، مناهضا للعلم والمعرفة… أمَّا هنا، في الأكاديميا، فإنَّ المياه تعود إلى مجاريها من جديد، بتوجيه من المرشد الخرِّيت، الأستاذ فتح الله كولن، في قوله: “إننا نراجع مختلف العلوم ونشرح ديننا بواسطتها؛ لأنَّ عقل الإنسانية الآن مرتبط بها. وأعداء الدين من أصحاب الفكر الماديِّ يحاولون استعمال العلم وسيلةً للإلحاد والإنكار.. لذا فنحن مضطُّرون لاستعمال السلاح نفسه لإزالة الأوهام والشبهات التي تجول في أذهان البعض من المخدوعين، وإثبات أنَّ العلم لا يناقض ولا يعادي الدين. وبعبارة أخرى فعلى عكس قيام المادّيين من أمثال “ماركس” و”أنجلز” و”لِينِين” بتقييم العلم وجعله واسطة للإنكار والإلحاد، فقد وجب علينا أن نستعمل العلم أداةَ إثبات وبرهنة على صحة الدين”.

ومنهج “الوادي المقدس” يوجب -شرعا وفقها- أن يكون العلمُ لأجل الوصول إلى اليقين في الله تعالى، وأن يكون اليقين محفِّزا شاحذا للهمَّة السامقة، مِن أجل اكتساب العلم النافع؛ في تداول حلزوني لثلاثية (العلم-اليقين-العمل)، وهذا مؤدَّى قوله سبحانه، في الآية آنفة الذكر: إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي(طه:14)… أي هو منهج الشهادة والإشهاد…

ثم تأتي العبادات، في سياق الآية، بمعنى الشعائر: مِن إقامة الصلاة إلى غيرها، مما عرف بالعبادات في المصادر، لتكون ثمرة للتوحيد وللعلم، عكسَ ما يذهب كثير من الناس في تصرفاتهم، حين يعبدون ويقيمون شعائرهم، من صلاةٍ وزكاة، وصيام وحج… عادة وتقليدًا، لا إيمانا وإدراكا وفهما ويقينا، فتضيع العباداتُ من بين أيديهم، ويضيع المعنى من ثنايا فهرستهم…

إننا، هنا، لا ندافع عن العلم الرسميِّ الأكاديميِّ، ولا نكلِّف الناس ما لا يستطيعون… وإنما نعني بالعلم دلالتَه الشمولية، أي العلم القلبي الفطريَّ الفكريَّ، الموصل إلى معرفة الحقِّ حقَّ المعرفة.

ناهيك عمَّن يحتقر العلم، ويُدني من مقامه، تحت مسمَّى “الدين والورع”، فيخفض ما رفع الله، ويُشقي الناس وهو يظنُّ أنه يسعدهم… وما ذاك بالمسلك السديد، وأيم الله.

أكاد أجزم أنَّ في ربوع “الأكاديميا” عقولاً كغيرها في مختلف المراكز عبر العالم، بل لعلَّ الكثير من المراكز العالمية، لأسباب معنوية أو مادية أو سياسية، تأوي عقولاً جبَّارة، وتصطاد علماء أفذاذًا، مِن مختلف بقاع العالم، وهو ما لم يتسنَّ -بعدُ- للأكاديميا، إلى حدِّ اليوم، أو لعلَّ المنظِّرين لها فضَّلوا منهج “الفسيلة” رغم ما يحمله من أعباء، على منهج استيراد “الشجر” أو “الثمر”، مع ما فيه من نتائج آنية، واضحة للعيان، لمن أراد الاستعجال، وآثر الطبخة الفورية.

فالفرق إذن بين الأكاديميا وغيرها من مراكز البحث لا يكمن في نوعية العقول؛ وإنما تصنعه أسبابٌ أخرى، خارج الأسباب المادية الكمية، وهي:

  • غاية العلم، أي الإيمان بالله، وابتغاء رضوانه.
  • الخلُق النادر المثال… بما قد نسميه: “الخلق الأحمدي”.
  • الانسياب والسلاسة، في حركية الجماعة.
  • مفهوم الهجرة، الصابغ لكلِّ فكر وفعل.
  • رهافة الحس، والذوق الفني.

أنا اليوم محلِّل للظاهرة من داخلها، ولا يعنيني في شيء أن يوصف هذا الإجراء بالذاتية أو الموضوعية؛ لكن الذي يهمُّني هو أن أكون “صادقا” أو “غير صادق”، ومن هنا أجد الدليل، والحكم، والعلم… وكلَّ ما يمتُّ إلى ذلك من سياق، مثل النظريات، والعلوم، والتخصصات… لا يستقيم بما عُرف عند الوضعيين معيارا للتمييز، من أنه “التصديق”، ولا حتى بما أبدع فيه “كارل بوبر” من كونه “القابلية للتفنيد”؛ وإنما معيار التمييز من خلال هذا البحث أو غيره، هو “الصدق”، وهو “القابلية للصدق”… وليس “التصديق”؛ فشتان بين الصدق الذي هو معيارٌ قيميٌّ، من مصدر “فوق بشري” مطلقٍ، غير نسبي، خالد خلود الحقيقة؛ وبين التصديق الذي يخضع لمسارات منهجية بشرية منطقية، أو حتى خلُقية نفسية اعتبارية.

الصدق معيارٌ من صياغة الوحي، الذي ينكره العلم الوضعيُّ ابتداء، أمَّا المنظومة الإسلامية فتتخذه مرجعا لكلِّ فكر وفعل، قال تعالى واصفا نبيه الكريم: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ(الزُّمَر:33).

2-الخلُق النادر المثال (الخلق الأحمدي)

يأتي في المقام الثاني، بعد التوحيد والإيمان، في أسباب إدارة الجماعات العلمية، ما يُعرف بالخلق أو الأخلاق، بما في ذلك “الأخلاق المدنية”؛ لكن شريطة أن تكون ظلاًّ “للأخلاق الكلية”، وأن يكونا كلاهما تمثلا “للغاية” وإنزالا لها على أرض الواقع، بمبدأ “تمثُّل أسماء الله الحسنى وصفاته العليا”، وبمؤدى: «تخلَّقوا بأخلاق الله».

كلُّ من يدخل “الأكاديميا”، ضيفًا كان أم باحثا، أم موظَّفا، يجد نفسه مع حواريين نفَوا ذواتهم، ودفنوا أنانياتهم، فهم بمدلول “الخدمة”، يخدمون وهم مبتسمون، لا تغادرُ الكلمة الطيبة لحظةً شفاههم، فيستحيل أن تصادف أحدَهم غاضبا أو ناقما أو عبوسا؛ وهم إنما يأتون ما يأتون لا لمصلحةٍ، ولا بمقتضى الوظيف ومستلزمات فنِّ الإدارة، أو سلْفًا لأحدٍ حتى يعيده بعد حين، أو تكلُّفا، والله لا يحب المتكلِّفين؛ وإنما هذه الخلال سجيَّةٌ فيهم؛ هي طبعٌ قد جاوز حدَّ التطبُّع. ومِن ثمَّ، ولست في هذا السياق أصف وأشرح أخلاقَ هؤلاء، وإنما أحاول ربط بُعدها بفنِّ ممارسة “الجماعة العلمية”… مِن ثمَّ، يجد هذا المرتاد “للأكاديميا” صفاءً على “صفحة قلبِه”، فتتوفَّز سريرته للتفكير السليم، ويزول كلُّ انقباض نفسيٍّ منه، ليحلَّ محلَّه الانشراح والانبساط، فتأتي أفكاره، وقراءاته، وكتاباته… انعكاسا لمرآة قلبه، وظلا لحقيقة روحه.

وأحسب أنَّ هذا الجانب الأخلاقيَّ الخطير، وهذه العلاقة القيميَّة العميقة، بين شفافية القلب ونتاج العقل، مِن معرفةٍ وعلمٍ، أحسب أنَّ القرآن الكريم قد عالجه، ودفع إلى التبحُّر فيه، في آيات عديدة، منها قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ(البَقَرَة:282)، وقوله: كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(فَاطِر:28)… فهي إذن علاقة متكافئة، ثنائية الاتجاه بين العلم والتقوى، شريطة أن لا يُقصر العلم في جانبه التجريبي الماديِّ فقط، وأن لا تُحصر التقوى في الشعائر وكفى؛ بهذا يكون العلم سببًا للتقوى والخشيةِ من الله، ويكون الإيمان والتقوى بابًا للعلم؛ في حركة مباركة ولود.

ولقد نبه علماء التصوُّف إلى مثل هذه العلاقة، وأبدعوا في ذلك أيما إبداع، لكنَّ البعض منهم راح بعد ذلك يقصر العلم في ذات التقوى والإيمان، ويلغي كلَّ علم آخر، ماديٍّ كان أم حضاريٍّ، فضيَّع الفرصة على الأمَّة لاكتشاف سرٍّ لا تزال البشرية تفتقده إلى اليوم؛ غير أنَّ ما كان عليه علماء فطاحل أمثال “ابن سينا، والفارابي، والرازي، والجزري…”، أظنه مِن هذا المقام السامق، لو أنَّ تاريخ العلوم، ونظرية المعرفة، والرؤية الكونية… لقيت منا البحث والتحليل الذاتي اللائق.

3-الانسياب والسلاسة

أمَّا السبب الثالث الذي يميز “الأكاديميا” عن غيرها من “التجمعات العلمية” التقليدية، فهو وثيق الصلة بالعمل الجماعي، وبفنِّ إدارة الجماعات، والذي تم تطويره -في هذا العصر- بمقاربتين اثنتين، هما:

  • المقاربة الغربية-الأمريكية.
  • المقاربة الشرقية-اليابانية.

ولكلِّ مقاربة خاصيتُها ومنطلقاتها، وأساليبها وآلياتها، ومناهجها وطرقها… ولقد أسهبت البحوث والدراسات في تحليل المقاربتين تحليلا عميقا، وقامت بحوثٌ أخرى بالمقارنة بينهما، لعلَّ عالم الاجتماع الأمريكي “إدوارد هول” في كتابيه “رقصة الحياة، زمن معاش زمن ثقافي”، و”اللغة الصامتة”، وكذا في كتبه الأخرى، قد لامسَ بعمقٍ الفروق بين السياقين والثقافتين بالخصوص.

أمَّا في الفكر الإسلامي المعاصر، فثمة انفصام وانفصال، بين النظر والفعل:

فمن جهةٍ نطالع ما يؤلَّف في تفسير معاني “الوحدة”، و”التنازع”، و”الاختلاف”، و”البنيان المرصوص”، و”السفينة”… ونقرأ الآيات والأحاديث، والنصوص الواردة في معنى “الجماعة”، و”الأمة”، حتى ما كان منها بمقاربة فقهية أو أصولية، مما عرف “بالاجتهاد الجماعي”…

ومِن جهة أخرى، نشهد ممارسات ثقافية وسياسية تكتيكية، لا تمتُّ بصلة إلى الجذور المعرفية، ولا إلى “فقه الجماعة” باعتباره منطلقا معرفيا، إسلاميا، قرآنيا، بشريا… أي أنه توجيهٌ، ورسمُ خريطةٍ، لكلِّ تجمُّع بشري، سواء أكان ذلكم التجمع علميًّا أم وظيفيًّا أم اجتماعيًّا، مهما كان نوعه، ومهما كانت صفته… الثابت الوحيد، إذن، هو أنَّ القطيعة في واقعنا المترنِّح مستحكمة قاهرة.

“الأكاديميا”، من خلال فكر الأستاذ فتح الله ورؤاه التجديدية، هي رسم وصورة وتمثُّل “للطابق الخامس”، الذي رعاه على عينه وبعنايته، ولا يزال، حتى إنه غيَّر المكان، وتغيَّرت الحال، وتبدلت الظروف، إلاَّ أنَّه لم يترك الدرس يومًا، ولم يغب عن التفقيه ساعة.

ولقد صاغ الأستاذ مفاهيم “الجماعة العلمية” ضمن مسيرة “الطابق الخامس”، وأوضح منطلقاتها، وحدَّد أبعادها، وخطَّط أهدافها وغاياتها… فجاءت تلكم “الجماعة العلمية”، من منظور “حركية الجماعة”، ذات خاصية سلسةٍ منسابةٍ، لا اهتزاز فيها، فلا هي من نوع “التنظيم الإدراي، العلميِّ، الجافِّ”، أي المؤسَّس على “نمطٍ تعاقديٍّ” صارم؛ ولا هي من طينة “الجمعية، والاجتماع، الشرقيِّ، المفتوحِ، والمتسامح، والمتحرك على وقع الاعتبارات، أي المؤسَّس على “نمط تراحميٍّ” فضفاض؛ وإنما هو نمط آخر، صغتُ له عنوانا، في مقال كتبتُه، وهو: “نمط الثالث الموضوع”.

فمِن حيث سلَّم الوظائف والمسؤوليات، وتقسيم المهام والمهمَّات، ومن حيث فعالية نظام المعلومات، ومن حيث اعتماد التكوين الميدانيِّ التطبيقيِّ المستمرِّ آليةً للتطوير وشحذِ المهارات… ثم، من منظور الضبط والانضباط، والوضوح، والدقة، والمحاسبة، وتحمُّل المسؤولية دون أيِّ اعتبار… وكذا، بالنظر إلى نظام المكان والزمان، واحترام الخبرة والتخصُّص، واعتبار الملكات والدرَجات، وإصدار الأمر وقبوله (أدب الائتمار)… من جميع هذه الاعتبارات التعاقدية ظاهرًا، تبرز “الأكاديميا” معلَمًا، يليق بها أن تكون نموذجا ومثالا.

أمَّا من حيث تقوى الله وخشيته، والمرونة والاحترام، والتفاني والتضحية، والقول الطيب، والفعل الحسن… أي من جهة أعمال القلوب: من حبٍّ، ونصح، ورقة، وشفقة، وعطف، وتعاون، وسماحة… وكلِّ ما يجمل وصفه من خلق حسن، وفعل صالح… من هذه الجهة، “الأكاديميا” هي ربيعه وورده، وهي سنامه وذروته… فكلمات مثل “أستاذي”، و”آبي”… ثم التحية الحيية، والابتسامة الصادقة، والنافعية، والخدمة اللامتناهية… كلُّ ذلك يأسر القلب، فيغمره بالحبِّ والأريحية… ليكون للعلم مطارا وميناء… فيأتي على إثره الحرفُ والكلمة، والعبارة والفكرة… شفَّافةً، هفهافة، نورانية، ملائكية…

لا شكَّ أنَّ هذه الخاصية مستقاة من القرآن الكريم، ومن المنهج النبويِّ الشريف، رائدها ومبدعها وجامع أسبابها جمعا مطلقا، هو سيد الوجود، ونور الكائنات، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة، وأزكى السلام… الذي يقول عنه رب الجلال والإكرام: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(القَلَم:4)، ثم يقول: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(آلِ عِمْرَان:159).

ولا بدَّ لعلم الأخلاق في الفكر الإسلامي المعاصِر أن يتقدَّم خطوة، من حيث التفسير والتأويل والتنزيل، وذلك بالتبحُّر في عوالم العلم والمعرفة… تنظيريًّا، وعمليًّا، وفنيًّا، وتقنيًّا، وتطبيقيًّا… لا بمجرَّد تأليف كتبٍ سردية، وصْفية، عارضة للمحاسن… فالبشرية اليومَ ظامئة، ومَن يملك الماء أحيانا، يضِنُّ به، أو يحمله بين جنبه وهو لا يدري قدره وقيمته… فيموت عطشًا، ويموت الخلق جراءه جهلا وضلالة.

4-مفهوم الهجرة، صبغة الأكاديميا

شحذتُ همَّتي، واستفرغت وسعي، متسائلا، باحثا عن الصبغة التي لا تخطئ أحدا في الأكاديميا؛ ولقد كانت “الخدمة” هي الصبغة الظاهرة الماثلة للعيان والمعلَنة في المحافل والزيارات؛ غير أني لم أستسلم للاختزال، ولم أشأ أن أردِّد نفس ما يتكرَّر، لا لكونه خطأ، لكن لاعتقادي أنَّ لكلِّ نتيجة سببًا، وأنَّ لكلِّ سبب أسبابًا… إلى أن تنتهي عند مسبِّب الأسباب Y بلا شريك، عند الحقِّ عزَّ شأنه وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ(هُود:123).

واصلتُ التنقيب عن صبغة قد تكون بذات العمق، فتبدَّت لي ثلاثة مصطلحات: “الإيمان، والجهاد، والهجرة”، ومن حسن المخرج أني قرأت نصًّا للأستاذ فتح الله بعنوان “الرحلة المباركة”، يقول فيه: “وعادةً ما يتمُّ ذكر ثلاثية الإيمان والهجرة والجهاد باعتبارها أركانا مختلفة لحقيقة واحدة”، وبالخصوص في القرآن الكريم، في مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ(الأَنْفَال:72).

فرأيت الاقتصار على وجه واحد من وجوه هذه الحقيقة الناصعة الناصحة، يكون عنوانا للأوجه الأخرى، ولقد تيقنت من مدخل “نظرية المعرفة” أنَّ الهجرة هي الباب والمدخل اللائق، الشامل، الدقيق، لمثل مقامنا هذا…

فعند فرسان “الأكاديميا”، كما لدى شباب “الخدمة” عبرَ العالم، خطُّ “الهجرة”، وإيقاع الهجرة، يَسِم الجميع، ويرسم حضوره في جميع الحركات والسكنات، فالكلُّ مهاجر، والجميع معتقد ذلك، ليس هذا من قبيل المبالغة؛ إذ المبالغة نوعٌ من الكذب والتزييف، ولا هو من قبيل المدح؛ لأنَّ المادح ممقوت؛ وإنما هي حقيقة أشاهدها وأشهدها صباح مساء، عيانا.

قد يسأل سائل، وحقَّ له أن يسأل: “ما هو دليلك؟”

أقول، والله أعلم: دليلي، أنَّ الأستاذ فتح الله في بيان معنى الهجرة، ضمن مقال بعنوان “الطرق”، يقول: “الذين يخوضون هذا الطريق بعشق وشوق، والذين يسيرون وراء دليلهم، تصبح الجبال لهم قيعانا، ويصير الحزَن لهم سهلا”، إلى أن يقول عنهم: “ولا يمكن الحديثُ عن تعثُّرهم في الطريق، وكفِّهم عن السير، والنكوص على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء”.

أمَّا الخلاصة في بيان صفة هؤلاء المهاجرين الأفذاذ، أنهم: “يسيرون من الخَلْق إلى الحقِّ، ولا يَحِيدون”.

لو كتب الله تعالى لأحدٍ أن يسعد -كما سعدتُ- بأيام في حرم “الأكاديميا”، فإنَّ النوتة والإيقاع الذي سيغمره دومًا، هو السير الحثيث، والهرولة الدائبة “من الخَلْق إلى الحقِّ”، ثم العودةُ الصادقة، والأوبة الأبيَّة “من الحقِّ إلى الخلق”… سيرٌ وهرولة، ثم عودةٌ وأوبة، كحال الحاجِّ ساعيًّا بين الصفا والمروة، متعلِّقا بالحقِّ ذهابا وإيابا، قاصدا نفع الخلق غدوًّا ورواحًا… القلبُ منه متعلِّق بالحقِّ لا يحيد، وهو يحمل همَّ الخلق بنبض لا يبيد.

أمَّا عن العمل الجاد، بشوق وعشق، فلا يمكن حصرُ أمثلته ومظاهره، ولا أدلَّ على ذلك، من أنَّ الواحد من مهاجري هذا الصرح العلميِّ، تجده لا يفرِّق بين ليل ونهار، ولا بين حرٍّ وقرٍّ، فهم يصلون أوقاتهم وأحوالهم بنبض العمل والاجتهاد، صابرين محتسبين، فلا تسمع من أحدهم “أفًّا” ولا “آهًا”، ولا “ليت” ولا “لو”… فلا ضجر، ولا اعتراض، وإنما هي الطمأنينة والهدوء، تغمرهم السعادة وهم يعرَقون، وتجمِّلهم المودَّة وهم ينصَبون.

أمَّا عن “السير وراء الدليل”، فهؤلاء يضربون للبشرية، لا للمسلمين الآخرين فقط، أروعَ مثال، وأنصع مقال… إذ هم لا يفتقدون هذا الدليل الخرِّيت، الذي يتبدَّى في الشخصية المعنوية للخدمة، يضبط سمفونيته قائد ومرشد كبير، هو الأستاذ فتح الله كولن… بتخطيط منه، وتوجيه، ومراجعة، وملاحظة… يتلقَّفون كلَّ ذلك بصدور رحبة، وسواعد غير مفلولة… منصاعون هيِّنون، منقادون ليِّنون… لكن ليس في نمطية قاتلة، ولا إذابةٍ للذات وللخصوصية، بلا وعيٍ… ذلك أنَّ منهج الأستاذ، أساسًا، يثور على “التقليد”، ويحارب “القوالب الجاهزة”، ويمقت “التنظيمات الهرمية الكلاسيكية”… دافعا إلى المبادرة، والخصوصية، والذاتية… ويكاد لا يخلو مقال أو كتاب للأستاذ من التأكيد على هذا المنحى السليم.

ولقد ضرب فتح الله أروع مثال للهجرة، بهجرته، هو، إلى أمريكا؛ ومع ذلك نمت مشاريع “الخدمة”، ولم تنقطع، رغم غيابه المكانيِّ المباشر؛ إذ إنه حاضرٌ بعقله وقلبه ووجدانه. فهذه الصورة، وهذه التجربة نادرة المثال في فنِّ القيادة والإدارة المعاصرة، مشرقًا ومغربًا؛ وهي جديرة بتسليط الضوء، والبحث الحثيث، لاستجلاء أسرارها، وكشف أبعادها. والحقُّ أنَّها تجربة قيادية مثالية، مستوحاة من سيرة نور الخلق محمَّد r، ومن آثار صحابته الأفذاذ الكرام، عليهم أفضل الصلاة، وأزكى السلام.

وإنا لنعجب من تناغم جميع أفراد “الأكاديميا”، بلا أيِّ خلل، ولا أيِّ حقد أو حنق أو مَوجدةٍ، مما قد تشهده الجماعات العلمية النمطية؛ ذلك أنَّ القلوب لانت، قبل أن تنشُط العقول… ولقد ورد وصف هذا الفنِّ من فنون الهجرة، في كتاب “العصر والجيل”، في مقال بعنوان “الهجرة النبوية”، ومما جاء في مستهلِّه: “الهجرة رحلةٌ لغاية مقدَّسة ولهدف جليلٍ وكبير… ومثل هذه الهجرة ترمي إلى تحقيق مثل هذا الهدف بمدٍّ وتقوية من العقيدة والعاطفة والفكر، وتغذية وعون منه. وبمقدار درجة الإخلاص في هذه الهجرة وعمقها، تكون مساوية ومعادلة لسياحة الإنسان في السماء”.

الغايةُ المقدَّسة والهدف الجليل الكبير، والعقيدة والعاطفة والفكر، ثم درجة الإخلاص وعمقُه… هي عناوين أنشودة الهجرة في “الأكاديميا” خصوصا، والخدمة عموما.

ولو صدق العزم، وصفَا الفهم، لاجتهد روَّاد الأمَّة في غرس هذه المعاني الجليلة، وبذر تلكم القيم النبيلة، في جميع المؤسَّسات والتجمُّعات، وبالأخص في مؤسَّسات التربية والتعليم، بكلِّ مستوياتها، لكونها مشتلة الأمَّة، ومنبع حضارتها… وإلاَّ، فلو بقيت البرامج والمخطَّطات، آلاف السنين، تعالج الشكلَ، وتزيد في الرقم، وتحتفي بالعدد… تغيِّر المدير بالمدير، وتبدِّل الوزير بالوزير… ثم هي مع ذلك، تقدِّم الاعتبارات الجهوية، والمصلحية، والطائفية، على المقاييس العلمية والمعايير البحثية… لو بقيت برامجنا آلاف السنين على هذه الشاكلة، ولم تواجه الحقيقة كما هي.. أو حتى لو عمدت إلى استيراد نماذج غربية بحذافيرها؛ فإنَّ الفشل سيكون رأس مالها، والخيبة ستكون قدرها.

ومما يسجَّل بامتياز في “الأكاديميا”، أنَّ هذه الأبعاد السامية، وتلكم الدلالات الشامخة، لا تمارَس بأساليب خطابية، مدرسية، تلقينية… ولا تظهر في شكل لوائحَ، وبيانات، ومعلَّقات… لكنَّها تسري سريان الماء في الجذور، بشعار “ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتمُّ نتاجه”…

5-رهافة الحسِّ، والذوقُ الفني

تحت عنوان “الفنُّ، المفتاح السحريُّ للحضارة”، وضمن فصل “أسباب الرشد وموانعه”، من كتاب “البراديم كولن”، وردت هذه العبارة: “ولقد شهد شباب الخدمة، وتلاميذ الأستاذ، الملازمون له في خلواته وجلواته، أنه لم يدعُ إلى الجمال والفنِّ بقلمه وحبره فقط، بل عاشه في كلِّ نبرةٍ، ومع كلِّ زفرة، وعند كلِّ نظرة؛ حتى إنَّه غالبا ما أرهقهم برهافة حسِّه، وأورثهم شعورا متوتِّرا تجاه كلِّ كلمة ينطق بها، أو سكتة يسكتها، أو إيماءة يومئها…ولعلَّ هذا القدر الرفيع من الإحساس الفنيِّ والجماليِّ، ومن رهافة الحسِّ والذوق، هو من أبرز الأسباب التي ساهمت في تحويل أفكار الأستاذ إلى واقع، وصاغت مخطَّطاته ومشاريعَه بشكل يعجز القلم عن وصفه، مشاريعُ هي في روحها ربانية إيمانية، وفي ظاهرها فنية، ذات أجود المقاييس العالمية، فلا تعارض بين المخبر والمظهر، إنما هو التكامل والتعاضد والتوازن”.

كتِب هذا النصَّ قبل عامين تقريبا، ولم أكن أعرف أني سأكون يومًا ما منسوبًا إلى إحدى هذه المشاريع، بل إلى “الأكاديميا”؛ ثم لما التحقتُ بها، وعاينتها راصدًا من الداخل، ثم خبرتها متأمِّلا في العمق… بلا أيِّ حاجز أو حائل، ازدادتْ هذه الأوصاف التي سجلتها يومَها ثباتا وصدقا، ولم يتغير منها شيء… ومن عادة الأحكام أنها تكون “متفائلة إيجابية” في البداية، عند أوَّل لقاءٍ، ثم مع الاحتكاك والاختلاط بالمحكوم عليه، تظهر الكوامن، وتطفح النقائص، فتخفُّ سحنة “عين الرضى”، وتقل حدَّة الإيجابية… ليحلَّ محلَّها بعضٌ من الأحكام السلبية المتشائمة، نسبيا على الأقل…

إلاَّ أنني، في حال الأكاديميا -وكذا في حال اللقاء بكلِّ “صادق صدوق”- لم أزدد يومًا بعد يوم، إلاَّ يقينا، وما ازدادت ملاحظاتي حول “الأكاديميا” إلاَّ تأكُّدا؛ لأنني مع نموذج شفَّاف، نابض بالحياة، يُظهر ما يخفي، ويخفي ما يظهر… لا ينمِّق ولا يزوِّق، ولا يصبغ الوجوه بالمساحيق، لأجل زيارة فلان أو علاَّن… نموذجٍ يعيش القضيَّة دوما، في كلِّ الظروف، برهافة حسٍّ، وذوق فنيٍّ رفيع… مخافةُ الله غايته ومنتهاه، لا “المكافآت”، و”حساب الرتبة”، أو الطمع في “أجرة زائدة”…

نعم، حسنُ “الأكاديميا” يُسبيك من موقعه الجغرافيِّ ابتداء، وهي قابع كالعريس على تلَّة من تلال “شَامْلجَا” الفيحاء، المطلَّة على مناظر كأنها لوحات فنّية، أو لقطات ذرِّية من جمال جنَّة الفردوس: يبدو البوسفور من بعيد، دونه تلال وسهول، خضراء ربيعا، بيضاء شتاء، وهي بين ذلك خريفا وصيفا.

وبناية “الأكاديميا” متلاحمة مع “مسجد عثمانيِّ الملامح”، وإلى جواره “إقامة للطلبة”… فالصروح الثلاثة منسَّقة في مخطَّط هندسي بديع، من تمام حسنه أنه مصبوغ بصبغة الجمال الذاتي العبِق بريح التاريخ، والمضمَّخ بالذات الحضارية للأمَّة؛ رغم أنه جمال “حضاريٌّ مدني” إلا أنه أصيلٌ غير مجلوب، خلافا لما أنشد المتنبي:

حسن الحضارة مجلوبٌ بتطرية

وفي البداوة حسن غيرُ مجلوب

 

التجاور والمجاورة بين هذه المؤسَّسات الثلاثة ليس اعتباطا، ولا هو محضُ صدفة؛ وإنما تذكِّركَ أنَّ الواحدة منها امتدادٌ للأخرى، فلا فصل ولا انفصال، بل تعانقٌ ووصال… لكأنَّ “التربية، والصلاة، والبحث العلميَّ” أركان لزهرة واحدة، هي زهرة “لالي، أو “التوليب”، رمز الأحدية والعشق الإلهي.

كم من مركزٍ للبحث، وكم من جامعة، أسِّست من منظورِ أيديولوجيات زائفة، وفهومٍ سقيمة حائفة، معتبرة مجاوَرة المسجد، أو إيواء مسجدٍ محترم، هو من قبيل التنقيص والمنقصة للبحث العلميِّ، وهو من نوع التنكُّر لحيادية العلم! وقُل مثل ذلك عن مساجد كبرى، أقصت البحث العلميَّ مِن حرمها، إلاَّ أن تكون معاهد “دينية” بالمعنى الضيِّق للدين… وآفةُ الكلِّ من الانفصام المقيت، والتفسُّخ المميت.

أمَّا داخل الأكاديميا، فتتوزَّع قاعاتٌ للباحثين، ومكتبة، وقاعات للبحث الجماعيِّ والمطالعة الموجَّهة، وأخرى للمحاضرات والمناسبات واستقبال الضيوف… وقاعة كبرى للصلاة، تعلو العمارة تاجًا على رأسها… كذا، مطعمٌ، ومؤسَّسة محترفة لخدمات الشاي والقهوة، وتوابعهما… للضيوف الزائرين، وللباحثين المقيمين.

كلُّ شيء داخل “الأكاديميا” في مكانه، منسَّق ومرتَّب بأدب ورهافة، لوحةً فنية عجيبة، وصورة ذوقية خلاَّبة؛ لا تلحظ اضطرابا، ولا وسخا، ولا تجاوزا للحد، ولا تصرفات انتهازية…

الصور الجميلة لإصدارات “مجموعة قَيْنَق”، بعشرات اللغات العالمية، واللوحات الزيتية الأصيلة الأصلية، من صلب التراث الإسلامي الثر… وغيرها من مظاهر الجمال والجلال… تُغريك، وتحضنك، وتذكِّرك أنَّ ديننا الحنيف يفوق كلَّ وصف، ويتحدى كلَّ تهمة، من الأوصاف والتهم التي تكال له ظلما وجورا… فالخلل إنما يسري إلى الأمَّة من جهتنا نحن، أي من جهة الأتباع، وذلك حين ينحرف فيهم جانب على حساب آخر… وحين يخطئون التقدير، ويسيئون التدبير…

لو أنَّ إدارة “الأكاديميا” تعاملت مع فكر الأستاذ بالأسلوب المعتاد، لنقلت نصوصا عن الفنِّ ورهافة الحسِّ، من أدبياته؛ ولجمَّلتها ونسَّقتْها وزيَّنتْ بها الجدران… غير أنَّ رجالها لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإنما نقشوا معاني فكر الأستاذ على سفوح قلوبهم الخصبة، فتحوَّلوا هُم، بكلِّ خصائصهم وتصرُّفاتهم، وحركاتهم وسكناتهم، وكلماتهم وعباراتهم… تحوَّلوا إلى عناوين لذلك الفكر النيّر، فالتقى الفكر بالفعل، وأثمر ربيعُ العلم النافع ثمراتٍ من العمل الصالح الطيب… ذلك أنَّ جمالية الخلق، وفنَّ القلب، يسموان على كلِّ جمال وفنٍّ، مهما كان مظهرُه وشكله ومؤدَّاه…

ومن تلكم العبارات التي لا يخطئها الفؤاد في تراث الأستاذ، وهو يزَع الناس وزعا إلى الذوق الجماليِّ ورهافة الحس، نقرأ قوله تمثيلا لا حصرًا:

“• الفنُّ من أهمِّ الطرق المؤدِّية إلى سمو الروح والمشاعر.

  • الفنُّ مثل مفتاح سحريٍّ، يفتح الكنوز السرية المكتشفة؛ فوراء الأبواب التي يفتحها تكتسي الأفكار صورها، وتكتسب الخيالات أجسامها.
  • يُظهر العلم الحقيق نفسه بالفنِّ…”.

ألا نلاحظ أنَّ العلاقة وثيقة متنية بين “الفنِّ”، و”سمو الروح والمشاعر”، و”الأفكار”، و”الخيالات”، و”العلم”… هذه العلاقة ليست لمجرَّد التبجُّح النظريِّ، أو التزويق الأدبيّ، وإنما هي واضحة وضوح الشمس في ذهن فتح الله، وهي علاقة قد لا تكون مكتملة في الواقع، من خلال “الأكاديميا” الحالية، وإنما الأمر “في بدايات الطريق”، وفي “مرحلة الجذور”، أي بتعبير القائمين على “الأكاديميا”: “نحن لم نستطع أن نحقق جزء من مليون جزء من أحلام الأستاذ”… يقول أحدهم.

وما من ريب، أنّه بعد الجذور تأتي السيقان، ثم الأغصان والأوراق، ثم الثمر اليانعة الطيبة… ويومها يحلُّ الربيع، وتشرق على العالم شمس من شموس الإسلام الخالص؛ ذلك أنَّ محاسن هذا الفكر، ومباهج هذه “الجماعة العلمية”، ومفاتن هذه “الأكاديميا”… إنما هي، بتعبير الأستاذ، من محاسن الإسلام، ومباهجه، ومفاتنه… لا من ذات الأفكار والمؤسَّسات والمشاريع… وحاشا أن تنسب الأسباب الذاتية، والنتائج المرضية، إلى البشر، مهما بلغوا، ومهما سَمَوا…

من أبرز إشارات “نكران الذات، والمدد الرباني” تيقُّننا أنَّنا “كنا تائهين ضائعين مشرَّدين هنا وهناك، فأدركَنا الله برحمته وأبلغنا بفضله وكرمه مواطنَ من الخير والعطاء يتعذر أن نصل إليها بحولنا وقوتنا” بل “ينبغي أن نقنع أنفسنا أنه ليس لنا يدٌ في حصول هذا الخير العميم. فالنجاح كلُّ النجاح لطفٌ من الله وفضل من لدنه وإحسان. فإذا آمنّا بذلك فقد جنّبنا أنفسَنا شوائبَ الشرك، وأنجيناها من الأوهام التي تظل النفسُ تَضُخّها في دواخلنا لكي تضخِّم أنانيتنا. بل يحسن أن نقول: “في الحقيقة، لو لم أُقحِمْ نفسي في هذا الأمر، لوجد له رجالا خيرا مني في إخلاصهم وصدق تمثيلهم، ولقطعت القافلةُ مسافات واسعة أضعافَ ما قطعتْه حتى اليوم”.

فهرس الكتاب

About The Author

ولد عام 1967م في يزجن بــالــجــزائــر. حـصـل على الماجستير فـي العقيدة والفكر الإسلامي من جامعة الـخـربـة. ثــم حـصـل على الدكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان من جامعة الأمير عبد القادر بالقسنطينة. يعمل حاليا مديًرا لمعهد المناهج للدراسات العليا بالجزائر العاصمة. لـه العديد من الكتب والمؤلفات العلمية والفكرية منها «مـن بنات الأسفار»، «مطارحة معرفية»، «البراديم كولن.. فتح الله كولن ومشروع الخدمة»..

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.